رواية الأمواج تحترق كاملة
الأمواج تحترق
للكاتبة : آن هامبسون
الملخص
الحب كالأمواج لا يمكن أن نخفيه مهما كان القلب عميقاً واسعاً, قادرا ً على الإحتواء كالبحر الكبير ففي النهاية لا بد أن يتدفق حاراً, جارفاً, كالنار
***
هكذا هي قصة شاني التي رفضت أن تكون رهينة حبيب يوناني أرادها زوجة بالقوة, وفي ليلة دخلتها هربت وتوارت عن الأنظار, غادرت بريطانيا الى قبرص حيث قابلت براين, الفتى الانكليزي الذي لا حد لجاذبيته... لكن الدكتور مانو, زوجها اليوناني عاد فظهر بعد خمس سنوات في المستشفى حيث كانت تعمل... ماذا تفعل الآن؟ على أي صدر تتكئ ولا أحد من حولها يعرف أنها متزوجة؟
الفصل الأول
في المستشفى
جاءت مكالمة هاتفية لشاني, وقبل أن تتاح لها الفرصة للرد دخلت الأخت غلوفر الى الغرفة وهمست: -" الرئيسة تريد أن تراك". -" الآن؟". وتحدثت شاني الى براين واعدة أن تتصل به بعد دقائق. -" هل ستقرع أجراس الزفاف قريبًا؟". ولاحت تقطيبة على جفن شاني وقالت: -" ما حان الوقت بعد يا جيني". -" لكنك ستتزوجينه؟". -" لم يطلب مني الزواج حتى الآن ولكن...". وظهرت الأبتسامة على وجه شاني مرة أخرى وأكملت عبارتها بنبرة الثقة: -" بالطبع سأتزوجه". ورمقت جيني صديقتها بفضول . ولاحظت التغيير في لون وجهها , ثم واصلت كلامها قائلة: -" أهذا لأنك لا تستطيعين تحمل فكرة رحيلك عن هذا المكان؟". -" ينبغي أن أعترف بأن الفكرة تضايقني"؟ اعترفت شاني بذلك وهي تتمسك بالسؤال الثاني كوسيلة لتجنب الرد على السؤال الأول. المستشفى تطل على خليج لوتراس ولأنها أكبر المستشفيات في قبرص, وأكثرها كفاءة, كان المستوطنون البريطانيون يفضلونها على سواها كما تمكنت ممرضة أو أكثر من الممرضات الأنكليزيات الحصول على عمل فيها , وكانت رئيسة الممرضات انكليزية أيضا , كذلك اثنان من الأطباء. ألقت الرئيسة نظرة على شاني وابتسمت لها وقالت: -" تفضلي". ونهضت الرئيسة وأغلقت أحد مصاريع النافذة , فحرارة الشمس أصبحت لا تحتمل , ثم أضافت قائلة: -" أرسلت في طلبك لأخبرك بأنك ستنقلين الى غرفة العمليات حسب ارادتك". شكرتها شاني , لأن العمل في غرفة العمليات كان دائماً يجذبها, وعندما جاءت الى مستشفى لوتراس كانت تتمنى أن تعمل مع الدكتور روجرز كبير الأخصائيين في وحدة جراحة الأعصاب, لكن الدكتور روجرز اضطر الآن للأعتزال بسبب صحته, وأجمع كل من في قسم جراحة الأعصاب على أن المستشار الجديد لن يكون لطيفاً مثل الدكتور روجرز مهما كانت شخصيته. ومضت الرئيسة قائلة: " الجراح الجديد سيصل بعد ظهر الغد , وأريد أن تستعدي لمقابلته فهو غريب الأطوار على ما سمعت , ويحتمل أن يطلب مقابلة أعضاء الفريق الذي يعمل معه حالما يصل". وعدت شاني الرئيسة قائلة: -" سأبقى ... متى سيكون هنا؟". -" بعد نحو ساعة". ثم مضت الرئيسة تتحدث عن عملية الآنسة فورستر المقبلة التي سيجريها الجراح الجديد. -" حسبما سمعت عنه فأن الدكتور مانو لن يصبر كثيراً على عصبيتها". وغاض الدم من وجه شاني وهي تقول: -" مانو ؟ أندرياس مانو؟". -" هل تعرفينه؟". نظرت اليها الرئيسة بقلق, اذ كان واضحاً أن الأخت ريفز اهتزت اهتزازاً شديداً. -" أعتقدت ... أعتقدت أن اسم الجراح الجديد مانوليس". -" يبدو أنها كانت غلطة, هل تعرفينه؟". كررت الرئيسة سؤالها. -" كان ... أحد.... زملاء أبي". وبذلت شاني جهدا لتستعيد رباطة جأشها ونجحت ظاهرياً , لكن خفقات قلبها كانت خارجاً عن ارادتها. -" منذ متى توفي أبوك؟". -" منذ خمس سنوات...". هل مرت كل هذه المدة الطويلة؟ كم يمضى الوقت سريعاً! -" الدكتور مانو لا يزال يعمل في مستشفى لندن ... أو على الأقل كان هناك حتى الأمس . سيبقى هنا في لوتراس حوالي سنة.". وتوقفت الرئيسة عن الكلام, وفي تلك اللحظة رن الهاتف وكان كل ما قالته الرئيسة: -" لا تنسي أيتها الأخت أن تكوني مستعدة لمقابلته". عندما وصلت شاني الى غرفتها شعرت أنها ضعيفة. منذ أدركت حقيقة شعورها اتجاه براين أرادت أن تتصل بأندرياس , لكنها لم تفكر على الأطلاق في مقابلته. وهبطت درجات السلم واتصلت ببراين تلفونياً . كان همه أن يؤكد موعد تناولهما العشاء في تلك الأمسية. وبعد اثنتي عشرة ساعة كانا يتناولان العشاء بالقرب من البحر, والهلال يسطع عاكساً نوره على مياه البحر كالقوس الفضي في السماء المتلألئة. تناولا سمك البوري الطازج المزين بالبطاطا والسلطة, واختتما الوجبة بثمار التين الطازجة والقهوة التركية, ورقصا على أنغام البوزوكي قبل أن يتجها الى السلالم المؤدية الى الشاطىء وضع براين ذراعه حول كتفيها كمن يريد امتلاكها , كانت الليلة ساحرة , ولم يكن الوقت أكثر ملائمة منه الآن. وبعدما سارا في صمت لحظة أو اثنتين , همس براين : -" أريد أن أطلب منك شيئاً يا شاني..... وأنا واثق أنك تعرفين ما هو؟". -------------------------------------------------------------------------------- وكان هذا ما توقعته وما رغبت فيه أيضاً , وأجابت: -" أعتقد ذلك...". كان صوتها خجولاً ومتردداً ... وشد براين قبضة ذراعه حولها وقرَبها منه قائلاً: -" أنني أحبك ... أحبك يا عزيزتي ... أتقبلين الزواج مني؟" ورفعت عينيها , وقد شعت النسمة الباردة شعره , كم كان جذاباً, وكم يحسدها الجميع ! لكن عقلها كان مضطرباً وهي تناضل بلا جدوى لتجد الكلمات المناسبة . وتملصت , ثم استدارت وعيناها الجميلتان تبحثان عن مهرب من عينيه, وبصوت خال من الأحساس قالت: -" أنا في الواقع متزوجة". وفي فترة الصمت التي أعقبت ذلك بدأت تتساءل اذا أخفق في التقاط كلماتها, فقد كانت أقرب الى الهمس .. وأخيراً وجد براين صوته لكنه كان متقطعاً وفظاً وقال: -" ماذا قلت؟". -" أنها الحقيقة.... أنا ... أنا متزوجة منذ خمس سنوات". -" خمس سنوات ؟ لكنك في الثالثة والعشرين من عمرك فقط الآن؟". وبخشونة أدارها لتواجهه ثم أضاف: -" متزوجة ؟ أي هراء هذا!". -" ليس هراء... أرغمت على الزواج ... بنوع من التهديد". ومرة أخرى تخيلت شاني أمامها ذلك الرجل الغليظ الأسمر الذي لم يرها الا مرة واحدة ومع ذلك تسلطت عليه رغبة لا يمكن قمعها وقالت: -"هجرته". وسادت فترة صمت أخرى لم تقطعها الا همهمة الأمواج وهي تتكسر برقة على الشاطىء . وأخيراً قال براين: -" لا أصدق هذا ... وأرغموك ؟ وهددوك؟ عم تتحدثين , انك تكذبين!". ولكن سرعان ما فقدت نبرة صوته قوتها , اذ كان يعرف أنه لا يمكن أن يشك أن شاني تكذب . ثم قال: -" يا الهي , كيف أمكنك أن تضلليني يا شاني ؟ لماذا لم تخبريني من قبل؟". ثم أطلقها وابتعدت , وقد أجفلت من نبرة اليأس التي شابت صوته وقالت بسرعة: -" سيكون كل شيء على ما يرام يا براين, يمكنني أن أحصل على الغاء لهذا الزواج لأنني هربت قبل ... قبل... هربت قبل أن يأخذ وجهي". وتألق أمله لكنه ظل حائراً , وفي هذه اللحظة اكتفى بسؤالها بلهجة اللوم: -" لماذا لم تخبريني ؟ منذ أسابيع عرفت مدى شعوري نحوك!". ونفت برقة: -" ليس منذ أسابيع , كان تخميني منذ أسبوعين بالضبط". قاطعها بغضب: -" نحن نخرج معاً منذ ثلاثة أشهر ..... ثلاثة أشهر!". -" كان لقاؤنا تلبية لدعوتك اياي للعشاء من وقت لأخر". -" وفي الحفل الذي أقامته الأخت سمولمان أدركت أنك تفكر فيَ أكثر من أي واحدة أخرى". قبل أن بدأ يخرج معها , كان براين دافيز الشاب الوسيم الضابط في السلاح الجوي الملكي البريطاني بالفرقة الموجودة قرب ليماسول مشهوراً بمغازلته للفتيات . وأضافت بسرعة أذ بدا متوتراً: -" أقصد أنه منذ أسبوعين فقط بدأت أعتقد أنك جاد... وأنك ستطلب مني الزواج , وحينئذ قررت أن أكتب الى أندرياس أطلب منه فسخ الزواج". وأجابها مشتت الفكر: -" أندرياس ؟ أليس أنكليزياً؟". كانا يسيران على طول الشاطىء , ثم اتجها بطريقة تلقائية الى جدار منخفض وجلسا, وأضاف: -"لا يمكن أن يكون يونانياً , بالتأكيد؟". -" زوجي هو أندرياس مانو , جراح الدماغ". -" أندرياس مانو؟ سمعت عنه , فقد أجرى جراحات عديدة كانت بمثابة الأمل . أليس صحيحاً؟". وأومأت بالأيجاب: -" كان أبي كما أخبرتك طبيباً, وكان أندرياس يعمل في المستشفى نفسه". وتوقفت عن الكلام ثم أضافت بصعوبة كبيرة: -" أنه .. أندرياس أخصائي الدماغ الجديد في مستشفى لوتراس". وأعقب ذلك صمت يشوبه الذهول , ولم يبد براين عاجزاً عن الكلام فحسن, ولكنه بدا عاجزاً عن فهم هذا الجزء الأخير من الأنباء , وحاولت شاني أن تتكلم لتضع حدا للصمت المخيف لكنها لم تستطع , وأخيرا قال براين , بنبرات خشنة جعلتها تجفل: -" زوجك... قادم الى هنا! يا اإلهي , يا له من موقف معقد!". كانت تحتاج الى التعاطف , الى الفهم , الى كلمة رقيقة تعيد اليها الثقة والأمل , ولكنها لم تلق منه الا غضباً شديداً, ونظرة لا يمكن وصفها الا أنها مهلكة. -" براين...". -" من الأفضل لي أن أخبرك بالقصة كلها". -" من الأفضل أن تفعلي". عند لقائها ببراين لم يكن زواجها يبدو شيئاً هاماً , فلم تكن ترى أن هناك أية عقبة في طريق فسخ الزواج بسرعة, وسيفهم براين الموقف وسينتظر في صبر حتى تحصل عليه, ولكن الآن لم تعد شاني واثقة على الأطلاق من ذلك؟ -" على الأقل أنت مدينة لي بذلك , لأنك خدعتيني". -" لا , لا, لا تقل هذا . تلك الحادثة في حياتي مسألة تخصني وحدي , وكانت السبب في تركي أنكلترا حتى أبدأ حياتي من جديد, وكان هذا طبيعياً , ومنذ البداية احتفظت باسمي الخاص , أعني منذ اللحظة التي هجرته فيها, والواقع أنني لم أستخدم اسمه ولا مرة واحدة". ونظرت اليه في توسل لكنه أدار وجهه ولم تر الا التقاطيع القاسية لجانب وجهه وفمه المقطب ثم قالت: -" لا يمكنك أن تلومني لأنني لم أخبرك حتى أصبحت واثقة من حبك". -" حسنا ... وبما أنك أصبحت واثقة فلتعرفي الحقيقة، انني أحبك وأريد أن أتزوجك , فلا تحجبي عني أي شيء لو سمحت". ولم يكن هذا هو الموقف الذي توقعته على الأطلاق, لم تتلق دليلاً على الحنان , ولا تصريحاً مخلصاً بأنها لا تلام . كانت شاني خائفة من فقدان براين في هذا الوقت. -"بدأ كل شيء عندما توفيت أمي , فقد لجأ أبي الى الشراب. كان الأسلوب الهادىء الخالي من الأنفعال الذي بدأت به سرد قصتها مثار دهشة شاني , لكنها لم تبد وكأنها تروي القصة على الأطلاق , بل كأنها تعيشها مرة أخرى. ظهر في أفق حياتهم ذات يوم من أيام سبتمبر / أيلول المشمسة الجميلة ذلك اليوناني الداكن الشرير الذي يتطاير الشرر من عينيه .. ولم تكن شاني تتوقع, وهي تراقب اقترابه منها , شيئاً عن الأنقلاب الذي سيحدثه أندرياس مانو في حياتها كلها. كانا في الحديقة يتناولان الشاي, شخصان عاديان يعيشان حياتهما الهادئة الخالية من أية أحداث كبيرة, أبوها الدكتور ريفز البدين الشائب , ظهره مصاب بانحناءة بسيطة وساقه بها عرج نتيجة حادث أثناء الحرب اذ اخترقت قطعة معدنية جسمه واستقرت بالقرب من عموده الفقري , فقد زوجته منذ سنة وأصبح مدمناً على الشراب , مما أثار استياء شاني. حذرته مراراً, ورغم أنه كان يعرف مخاوفها لم يستطع السيطرة على تلك العادة , كانت زوجته مثل شاني ذات شعر باهت, عيناها زرقاوان واسعتان , وحتى النهاية احتفظت ملامحها بالخطوط الدقيقة والثنيات الخلابة التي امتلكت قلبه منذ لقائهما الأول , جاءت شاني شبيهة بأمها في كل شيء حتى قوامها الفارع المتكامل رغم أنه في حالة شاني, لم يكن مكتملاً تماماً لأنها لم تكن تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها, مع أنها اجتذبت عدداً من القلوب. كانت أول من قابل الرجل حين هرع عبر المرج الأخضر , حيث ترك سيارته , وتجهمت بعض الشيء لأنه ذكرها بحيوان خطير نشب مخالبه استعداداً لتمزيق ضحيته . -" أندرياس , كيف جئت الى هنا؟". ونهض دكتور ريفز وهو يمد يده شاحب الوجه ازاء التعيير المرتسم على وجه زائره وتساءل : -" هل هناك شيء ما". ورغما عنها نظرت شاني الى السماء , وبدا كأن سحابة داكنة حجبت الشمس. تغير الجو بوجود هذا الرجل تغيراً كبيراً , وشعرت شاني بقشعريرة باردة تخترق ببطء عمودها الفقري. -" أود أن أتحدث معك على انفراد , فوراً". ولم يلق الرجل اليوناني نظره الى شاني على الأطلاق , واتجه الرجلان نحو البيت تبعتهما شاني بعينيها . كان واضحاً أن اليوناني يعاني توتراً عنيفاً , وجهه داكن غاضب مما أبرز التجاعيد التي امتدت من أنفه الى فكه, تلك التجاعيد التي ألقت مسحة الشر على وجه يحمل بالفعل ملامح القسوة المتمثلة في عينين حادتين وشفتين رفيعتين مزمومتين بقوة.. أندرياس مانو جراح الدماغ البارز الذي ذكره أبوها مرات, لأنهما كانا يعملان بالمستشفى نفسه . وأجرى أندرياس أخيراً جراحة اعتبرت حدثاً, وأبرزتها الصحف في عناوينها الرئيسية , وكان المريض لا يزال في المستشفى وحالته تتحسن بصورة مرضية. ما الذي يمكن أن يريده رجل مثل أندرياس مانو من أبيها؟ لا بد أنها مسألة خطيرة للغاية, لا يمكن أن تنتظر حتى الصباح, أو حتى عن طريق الهاتف, ولسبب مبهم تسارعت دقات قلب شاني, وتسللت القشعريرة الباردة عبر عمودها الفقري مرة أخرى ولم تعد تشعر بالراحة, فتركت الشاي واتجهت الى البيت من باب آخر ووقفت بلا خجل خارج الغرفة التي كان أندرياس وأبوها يتحدثان فيها. -" كنت ثملاً". -" لا يا أندرياس , ينبغي ألا تقول أنني كنت ثملاً". -" هل كنت ستصف ذلك الدواء اذا لم تكن ثملاً؟". -" أنني ... أنني..". وعندما تداعى صوت أبيها بذلت شاني جهداً للسيطرة على نفسها, اذ كانت ترغب في الذهاب اليه والوقوف بجانبه , لكن الوقت لم يكن مناسباً. -" هل مات؟ بعد جراحتك المدهشة؟". ووصل صوت اليوناني الى شاني مهدداً مثل التقطيبة الحادة التي سبقت الهجوم. -" لو كان مات يا ريفز كنت أنت الذي قتلته , بأي حق تصف دواء للمريض؟". -" كنت أزور أحد المرضى, ولم يكن الرجل قادراً على النوم , ولم تكن أنت هناك ولذلك أعطيته الدواء". " كانت أوامري أن يستدعوني عندما يحتاجون الي , ولحسن الحظ أنني استيقظت وذهبت لألقي نظرة على الرجل, أما أنت فكنت ذهبت حينذاك. أعتقد أنك كنت ثملاً لدرجة أنك لم تستطع البقاء". وصرخ دكتور ريفز مما أفزع الفتاة حتى قفزت من مكانها : -" لا ... لم أكن ثملا ... لا تستطيع أن تثبت ذلك". -" أستطيع ... وأثبت أن الدواء أعطي بناء على تعليماتك , ولو لم أستيقظ لكان المريض قد لقي حتفه". وتوقف عن الكلام وبدا لشاني أن غضبه اختلط بالغرور, ولكن مهارته الفائقة كانت تغفر له ذلك – ثم أضاف: -" كيف سترد على التهمة..؟". -" الممرضة... يمكن أن تكون غلطتها". وقاطعه اليوناني بزمجرة: -" أيها الجبان! لكن يجب أن تتأكد من أنك أنت الذي ستدفع ثمن الغلطة ... انك لست مؤهلاً لتكون أرواح الناس بين يديك". وازدادت رعشة شاني . كان واضحاً أن والده اقترف خطأ. ويمكن أن تكون العواقب مدمرة, ولا عجب في أن السيد مانو كان غاضباً بشدة, فربما يلقى المريض حتفه كما قال , وقمعت أفكارها لأنها أفزعتها. وظل الرجلان يتناقشان , أحدهما يتهم واللآخر ينفي. وبينما كانت شاني تتنصت ساورها الشك في أن أباها يبكي, واندفعت الدموع الى عينيها ... كانت معاناته شديدة, وغالباً ما كان يجلس ويستعيد الذكريات بينما كانت شاني تنصت في صبر. ورغم أنه كان يذكر شاني بطريقة عابرة فأنه لم يكن معها . كان وحده مع المرأة التي أحبها , وفي أحد الأيام أدرك وجود أبنته ونظر اليها وقال: -" سيجيء رجل ذات يوم رائع ويراك ويدرك أنك له". ولم تعلق شاني . لم تكن تؤمن بأن الحب من أول نظرة يمكن أن يحدث كثيراً, وأخيراً قالت وهي تمنحه ابتسامة رقيقة: -" لا أريد أن أتزوج الا بعد مرور فترة طويلة , فأن مستقبلي ما زال في بدايته ". -" أجل أعرف , وهو المستقبل الذي كنت أريد أن تختاريه , لكن لا تصبحي متفانية فيه الى درجة أن يفوتك قطار الزواج الرائع". -" أن ما أشعر به في الوقت الحالي هو أنني أريد قضاء عدة سنوات في التمريض , فالزواج لا يروق لي". وتجهم والدها أولاً , لكنه عاد وابتسم بفتور وهو يقول أنه عندما يأتي الرجل المناسب ويحبها من أول نظرة فأنها لن تقوى على مقاومته. وعادت شاني الى الحاضر برعشة عنيفة عندما أدركت أن الأصوات توقفت , وأن اليوناني يسير نحو الباب وأسرعت بغية الوصول الى كرسيها في الحديقة, ولكن لحظة وصلت الى الباب الخارجي كادت تسقط بين ذراعي الغريب الطويل وهو يسرع الخطى خارجاً من المنزل في غضب عارم. وجفلت من ألم قبضته على ذراعيها , وزفرت قائلة: -" آسفة". جعلها التصادم تلهث قليلاً, وعندما رفعت رأسها لفحت أنفاسها وجهه , ناعمة دافئة , وعيناها الجافلتان اللتان تحدقان في عينيه أصبح لونهما بلون سماء الشرق عند الظهيرة. وفي علو لا يصدق نظر اليها وعيناه الداكنتان تشعان ببريق ناعم من الدهشة وعدم التصديق. -" لا بد أنك شاني؟". وغمغمت قائلة: -" أجل, أنا شاني". -" شاني ! يا للفتنة!". نطق اسمها بنبرة تأكيد , ولم تكن تدري هل يقصد الأسم أم الفتاة لأن القسوة عادت الى وجهه عندما ظهر أبوها من الغرفة المجاورة. -" أندرياس , بحق الله, أليس هناك شيء أستطيع أن أفعله حتى تغير رأيك؟ أنني لم أذق الشراب الا بعد وفاة زوجتي عندما شعرت بأنني محطم تماماً". وتلاشى صوته عندما رأى المنظر الذي أمامه . -" شاني, ماذا تفعلين؟". واحمر وجهها بشدة وثنت جسمها قليلاً لتحرر نفسها عندما خف الضغط على ذراعيها وقالت: -" اصطدمت بالسيد مانو". وتوسل أبوها. -" أنت آدمي بالتأكيد ؟ لن تبلغ عني". -" أدمي؟". وظل أندرياس يركز عينيه على وجه شاني وكأنه لن يحولهما عنها اطلاقاً , وظهر أغرب تغير في نبرة صوته وهو يغمغم وكأنه يحدث نفسه: -" أجل , انني آدمي". وأضافت شاني وهي تعترف: " سمعت عفواً كثيراً مما قلته لأبي , وما قاله الآن صحيح فهو لم يذق الشراب اطلاقاً حتى عام مضى , عندما توفيت أمي". وكانت لا تزال تقف قريبة جداً من أندرياس , وعندما رفعت عينيها المليئتين بعبارات التوسل الى عينيه لم تكن تدري الى أي حد أصبح يرغب فيها, بطريقته هو: -" أرجوك أن تلزم الصمت يا سيد مانو, فهو لن يشرب ثانية على الأطلاق". وقال دكتور ريفز بحماسة: -"أقسم على ذلك ! أعطني فرصة , أتوسل اليك , لا تبلغ عني". كان أندرياس مشغولاً بالمنظر الذي أمامه , ورغم ارتباك شاني من شدة تحديقه فيها , دققت في وجهه , عن عمد, وهي تشعر بالدهشة لأن الأنطباع الأول بقسوة ملامحه بدأ يتلاشى بعض الشيء.. هل ينوي حقيقة أن يفضح أباها , أم أن الأحتمال الأكبر أنه يقصد اخافته , كان واضحاً أنه نجح في ذلك, وبدأ يخالج شاني احساس بالأمتنان عندما تسبب اليوناني الأسمر في ارتباكها وهو يقول: -" سألتني للتو ما يمكنك أن تفعل يا ريفز, يمكتك أن تعطيني ابنتك". وغرد طير على الشجرة المنعزلة عند نهاية الحديقة. وكان هذا هو الصوت الوحيد وأخذ كل واحد من الثلاثة ينظر الى الآخر , كانت السحب تكاثفت وحجبت الشمس تماماً , ونظرت شاني الى فوق وهي متجهمة: -" لا أعتقد أنني أفهمك". أخيراً تكلم الطبيب وأخذ لسانه يلعق شفتيه اللتين أصبحتا شاحبتين: -" أريد الزواج من ابنتك , ليس هناك شيء غير عادي في ذلك". وقال الطبيب بعد لحظة توقف : " أندرياس . قد يكون المتبع في بلادكم أن يختار الرجل فتاة ويعرض الزواج منها , لكنك لست في اليونان الآن". وابتسم أندرياس وهو يلقي نظرة في اتجاهه قائلاً: -" أنا يوناني مع ذلك, ومن الطبيعي أن أدير شؤوني وفقاً لعاداتي , سآخذ شاني منك , وأعدك بأنها ستلقى مني كل راعية و ... اعتبار". وهز الرجل الأكبر سناً رأسه وقد أصابه الدوار , أما شاني فشعرت بغشاوة غطت عينيها وتعجبت من التردد الذي سبق نطقه بكلمة اعتبار. وقال أبوها: -" في البلد لا نعطي فتياتنا ... ان شاني ستقع في الحب يوماً ما, وسيكون زوجها رجلاً اختارته بمحض رغبتها, لأن مستقبلها بين يديها تماماً". -" ومستقبلك بين يدي!". تحدث بنعومة بالغة ولكنه ذكَر شاني مرة أخرى بحيوان شبيه بالنمر مستعد لأن ينقض على فريسته , وأبيضَ وجه أبيها عندما اتضح له المغزى الكامل لكلمات زميله. " أنا لا أستطيع أن أصدق أنك كنت جاداً عندما طلبت الزواج من شاني". قال هذا بضعف وهو يمد يديه, وفهمت شاني المعنى الذي يقصده وهي تلاحظ التجاعيد الحادة التي أضافت في الحال سنوات عديدة الى عمره, وأدركت شاني وهي ترتعش أن أباها يعرف أن اليوناني الضخم كان جاداً في عرضه , وأثبتت كلمات أندرياس التالية صحة استنتاجاتها. -" أنا لا أضيع وقتي في قول أشياء لا أقصدها . أرغب في الزواج من ابنتك , وأطلب يدها منك". ولم يرد الطبيب وأضاف أندرياس في هدوء , ولكن كلماته كانت تحمل تهديداً خسيساً: -" ابنتك مقابل سكوتي". وبعدها ظلت شاني تتخذ موقف المتفرج , تحدثت أخيراً وهي ترفع ذقنها في أباء: -" ذكَرتنا للتو بأنك يوناني, وأنك تتولى شؤونك طبقاً للعادات السائدة في بلدك, ولكن أبي ذكر أنك لست في اليونان الآن , هذه أنكلترا , وتقاليدك تبدو مضحكة في نظر الأنسان الغربي". ولم تكن تقصد الأستخفاف به , لكن شاني لسوء الحظ , لم تعرف كيف تختار عباراتها , واقترب حاجبا اليوناني المستقيمان الأسودان بعضهما من بعض بطريقة تنذر بالشر وهو يقول في نبراته المألوفة الناعمة التي تحمل في طياتها لهجة التهديد: -" هل يمكنني القول أن غطرستك تبدو لي مضحكة , في ظل الملابسات القائمة , تلحظين أن أباك في موقف خطر للغاية, ومستقبله وسمعته الطيبة بين يديَ تماماً , وطبقاً لما قررته فأنه أما يحتفظ بمركزه واحترام مرضاه وأصدقائة , وأما أن يتقاعد في اعتزال شائن". وصرخت وهي تشعر بالندم لما أبدته من غطرسة: -" عمله هو حياته ... لا يمكنك أن تبلَغ عنه". وبلا وعي عصرت يديها بطريق مخبولة, واتضح تماماً أنهما أصبحا في قبضة الرجل ... ليته لم يرها ... لكنهه رآها . -" لا يمكنك أن تفعل هذا ! وعي أبي درسه من دون أن يقع ضرر خطير , أرجوك أن تدع هذا الأمر يمر , لن يمس أبي الشراب مرة أخرى". وأعلن الدكتور ريفز : -" سأقدم عهداً مقدساً على ذلك". وكان صوته متوتراً , واعتقدت شاني أنه سيمس وتراً رقيقاً في هيكل هذا الرجل , ولكن كانت هناك رغبة جامحة تتملكه ختى اختفت أية شهامة لديه, ووجه حديثه الى دكتور ريفز متجاهلا شاني تماما , وقال: -" أوضحت شروطي , وعليك أن تختار : أما ابنتك وأما التشهير بك , تستطيع أن تخبرني بقرارك غداً ". وكان على وشك أن يسير خارجاً عندما أوقفه صوت دكتور ريفز : -" يمكنني أن أخبرك بقراري الآن ... اذهب وبلَغ عني ". -" أبي ! لا ! ". واقتربت منه شاني شاحبة الوجه , ووضعت يدها على ذراعه وهي تحاول أن تسري عنه وأضافت : -" لا يمكنك أن تقرر بدون أن تفكر ملياً في النتائج ". -" فكرت فيها ملياً". -" انتظر حتى الغد يا عزيزي , لا تستطيع أن تفكر بوضوح في الوقت الحالي ". ولم تنظر الى الرجل المسؤول عن كل هذه المعاناة , لكنها أدركت أن الحقد الأسود يشتعل في عينيها لأول مرة في حياتها , وقال أبوها بخشونة : -" أتخذت قراري". ثم أشار بيده نحو البوابة في ايماءة بالطرد , ووقف أندرياس في مكانه وهو يراقب شاني وقال بصوت مليء بثقة لا يخطئها أحد: -" سأمنحك فرصة حتى الغد". وبصورة غير متوقعة وضع أندرياس يديه الداكنيتن القويتين على كتفي شاني , ثم أدارها لتواجهه , ونظر الى عينيها في عمق , ورغم أنه لم يكن بأمكانه أن يخطىء نظرة الكراهية فيهما رأى شيئاً آخر أيضاً , شيئاً كان يتوقع أن يجده , لأنه قال وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة النصر : -" انني أتعجب يا ريفز , أتعجب!". وكان حفل الزواج رائعاً , فكان لأندرياس أصدقاء من اليونانيين والأنكليز , كذلك كان لشاني أصدقاء , وعندما رأوا أندرياس لأول مرة في الحفل همسوا جميعا بعلامات تعجب: -" أين قابلته ؟ أنه رائع!". -" أظن أنه عن طريق أبيها , أندرياس مانو الشهير ". -" لكن يجب أن تعترفوا أن شاني ( شيء آخر) ". -" هه ... ها هما قادمان ... هل رأيتم من قبل اثنين من قبل بمثل هذه الروعة ؟ وذلك الثوب ... يقولون أنه أحضره اليها بالطائرة من اليونان , حيث صنعت كل غرزة فيه باليد , وكان خاصاً بجدة أندرياس الكبرى". -" كل هذه الزخرفة والتطريز .... صنعت باليد؟". -" هكذا قالت الصحف , أن النساء اليونانيات يقضين أعمارهن في الحياكة والتطريز". -" ذلك العقد , الفصوص من الأحجار الكريمة ! يحتمل أن يكون من أرث الأسرة ". -" أنها تبدو مثل الأميرة , أراهن أن كل رجل في الكنيسة يحسد زوجها !". لكن حينما تقدمت شاني نحوهم , واستقرت يدها بجمود على ذراع عريسها , بينما كانت شفتاها مزمومتين وعيناها لا تتحركان , اتخذت التعليقات الهامسة مسارا آخر: -" عيناها , كم هما حزينتان". كانت شاحبة للغاية, ومع ذلك كانت أجمل عروس, وفيما بعد , في حفل الأستقبال , وقفت مع زوجها وهي تتعجب .... ترى هل شعرت أية عروس بمثل ما تشعر به من بؤس وتعاسة. والتقت عينا أبيها بعينيها , وفيهما أيضا استقرت أعمق مشاعر الأسى . لقد أراد أن يتحمل نتائج غلطته ولا يضحي بها , لكن شاني هي التي اتخذت القرار , كان أبوها لا يزال يعاني من فقد زوجته لكنه أحب عمله الذي يشغله تماماً بحيث لا يجد وقتاً للشعور بالأكتئاب ولو فضح ولحق به العار – وهو عار سيؤدي به حتماً الى حياة الكسل قهراً – كان بلا شك سيفقد الرغبة في الحياة, وكان هذا آخر ما تريده شاني ولذلك اتخذت قراراً ولم تتزحزح عنه . قررت أن تتزوج أندرياس لكنها ستجعله يندم على اليوم الذي وجه فيه ذلك الأنذار النهائي الى أبيها ؟ هذا ما كانت تحدث به نفسها مراراً وتكراراً دون أن تعرف بوضوح كيف ستجعل أندرياس يدفع الثمن , وبينما هي تختلس النظر اليه وهي تقف بجواره عندما كانا يصافحان الضيوف , شعرت بأن قلبها مات بين ضلوعها . لن تكون اطلاقاً شريكة حياته . ومع ذلك أدركت أنها لم تقدم اطلاقاً على أي عمل انتقامي بدون أن يقع عقابه على رأسها . كان رجلاً من الشرق حيث تخضع المرأة لأرادة الرجل بدون نقاش, ثم ألم يقل أندرياس وهو يقدم ( عرضه) بالزواج منها , أنه سيدبر شؤونه طبقاً لتقاليد بلاده؟ لفترة طويلة وقفت أمام منضدة الزينة , تمعن التفكير في أحداث الأسبوعين الماضيين : موت والدها المأساوي فور خروجه من حفل الأستقبال الذي أقيم بمناسبة الزواج ... هذه الوفاة لم تؤد فقط الى أثارة أعصابها , لكنها أدت أيضا الى زيادة استيائها من زوجها, فلو أنه لم يصر على أن يتم الزواج عندما رغب في ذلك , لما تزوجته على الأطلاق . ومن الطبيعي أن شهر العسل تأجل لأن شاني كانت تعاني من حزن عميق , لكن بعد مرور أسبوعين نفذ صبر زوجها وأخذ يلح عليها الحاحاً فسرته بأنه رغبة لا يستطيع السيطرة عليها مما أثار استياءها . -" سنسافر لبضعة أيام ". قال لها ذلك ورغم أنها كانت تدرك أن توسلها لن يجدي طلبت منه مزيداً من الوقت , ورفض بحزم , ولم يتأثر بدموعها , وقال : -" ستشعرين بتحسن أثر التغيير ". وصرخت قائلة وهي تعصر يديها : -" ربما كنت سأشعر بذلك لو لم أتزوج . ألا تستطيع الأنتظار فترة قصيرة أخرى؟". وعندما تمسك برأيه جمعت حاجياتها في خنوع , وصحبته الى ( فولكستون) حيث اقترح أن يقضيا شهر العسل , واختار أفضل الفنادق وحجز أفخم جناح لهما؟ وعندما رأته وهو يرتدي بيجامته أدركت كم من الوقت مر عليها وهي واقفة هناك , وارتفع حاجباه عندما رآها , وتقدم نحوها في بطء , ولم تقاوم عندما ضم يديها بين يديه , لكنها كانت شاحبة وخائفة. وقال مستفسراً بتهكم رقيق : -" هل تنوين أن تظلي مستيقظة طوال الليل ؟". ولم ترد , لكن الدم تصاعد الى وجنتيها الشاحبتين , وربت على خدها وقال: -" لا تخافي مني يا شاني , لن أؤذيك". يؤذيها ؟ ألم يؤذها بالفعل الى أقصى حد ممكن ؟ دمَر حياتها تماماً. " هلا أعطيتني فسحة من الوقت؟". كانت عيناها الجميلتان تتوسلان , ويداها تمتدان في استعطاف ومضت تقول: -" لا أزال أعاني من صدمة وفاة أبي , وأنت ... لا تزال غريباً عني!". ولم تتلق جواباً على توسلاتها , وأعتقدت أنها لمست صلابة وخشونة في عينيه أقنعتها بأنها تضييع وقتها , ومع ذلك حاولت مرة أخرى. -" مساء الغد يا أندرياس , أرجوك أجَل هذا الى مساء الغد". -" الغد؟". بدا أنه يفكر في ذلك ولكن تعبيراته كانت غامضة , وتعذر عليها أن تقرأ أفكاره , وبعد فترة وجيزة شعرت بأن جسمها انهار عندما هز رأسه في حزم وقال : -" الليلة يا عزيزتي .... ينبغي أن يكون الليلة ". وأدَت نبرة صوته الدالة على تصميمه النهائي الى أن ترفع رأسها بحدة ثم أضاف : -"لو بقيت معي الليلة فستبقين معي الى الأبد". وتجهمت. أنه يقول شيئاً غريباً ؟ وتصاعد الدم الى وجهها عندما اتض ما يقصده أو ما استنتجت أنه يقصده . واكتفت بأن قالت , وهي تلقي نظرة غير واعية على الباب: -" أتخشى أن أتركك؟ الآن بعدما رحل أبي ". " يمكنك أن تتركيني يا شاني , وان كنت لا أرغب في ذلك" . وارتفع رأسها الجميل عالياً في الهواء وقالت: -" رغبت فيَ بمجرد أن رأيتني . واستخدمت معرفتك للفوز بي , فتاة رأيتها ورغبت فيها على الفور , لكنك ستضطر الآن للحياة مع خوف أنها ستهجرك , وهو عقاب حقيقي لك". وقاطعها قائلاً في نبرات رقيقة: -" أنا لم أعرف الخوف اطلاقا في حياتي , قلت أنني لا أريد أن تتركيني ". -" أعتقد أن الزوجة في اليونان لا تجرؤ اطلاقاً على ترك زوجها؟". -" في اليونان نادراً ما تفكر الزوجة حتى في هجر زوجها ". واعترف قائلاً : -" أن زوجها هو السيد , أجل . لكن الخضوع؟". -" السيادة والخضوع . أي فارق هناك؟". ورد قائلاً: -" هناك فارق يا شاني . لأنني أمقت كلمة الخضوع بشدة بينما السيادة لا تزعجني على الأطلاق". -" هل في نيتك أن تسودني؟". وتجهم لكنه قال بحزم: -" سأرشدك وأنصحك . لن أدعك تقترفين أخطاء , يمكن أن تجعل أيامنا شقاء". -" يا لها من رقة بالغة". وأدت لهجة التهكم في صوتها الى أن يجفل في دهشة, لأنها كانت غريبة عن المخلوقة الرقيقة التي عرفها خلال مدة تعارفهما القصيرة, ومضت تقول: -" أن ما تخبرني به حقيقة هو أنك ستفرض قيوداً وأوامر , وستحد من ارادتي , وتحذرني أيضا من النظر الى أي رجل آخر". وظهر على وجهه تعبير شرير عندما ارتدت شفتاه الى الخلف, وأصبحت عيناه الداكنتان بطبيعتهما مثل عيون معظم اليونانيين , سوداوان تماما كجمرة الغيرة التي تضطرم في أعماقهما , وخطت شاني خطوة الى الوراء, لكن يده أمسكت برسغها وقربتها منه , لم تعرف مثل هذا الخوف من قبل اطلاقاً, لم تفكر في أن يكون لها زوج يطلق العنان لرغباته كما يفعل هذا الوحش. -" رجل آخر! أجل . يا شاني الجميلة. هذا بالضبط ما أعنيه , انظري الى رجل آخر وسأقتلك . أتفهمين؟ أنك ملكي , زوجتي للأبد ". وفي هذه اللحظة أثَرت فيه رقتها والدموع التي دفعها الخوف الى عينيها , وأخذت يداه تربتان برفق عليها , وفكرت فيه كجراح يستخدم يديه في خدمة مرضاه, حتى شفتاه أيضا أصبحتا رقيقتين . وعندما أبعدها عنه أخيرا همست وقد راودها الأمل في استجابته : -" مساء الغد!". لكنه رفض قائلاً: -" لو بقيت معي الليلة فلن تتركيني اطلاقاً, أنا واثق من هذا". وبدا في عينيها كل الأزدراء الذي تشعر به ازاءه , وقالت : -" هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنك أن تتأكد بها من الأحتفاظ بي . أليس كذلك؟ أرغمتني على الزواج , الآن تلجأ الى هذه الوسيلة كي تتأكد من أنني سأبقى معك". وتساءل في نعومة: -" ما الذي تقولينه بالضبط؟". وفكرت شاني في فتاة عرفتها تزوجت يونانياً . واليونانيون يتحدثون بصراحة عن ( انجاب طفل) كررت شاني لأندرياس ما قاله هذا الزوج اليوناني لزوجته ليلة زواجهما , لكن شاني سرعان ما شعرت بالضآلة وارتدت في ذعر نتيجة الأحتقار التي رماها بها وقال لها ببرود: -"انني لا أتحدث بالأنكليزية غير السليمة, ولا ألجأ لأستخدام هذه الوسيلة التي تقترحينها للأحتفاظ بزوجتي الى جانبي , دون وسائل أخرى , ونكست شاني رأسها , في مواجهة هذا التوبيخ . وانتابها شعور بالذنب: -" هذا ما قصدته!". وقال أندرياس وقد نفذ صبره: -" أعتقد بأنك ستغيرين رأيك فيما بعد". وبعد فترة وجيزة سألها مرة أخرى أذا كانت ستبقى هناك طوال الليل , وبدا أنه ليست هناك وسيلة للهرب, فأخذت قميص النوم , واستدارت نحو الحمام, وهي تتوقع أن يلقي أندرياس ملحوظة ساخرة ازاء تصرفها , لكنه لم يقل شيئاً , وعند عودتها كان في غرفته الخاصة وقد أغلق الباب الفاصل بينهما , رغم أنه لم يغلق بالمزلاج, وتوهجت عينا شاني بضوء غريب عندما تملكها الخوف وهي تفكر في المحنة المنتظرة, وانتقلت نظراتها من الباب الفاصل الى الباب المؤدي الى الممر . هل لديها الوقت الكافي لأرتداء ملابسها مرة أخرى؟ أين يمكن أن تذهب؟ العمة لوسي؟ العانس التي تكره الرجال, أن العمة لوسي لن تتصل اطلاقا بأندرياس ولن تصر اطلاقاً على عودة شاني اليه ... أجل .... ستكون آمنة مع العمة لوسي , ولن يعثر عليها أندرياس أبدا حيث تكون مختفية هناك في نونتغها مشبر . أنها محظوظة لأنها لم تذكر أمامه اطلاقاً عمتها العجوز , محظوظة جداً في الواقع....
--------------------
2- بارد.... كالنار
تقابلا في غرفة رئيسة الممرضات, قالت الرئيسة: -" الأخت ريفز قالت لي أنك كنت زميلاً لوالدها في وقت من الأوقات". ورغم أن عيني أندرياس طرفتا, فانه لم يبد ما يدل على أنه يتأثر بأن شاني جعلت الرئيسة تفهم أنهما معارف فقط. -" الأخت ريفز". نطق أندرياس هذا الأسم وهو يؤكد على حروفه بشكل لا يخطئه أحد, بينما مد يده القوية رغم نحافتها واتجهت عيناه اليها بدون أن يبدو عليه أنه يعرفها رغم ما قالته الرئيسة للتو , وأدى ما بدا عليه من السكينة الكاملة وروح التعالي الى احساس شاني بضعف مركزها ازاءه , ورغم محاولتها أن تحافظ على هدوئها الخارجي, شعرت بالدماء تتصاعد الى وجهها غزيرة, وأحاط بها عالم من الزيف . وأحكم قبضته عليها , هذا الرجل الطويل النحيل , الذي يتمتع لدهشتها بوسامة لا يمكن وصفها , يصافحها بالطريقة التي كان يصافح بها الممرضة دستون أو الأخت لوزيدز بالضبط, لا دهشة ولا اتهام , لا غضب ولا كراهية وهو ينظر اليها عندما تقابلا . فقط حدق فيها لحظة قبل أن تخفض رأسها , لو كان متوقعاً هذا اللقاء ومستعداً له تماماً , لما أبدى احساسا أقل من هذا. -" أخبريني أيتها الأخت ريفز منذ متى وأنت هنا في لوتراس؟". -" منذ سنتين". كان توليها منصباً في الخارج لهدف واحد فقط هو الأبتعاد عن زوجها أبعد مسافة , وبدا عليه التفكير العميق , وسيطر على شاني انطباع أنه نافذ الصبر ازاء نفسه لسبب ما . -" سنتان في قبرص". قال ذلك وهو مستغرق في التفكير , وأعقب كلماته تنهيدة قصيرة, وتجهمت شاني, هل كان يبحث عنها ؟ لكن ألم تخبره في المذكرة التي كتبتها على عجل بأنه لا داع لمحاولة العثور عليها لأنها لا تنوي أن تعيش معه على الأطلاق؟ ولا أن تسمى باسمه؟ وكان يتجاذب أطراف الحديث مع الرئيسة في الوقت الذي وقفت هي بعيدة حرة تمعن النظر في الفكرة التي بدأت تزداد قوة... الفكرة التي أثارت قلقاً ما لبث أن وصل الى أبعاد الرعب الحقيقي قبل أن يسيطر على شاني هاجس أسود لم تستطع تهدئته . ظل يبحث عنها فهذا يمكن أن يكون معناه شيئاً واحداً فقط هو أن رغبته لم تخف طوال تلك السنوات , فكيف يكون رد فعله عندما تقترح عليه الغاء الزواج؟ لنفرض أنه لن يطلق سراحها ؟ لنفترض أنها لن تستطيع الزواج من براين وأضيفت الى هواجسها لمحة مفاجئة من الذكرى أعادتها الى المنظر المرعب عندما أقسم أندرياس على أن يقتلها لو نظرت الى رجل آخر. بالطبع لم يكن يعني ما يقوله فعلاً, لكن شاني شعرت أنه لا ينبغي الأستخفاف بتهديده. ودهشت من عدم اكتراثها بمسألة ابطال الزواج , لكنها اعتقدت حينئذ أن أندرياس سيرحب بحريته لأن الوقت لا بد سيحين عندما يرغب في وجود زوجة وأطفال في بيته. وقررت أن تراه في أول فرصة وهي لا تفكر في موقفها مع براين لو أن المقابلة مع أندرياس لم تؤد الى النتيجة المرغوبة . كانت في أي حال لا تستطيع رؤيته على الفور, لأنها ستقوم باجازة لمدة أسبوع وسترحل في تلك ارحلة لزيارة بعض الأصدقاء الأنكليز الذين يقضون اجازة في غاماغوستا, وبعد ثلاثة أيام ستأخذ جيني اجازة وتلحق بشاني وأصدقائها في الشاليه الجميل الذي استأجروه على شاطىء البحر. -" ليديا موراي تتعامل بصورة طيبة مع جراحنا الجديد, هذا ما سمعته شاني من صديقتها في محطة الأوتوبيس , حيث أضافت: -" أنه صارم بطريقة مرعبة مع الجميع فيما عداها . وهو جذاب للغاية لكنني أتصور أن العمل معه مثل التعرض الى الجحيم" وتوقفت فترة قصيرة ثم أضافت: -"هناك شائعة بأنه تزوج , وانفصل عن زوجته". وقالت شاني بسرعة , متجاهلة عبارة صديقتها الأخيرة : -" ليديا موراي , هل أصبحا صديقين بهذه السرعة ؟". وردت جيني بتكشيرة : " السيد مانو يبدو ودوداً معها , أو يمكن أن أقول أنه أقل صرامة معها منه مع أي شخص آخر في المستشفى. -" انه صارم بطبعه". اعترفت شاني بذلك وهي لا تزال شاردة الذهن بينما كانت جيني تنظر اليها بحدة , ثم أضافت : -" أكره أن أكون في مكانك مضطرة الى العمل معه طوال الوقت". وألقت جيني ملحوظة أخرى عن ليديا , وأبعدت شاني أندرياس بحزم عن تفكيرها وركزت على ما تقوله صديقتها. -" اعتقدت أن ليديا تعمل ؟ هل تركت العمل؟". -" تعمل نصف الوقت في مكتب ما, لكنها كما تعلمين تساعد الدكتور غوردون في كتابه, هكذا تجيء الى المستشفى مراراً, وتقول ايلي انها قابلت السيد مانو في غرفة الطعام, وفي الحال أثَرت عليه , وتناولا طعام الغداء معا اليوم. وتقول ايلي أنها رأت ليديا وهي تذهب الى بيت السيد مانو في الليلة الماضية". هل سيصبحان أكثر من صديقين؟ تعجبت شاني وهي تشعر بلمحة تفاؤل , هل سيقع أندرياس في حب ليديا ويريد أن يتزوجها ؟ وتساءلت في شغف : -" هل تعتقدين أنهما يخرجان أحيانا لقضاء الأمسية معا؟". ورفعت جيني حاجبيها ثم قالت: -" لم يمض الوقت الكافي لذلك, وحتى ليديا لا تعمل بمثل هذه السرعة!". -" السيد مانو يعمل معنا منذ أربعة أيام فقط , لكن ...". وأضافت وهي غائبة الوعي: -" ليديا جذابة للغاية , وقد يقع في حبها فوراً". أمنية بالتأكيد , ومع ذلك فان ليديا موراي كانت أكثر من انسانة جذابة بالطريقة العادية , والواقع أنها وأندرياس سيشكلان زوجين مميزين للغاية. -" لو أنهما نجحا في الوصول بعلاقتهما الى النهاية المطلوبة لأسعد هذا كثيرين في لوتراس ؟ اذ أن ليديا أصبحت مصدر ازعاج ". -" ليست لها أية سلطة حقيقية , كيف تعتقد أن بأمكانها أن تأتي الى المستشفى وتصدر أوامر؟". -" لا يوجد سبب الا أن والدها أحد المساهمين في الأعتماات المالية للمستشفى , أنها تشعر بالملل , وهذا يوفر لها شيئاً تقوم به". وعندما وصلت الى أحد المقاهي توقفت تلقائياً لتناول شراي , وكانت المناضد موضوعة في الخارج وقد حجبت أشعة الشمس ووهجها أغصان كرمة ملتفة حول الأعمدة , وقالت جيني : -" لو تزوجت ورزقت بطفل لأسعد هذا الجميع , عندئذ لن يتبقى لديها الوقت الكافي للتجول في أنحاء المستشفى كما تفعل الآن حيث تلقي الأوامر". -" لا أظن أنها ستضطر لرعاية طفلها . ستتزوج شخصاً يمكنه أن يتحمل نفقات مربية". -" أتوقع أن يتمكن السيد مانو من تحمل نفقات مربية , لنأمل أن يحدث شيء في هذا المجال". وضحكت شاني وذكرت صديقتها: -" راودتنا مثل هذه الآمال من قبل , هل تذكرين دكتور غريسون!". -" لم يكن وسيماً بما يكفي بالنسبة اليها . ولم يكن ثرياُ بما يكفي أيضا .أنها لطماعة تلك الفتاة وبعد ذلك بأربعة أيام طرقت شاني باب غرفة أندرياس , لم تكن المستشفى المكان الملائم لمناقشة أمر خاص كهذا , لكن ينبغي أن تتحدث مع أندرياس قبل أن تقابل براين يوم الجمعة , اذ كان براين سيأتي لقضاء عطلة نهاية الأسبوع , وراود شاني الأمل في أن تستطيع التأكيد له بأن الغاء الزواج يجب أن يتم دون تأخير , ولدهشتها كانت ليديا هي التي فتحت الباب ثم وقفت تنتظر شاني لأن تتحدث: -" أريد أن أقابل السيد مانو". قالت شاني ذلك وهي تختلس النظر من خلف ليديا حين لاحظت الغرفة خالية , أضافت: -" أريد أن أتحدث معه على انفراد لكنني أرى أنه ليس..". ورمقتها ليديا بنظرات متغطرسة من رأسها الى قدميها وقالت: -" على انفراد ؟ انه ليس هنا". وردت شاني بلهجة لاذعة غير معتادة: -" كنت على وشك أن أقول ذلك , هل سيتغيب طويلاً؟". وتعجبت لماذا كانت ليديا في غرفته؟ وذلك رغم أنها لم تبد اهتماماً خاصاً: -" لا أستطيع أن أقول متى سيعود, لكنه في أي حال لن يرغب أن يزعجه أحد, هل أستطيع أن أنقل اليه رسالة؟". -"أخبريه بأنني سأذهب اليه في منزله مساء اليوم , سأكون هناك في السابعة". -" في منزله؟". -" أجل يا آنسة موراي , سأذهب اليه في منزله". -" لن يكون هناك في السابعة, لأنه سيتناول العشاء في بيتي". -" يتناول العشاء في السابعة؟". لم تستطع شاني الا أن تحدق لحظة أو أثنتين , فالناس هنا لا يتناولون عشاء في السابعة بل في التاسعة أو بعد ذلك أيضا. -" لن يكون هناك في السابعة". ردت ليديا بذلك ثم أغلقت الباب, ابتعدت شاني وهي تعض على شفتيها , لن يكون الحديث مع زوجها لطيفاً, ورغبتها الوحيدة هي أن تنتهي من هذه المسألة بأسرع ما يمكن. وفي اليوم التالي تقابلت هي وأندرياس في غرفة العمليات, وعندما عرفت الآنسة فورستر من هو الرجل الذي سيجري لها العملية زال عنها الخوف , وكانت أعصاب شاني هي التي ترتجف عندما سار أندرياس وألقى عليها تحية الصباح بطريقة مقتضبة جافة. -"صباح الخير ." وغمغمت: -" صباح الخير يا سيد مانو". وراقبته شاني وهو يرتدي معطف العمليات والقلنسوة تساعده في ذلك ممرضة غرفة العمليات الصغيرة, والتقت عيناه بعيني شاني وهو يرتدي قفازيه , ثم تحولت عيونهما نحو جسم المريضة , وأخيراً نحو طبيب التخدير الجالس بجوارها. ولمست يدها يده وهي تناوله الأدوات المطلوبة , وسمعته يأخذ نفساً عميقاً مكتوماً وشعرت بأنه يدرك عصبيتها البسيطة التي لا يستريح لها . هل يزدريها من أجل ذلك؟ أن هذا محتمل الى حد كبير وأدركت لدهشتها أن الفكرة تؤذيها في الواقع. كانت درجة الحرارة عالية مما أدى الى تصبب عرقه غزيراً . أن وزنه سينقص وحينئذ يجب أن يعوض هذا فمن الضروري أن يظل الجراح في حالة لياقة بدنية, وبلفتة منه جففت الممرضة الصغيرة جبهته , والتقت عيناه بعيني شاني , وفي تلك اللحظة الخاطفة قبل أن يحول نظره عنها مرة أخرى شعرت شاني بأن عاطفة مراوغة غير مفهومة تحركها. وأخيراً انتهت العملية بعد عدة ساعات, وأخرجت الآنسة فورستر على عربة, وبدا أندرياس متعباً لكنه ليس مرهقاً, بينما كانت شاني تغرق في النوم وهي تقف , وخلعت قناعها , ونظر أندرياس نظرة نافذة بدون ابتسام , بينما التوى فكه , وقال بطريقة باردة وهما يغادران غرفة العمليات معاً: -" الأفضل أن تأتي لنتناول شيئاً من الشاي . سنشربه في غرفتي". وأعتقدت أن الوقت حان لمناقشة موضوع الغاء الزواج , لكنها لم تستطع صياغة الكلمات المناسبة. وألقى أندرياس ملاحظة وهو يتفحص وجهها بدقة وقال: -" كان الأمر مرهقاً بالنسبة اليك , من الطبيعي أن يكون صعبا على الأعصاب لأول مرة". -" هل عرفت أن هذه أول مرة بالنسبة الي؟". -" الرئيسة أخبرتني بمسألة انتقالك , لكنني كنت سأعرف على أية حال, لقد استسلمت للأنفعال عشر مرات". وتضرج وجهها بحمرة الخجل , كانت متعبة للغاية وبدأت شفتاها ترتعشان , وضحك بفتور قائلاً انه ليس هناك شيء يستحق البكاء , وردت وقد توهجت عيناها بسخط: -" انني لا أبكي , أنا فقط متعبة قليلاً , هذا هو كل شيء". وجيء بالشاي , وصب لها فنجانها وقدمه لها , واحتسياه في صمت , وحاولت شاني عدة مرات أن تثير مسألة ابطال الزواج , لكنها أخفقت لأن الوقت لم يكن مناسباً , فقد كان كلاهما مرهقاً, بينما انشغل تفكيرهما بالحديث الأخير , وقررت أن تزوره في بيته بعد ظهر اليوم التالي. وعندما همت بطرق الباب , تساءلت اذا كانت اختارت وقتاً غير مناسب , وعلى كل فأن طرقتها الثالثة لقيت استجابة , لكنها لفزعها , رأت أن أندرياس كان نائماً , يرتدي رداء النوم وشعره أشعث , وبادرته بالكلام: -" آسفة , سأعود في وقت آخر , آسفة لأنني أزعجتك". -" ما الأمر يا شاني؟". -" أردت أن أتحدث اليك". وترددت لحظة ثم قالت: -" ليتك تتيح لي فسحة قصيرة من الوقت, أعني ما سأقوله لن يستغرق لحظة". ونظر اليها متسائلاً , ولمحت القسوة في عينيه ثم قال: -" أهي مسألة شخصية؟". -" أجل , أنها مسألة شخصية". وفتح أندرياس الباب أكثر وانتحى جانباً ليسمح لشاني بالدخول ودخلت الى غرفة الجلوس , وقال: -" اجلسي يا شاني , أيمكنني أن أحضر لك شراباً ؟". -" لا , شكراً". وتسارعت دقات قلبها بجنون , تماماً مثلما حدث في تلك الليلة الى درجة أنها فكرت في الهروب ونفذت فكرتها فعلاً , وجلست فوق أحد المقاعد وهي تحاول عبثا أن تسترخي. وجلس أندرياس على ذراع المقعد المواجه لها واضعاً يديه في جيبي رداء النوم ثم قال: -" ما الذي تريدين قوله لي؟". بادرت بالكلام مندهشة لأن صوتها ظل واضحاً ثابتاً : -" أريد الغاء الزواج". وأعقب العبارة القصيرة الأخيرة صمت ثقيل , بينما كان أندرياس جالساً هناك ينتظر , في موقف المتسائل وكأنه يتوقع سماع المزيد , وابتلعت شاني ريقها وأضافت أنه ليس صعباً التوصل الى الغاء الزواج في حالة مثل حالتهما , واستمر الصمت , وأصبحت شاني الآن هي التي تنتظر وأندرياس يجلس هناك بدون أن يحركه شيء, وحبست أنفاسها وتسلل الشحوب الى بشرته , لكن ومضة الصلابة المتينة في عينيه هي التي جعلت كل عصب في جسمها يرتجف. -" تقولين أنه ليس أمراً صعباً؟". كانت نبراته خالية من أي تعبير , مع ذلك كانت حادة اذ أضاف: -"والآن أتساءل , ما الذي أعطاك هذه الفكرة؟". وسرت البرودة في جسم شاني , واستعادت ذكرى هواجسها السابقة وانطباعها بأن أندرياس كان يبحث عنها, فرغم شهرته ومهارته ترك واحدة من أضخم مستشفيات لندن ليحضر الى لوتراس, وهو قرار لم يدهش جميع أفراد هيئة مستشفى لوتراس فقط, ولن مستشفى لندن أيضا. -" أننا لم نعش مع بعضنا البعض على الأطلاق". لم تجرؤ على أن تذكر براين , ليس بعد, ولكنها أدركت أن أندرياس لا بد أن يسأل بالتأكيد عن سبب طلبها وأضافت: -" اعتقدت بأنك قد تتضايق من هذا, أعني أن تكون مقيداً". -" لو تضايقت لفعلت شيئاً من أجل استعادة حريتي قبل الآن". وتحرك نحو الخزانة وسكب لنفسه شراباً, وأكد في عناد: -"تزوجنا يا شاني وسنبقى هكذا". وهزت رأسها علامة عدم التصديق وقالت: -" أتبقى متزوجاً من امرأة لا تريدك؟ لا يمكننا أن نستمر هكذا بقية حياتنا". وسيطر عليها الفزع تماماً عندما فكرت في براين, فعندما سمع قصتها أخذ يهدىء من روعها وأخبرها بمشروعاته لمستقلبهما , سيظل يعمل في الجزيرة لمدة سنة أخرى, واذا أمكن الغاء الزواج قريباً فسيقضيان شهر عسل طويلاً رائعاً فوق هذه الجنة قبل العودة الى أنكلترا ومواجهة الواقع المحتمل في شراء منزل وتجهيزه والبدء في تكوين أسرة, وكان هذا ما أرادته شاني وهذا ما صممت عليه , ومضت تقول في غضب: -" لو بقيت على عنادك سأوكل محاميا يتولى مهمة الغاء الزواج!". -"حقا؟". وأضاف بلهجة ساخرة: -" يا لضآلة الأهمية التي يعلقها الأنكليز على رباط الزوجية؟". -" يبدو أنك نسيت أنني ارتبطت بك رغماً عني". " رغماً عنك؟ عزيزتي شاني , أيمكنك أن تقولي هذا بأمانة؟". -" لا تدعنا نجادل في أمور تافة , الواقع لم يكن أمامي مجال للأختيار , أليس كذلك؟". -" كان أمامك مجال للأختيار , لا يمكن لأي شخص أن يرغم آخر على الزواج, وخاصة في بلادكم . وافقت على الزواج مني , كما وافق أبوك ولذلك لا أعرف كيف يمكنك الحصول على بطلانه". -" أنت مقيَد أيضاً!". وسأل أندرياس برقة: -" لماذا تتوقين هكذا للحصول على حريتك؟". وابتلعت ريقها وبدأت تقول: -"قابلت شخصاً.... ونريد أن نتزوج...". وماتت بقية الكلمات على شفتيها , واختفى ما بقي من اللون الأحمر في خديها , ولم تستطع أن تحول عينيها عن أندرياس , لأنه نزع عنه القناع , ورأت الهمجي يخرج ببطء من طيات الرقة المزيفة والدماثة المصطنعة واتقدت عيناه بلهيب الغيرة وهو يقول: -" تتزوجين! تريدين الزواج من شخص آخر! أنك متزوجة, أنت زوجتي! زوجتي للأبد كما أخبرتك منذ مدة طويلة. وحذرتك أيضاً بأنك لو نسيت هذا فسيكون فيه ضياعك , لذلك لا تتجرأين على النسيان". وشحبت تماماً , ونهضت من فوق مقعدها تترنح, وتبذل جهداً للتحرك بعيداً حتى لا تقترب كثيراً من ذلك الرجل الذي يمكن أن يكون طبيباً مثقفاً في لحظة ورجلاً همجياً في اللحظة التالية. -" الأف... ضل أن أذ... هب". تعثرت الكلمات بين شفتيها وهي تخطو خطوة الى الوراء في اتجاه الباب: -" آسفة لأنني جئت". ولم تكمل فقد أطبق بيده على رسغها ولم تعد قادرة على التحرك, واقترب منها بوجهه الداكن وتسلل الخوف الى عينيها. انه وحش قادر على اقتراف أي تعذيب , هذا الرجل الذي حطمت رغبته فيها الهدوء الذي كانت هي ووالدها يستمتعان به حتى اليوم المشؤوم الذي دخل حياتهما: -" دعني أذهب!". ولم تكن هناك جدوى من المقاومة ومع ذلك تحولت غرائزها الطبيعية الى المقاومة وأضافت: -" ليس لك حق". -" حق؟ أن لي الحق في أن أفعل معك ما يحلو لي! لي حقوق الزوج سأستخدمها عن طريق... ولم يكمل عبارته , بل جذبها في عناق مؤلم الى درجة أنها أحست بنفسها سجينة بين يدين من الصلب, كم هي حمقاء اذ جاءت الى هنا ووضعت نفسها تحت سيطرة قوته ! لكنها لم تكن تعتقد أن رغبته ستكون قوية كما كانت , ليس بعد فترة خمس سنوات طويلة. وأخيرا بعدما أبعدها عنه ونظر بعمق في عينيها وقال: -" لم تتغيري يا زوجتي الصغيرة, أعتقد أنك أصبحت أكثر فتنة وجاذبية". وأصبح مرة أخرى الرجل المثقف المهذب ( الجنتلمان) الزوج الذي يبدي الرقة في المعاملة, الذين يمكن أن ترغب فيهما أي زوجة: -" شاني , يا فتاتي الصغيرة, ألا يمكننا أن نحاول ؟ لن تعرفي اطلاقاً كيف كنت أريدك . كيف بحثت عنك وبحثت ولم يخطر في بالي أنك في الخارج يا عزيزتي... ألا يمكننا أن نعيش معاً ونكون سعيدين, لماذا تركتني؟". -" كان صوته ضعيفاً بالنسبة الى رجل في قوته, قال: -" ألم أقل لك يا عزيزتي؟ أتذكرين؟ أخبرتك بأنك لو بقيت معي ليلة واحدة لبقيت الى الأبد, هيا عيشي معي, وأنا أعرف أننا يمكن أن نكون سعيدين". اذن كانت شكوكها صحيحة, كان يبحث عنها. وارتجفت من اللمسة التي أصبحت رقيقة للغاية, وتسلل الى أعماقها انفعال لم تستطع أن تغيره, ومع ذلك فان اشمئزازها كله كان حاضراً , اشمئزازها من رغبته البدائية عندما صمم من اللحظة الأولى التي سقطت فيها عيناه عليها , على أن تكون ملكاً له بغض النظر عن تعكر صفو حياة ما زالت في بدايتها . وصرخت وهي لا تزال تشعر بالأذى والألم في فمها وبدنها: -" أعيش معك؟ كيف يمكنك أن تقترح شيئاً كهذا؟ والى جانب ذلك فأنك فيما يبدو , نسيت أنني أحب شخصاً آخر ". غلطة أدركتها بعد فوات الأوان , فالأشارة القاتلة الى رجل آخر اشعلت النيران التي خمدت مؤقتاً , وعرفت شاني مرة أخرى مدى عواطفه المتأججة بلا ضابط, وحينئذ دفعها بقوة حتى كادت تسقط مترنحة فوق الأريكة وقال ساخراً وقد ابيضت شفتاه: -" تحبين! أين هذا الرجل ؟ هل يعرف أنك متزوجة؟". وأشار الى الأريكة خلفها قائلاً: -" اجلسي وسنتحدث بالأمر , ينبغي أن أقابل هذا الرجل الذي يتوهم أنه يستطيع أن يسرق مني زوجتي!". وبقيت شاني واقفة بجانب الأريكة وهي تحاول ببسالة أن تستجمع شيئاً من تماسكها , لكنها كانت مضطربة للغاية وقد ابيض وجهها , وبدا من غير المعقول أن تعاني بهذه الطريقة لمجرد أنها تتمتع بجاذبية معينة قاتلة في عيني هذا الغريب الأسمر. -" براين يعلم أنني متزوجة". قالت ذلك وجسدها يرتجف , والتقت عيناها الجميلتان بعيني زوجها رغم خوفها منه ومما قرأته في تعبيرات وجهه . -" وعدته بأنني سأحصل على الغاء الزواج". وتملكها اليأس , كانت واثقة أنها ستحصل على حريتها في النهاية, لكن هل سينتظر براين؟ عرف عنه أنه ينجذب نحو أي وجه فاتن , كما كانت له علاقات عديدة عابرة قبل أن يكتشف أخيراً أنه يمكنه أن يحيا حياة مستقرة مع شاني, وغضب عندما اكتشف أنها متزوجة , وشعرت شاني بأنها لا تستطيع أن تخبره بأن الغاء الزواج سيتأخر. -" اجلسي". أشار أندرياس مرة أخرى الى الأريكة , وهذه المرة أطاعت شاني , ومضى يقول: -" اذن وعدته بأنك ستحصلين على ابطال الزواج, أليس كذلك؟ كان ذلك طيشاً منك , ألا تظنين ذلك؟". وجلس على المقعد وسيطر عليه هدوء وتمالك نفسه وكأن شيئاً لم يحدث على الأطلاق: -" ما الذي أعطاك الفكرة بأنني سأوافق على فسخ زواجنا؟". وهمست بنبرة متوسلة: -" أندرياس ... أننا لم نتزوج حقيقة على الأطلاق". واغتمت عيناه , وحبست أنفاسها , ما الذي يفكر فيه؟ أخذت تتساءل في فزع: -"اننا لم نتبادل الحب على الأطلاق". رد بصراحة اليوناني المميزة والتي أدت الى تصاعد الدماء الى خديها ثم أردف: -" أنك حتى لم تسمحي لزواجنا بأن يمر بتجربة". -" كنت خائفة منك". قالت ذلك بقوة حتى تذكره بظلمه لوالده في ذلك الوقت : -" كما كنت في الثامنة عشرة فقط... يبدو أنك نسيت ذلك ". وتحدث برقة الى درجة أنها حدقت فيه مندهشة: -" هكذا كنت يا شاني , في الثامنة عشرة ... أدركت أخيراً جداً أنني لم أدخل في حسابي شبابك وحياءك أو خوفك الطبيعي مني أنا الغريب, ولذا لم أبحث عنك على الفور, بل انتظرت حتى أدع الفرصة لتنضجي خلال فترة تدريبك, ثم بدأت أبحث عنك , وخلال ذلك الوقت لا بد أنك رحلت الى الخارج, وبالمصادفة اكتشفت مكانك , عندما نقل مريض من هنا الى مستشفى لندن , وتحدث عن لوتراس , وكان هذا طبيعياً وذكر الأخت شاني ريفز". وخفت صوته حتى كادت لا تسمعه , وقالت شاني: -" الواضح أنك جئت الى هنا لهدف واحد فقط هو مطالبتي بأن أعيش معك , لكن لم يكن من الضروري أن تترك لندن . وتأتي للعمل هنا , كان يمكنك ببساطة أن تزورني". وحدق في كأسه وهو يديرها بين أصابعه , ثم قال بلهجة غامضة: -" كنت أحتاج الى فسحة من الوقت , لأنني كنت أفكر في شيء لا يمكن انجازه بسرعة". وتجهمت شاني , وهمت بأن تسأله لكنه منعها مواصلاً حديثة: -" هذا ليس هاماً الآن , لأن الأحوال ليست كما توقعت". ما الذي يعنيه بالأحوال التي ليست كما توقع؟ هل كان يعتقد أن قلبها ما زال خالياً؟ اذا كان الأمر كذلك فما هي نواياه التي لا يمكن انجازها بسرعة؟ -" أنني لا أفهم". -" لا يهم , ليس الأمر هاماً الآن كما قلت". وحدقت فيه وظهرت ابتسامة ندم على وجهه بددت كل ملامح القسوة , وأضاف : -" ذكرتني فقط بأنك كنت صغيرة السن وقت زواجنا , وخائفة مني, لكنك الآن يا عزيزتي أصبحت أكبر سناً وصرت تعرفين كل شيء , اننا مرتبطان معاً بطريقة لا يمكن فسخها , وألأفضل أن نحاول لأن أماماً طريقاً طويلاً يمكن أن تشوبه الوحدة". أدهشتها طبيعة كلماته والأسلوب الذي صاغها به , كذلك كانت رقة نبراته والطريقة التي نظر بها اليها على النقيض من الطريقة الخبيثة السابقة , فلم تستطع الا أن تجلس هناك وهي تنظر اليه في دهشة دون أن تنبس بكلمة, وقال موضحاً: -" فكري فيما قلته , فكري بعمق يا عزيزتي وضعي في اعتبارك أن زواجنا شيء دائم مهما كان قرارك". واختلس نظرة الى الساعة ثم قال معتذراً: -"ستعذرينني لو طلبت منك الأنصراف , فأن هناك صديقاً سيأتي من أثينا اليوم , وينبغي لي أن أرتدي ملابسي لأنني سأقابله في المطار ". ونظر بثبات في عينيها وأردف: -" فكري في اقتراحي يا شاني , فكري فيه بجدية". ونهضت نابذة عرضه ومركزة تفكيرها , بدلاً من ذلك , على الطريقة التي ستنقل بها النبأ الى براين.
-------------------------
3- اليوناني الأسمر الغامض
كان براين غاضباً جداً وأخذ يهذي وأخيراً استسلم لخيبة أمل مريرة, وأنصتت شاني اليه وأصيبت بصدمة حادة, فقد كان طبيعياً أن تتفهم احساسه بالأحباط , كما كانت ستغفر لمحة الأتهام المؤلمة التي شعرت بها في كلماته لكن ثلاثة أشهر لم تكن بلا شك , كافية لمعرفة رجل له حساسية براين الخاصة. ولفترة قصيرة انصتت , وبعد اللحظات الأولى اضطرت للرد, لم يكن عليها فقط أن تعاني من أندرياس بل أن تتحمل أيضا هجوم براين المرير بدون أن تقول شيئاً ! كانت شاني رقيقة لا تحب الشجار , وشعرت بأنها لقيت من الرجال ما يكفي في الوقت الحالي , ولا شيء مما أغضب أيا من الرجلين يمكن أن يقع على عاتقها وأخبرت براين بأنها لا يمكن أن تلام أبداً في هذه المسألة. واشتعلت عيناه وقال في نبرات هائجة: -" لا يمكن أن تلامي؟ تقولين هذا بعد أن خدعتيني بهذه الطريقة؟". -" لم أخدعك ! حالما أحسست بأنك جاد معي قررت أن أكتب الى أندرياس , وتطورت صداقتنا في النهاية بصورة أسرع مما توقعت , اذ تقدمت لطلب يدي قبل أن أتصل به". وتوقفت عن الحديث وهي تشعر بوخز في قلبها , ومضت تقول: -" لو كنت تحمل لي أي مشاعر لتعاطفت معي و واقترحت الطرق والوسائل لمساعدتي في استعادة حريتي". ومرت بيدها فوق عينيها لكن براين كان مشغولاً بالأسى على نفسه الى درجة أنه لم يلاحظ شيئاً , وقال بخشونة: -" لا يبدو أنك ستستعيدين حريتك على الأطلاق , انه يريدك ولا يحتمل أنه سيتنازل عن ممتلكاته لشخص آخر". ونهضت شاني في الحال وقالت في صوت مختنق: -" أعدني الى البيت , لا أريد أن أراك مرة أخرى اطلاقاً". -" تناولي عشاءك ولا تكوني كمن تقوم بدور في مأساة هكذا ". وومضت عيناها وارتفع ذقنها الصغير وهي تقول: -" اذا لم توصلني الى البيت سأستدعي سيارة أجرة". وكانت تقصد ما تقوله , واحمر وجهه خجلاً من النظرات المحدقة التي أحاطه بها الجالسون حول المائدة المجاورة فنهض واقفاً. وعندما أنزل شاني بعد ذلك بعشرين دقيقة أمام مدخل المستشفى صرخ قائلاً: -" طابت ليلتك يا سيدة مانو". وابتعد بسيارته وسط سحابة من التراب. السيدة مانو ... لم يدعها أحد اطلاقاً بذلك من قبل فيما عدا أحد الضيوف بالطبع بعد حفل الزواج. السيدة مانو ! أن يقول لها براين ذلك وبمثل هذا التأكيد المرير, شيء لن تغفر له اطلاقاً. وجلست على فراشها وحدقت في الوسادة, وللحظة قصيرة كادت تطلق العنان لدموعها , لكن لا ... لن تفعل! لو كان هذا هو عمق حب براين لها يمكنها أن تستغني عنه, أما بالنسبة الى أندرياس فأقل شيء يمكنه أن يفعله هو أن يصلح ما أفسده بمنحها حريتها التي ترغب بها رغبة يائسة. وظل استنكارها لتصرف الرجلين فترة قصيرة , لكن غضبها من براين بدأ يتضاءل تدريجياً , وبمرور الأيام وجدت نفسها بشوق لمكالمة تلفونية منه, بالتأكيد سيتصل بها , لا يمكن أن تكون هذه هي النهاية, ألم يخترها هي . ألم يفضلها على أية من الفتيات الأخريات ؟ ألم يحبها بما يكفي ليريدها زوجة له؟ لكن عندما طالت الأيام وامتدت الى اسابيع , وما زال الصمت مخيماً من جانب براين بدأت شاني تشعر باليأس حتى من رؤيته مرة أخرى. قررت هي وجيني تناول الطعام في الخارج, وتناولتا العشاء في الحي التركي في نيقوسيا , ولم يكن هناك الا آخران يجلسان في المطعم : براين وحبيبة قديمة كان قد نبذها بعدما قابل شاني , وألقت هي على شاني نظرة متعالية لا تخلو من الشعور بالأنتصار, أما نظرة براين لها فكانت جفلة , واحمر وجهه وأصبح اهتمامه منصباً على محتويات صحنه وجمدت نظرات جيني , وقادت صديقتها الى مائدة على الطرف الآخر من الغرفة. ولم تستطع جيني أن تظل صامتة وهي تحدق في براين فقالت: -"الوحش! انك أفضل حالاً من دونه , أنه أكبر عابث في الجزيرة! ". -" أجل أنا أفضل حالاً بدونه". قالت شاني ذلك وهي تنظر الى صديقتها مدركة تماما مدى حيرة جيني, اذ قالت لها شاني أنها تشاجرت فقط مع براين , وكان طبيعياً أن تشعر جيني بالفضول ازاء سبب الشجار , وهذا ما يكن باستطاعة شاني الأفصاح عنه , شعرت شاني بالراحة لأن جيني لم تلح عليها بالأسئلة. كان براين وديبي يضحكان , كم كان شفاؤه من الحب سريعاً! كيف يمكن لحب قوي مخلص أن يخبو بمثل هذه السرعة ؟ حب قوي مخلص ... وتحولت أفكارها فجأة بطريقة غير ارادية ووجدت نفسها تستعيد ما قاله أندرياس حول البحث عنها , لا شك أنها تألمت وهي تراه يجلس هناك مع فتاة أخرى , ارتجف فمها لكنها احتفظت برأسها مرفوعا في أباء , وطوال الوجبة ظلت تتجاذب أطراف الحديث مع صديقتها , وهي تتخذ موقف اللامبالاة . ولكن كيف كان قلبها يئن ! وهن بين طيات الألم الحاد الناتج عن الغيرة بزغ تقدير مفاجىء لمشاعر زوجها . ان غيرته بالطبع كانت نابعة من مجرد رغبته في الأمتلاك , وهو شيء بعيد تماماً عن الحب الروحي الذي شعرت به شاني ازاء براين , في الوقت الحالي لم يكن يخطر ببالها أنها تشعر بقسوة الهجر , كل ما عرفته أن ألم الغيرة الثقيل المسيطر عليها استبعد كل شيء آخر عدا المستقبل الكئيب الذي ستعيش فيه. وامتدت نظرتها الى الركن الذي يجلس فيه الأثنان الآخران حيث كان براين لا يزال يضحك , ومع ذلك شعرت شاني بأن مرحه مفتعل , ولدى ذهابه أومأ بطريقة عشوائية,لكن شاني بطريقة ما , أحست بأن لا مبالاته لم تمنحه الا شعوراً ضئيلاً بالرضا. وفي اليوم التالي اتصل بها تلفونياً واعتذر كثيراً وطلب مقابلتها . -"دعيني أصحبك للخارج؟ أما زلت مشغولة طوال اليوم!". وغمغمت بالموافقة ومضى يقول: -" سنقوم برحلة الى كيرينيا حيث نسبح ثم نتناول العشاء في الخارج". ولم تعلق بشيء واستحثها بلهجة الندم: -"أرجوك يا شاني... تعالي ودعينا نتحدث عن هذه المسألة اللعينة دون حقد من جانب أي منا". لم تكن تحمل أي حقد, على الأقل ليس في البدء , وكان في امكانها أن تذكره بذلك لكنها أحجمت... وتاقت الى المصالحة وها هو يعرضها عليها , فليس من الصواب معاداة براين مرة أخرى, وقبلت دعوته , وأتى اليها في سيارته , بعدما أخذ اجازة ثلاثة أيام ورتب أموره للبقاء مع بعض الأصدقاء في قرية صغيرة غير بعيدة عن لوتراس. وبدأ براين يتحدث وهو مصمم على اصلاح السلوك الجاف الذي اتخذه يوم لقائهما الأخير, وسرعان ما غفرت له شاني لكن أين فرصة تسوية الخلافات ودياً؟ أين الأثارة الناجمة عن استعادة حبه ؟ يبدو أن هناك شيئاً مفقوداً , شيئاً لاحظته شاني ويبدو أن براين لم يلاحظه, اذ أنه كان في أفضل حالاته المعنوية. وفيما بعد عقب استحمامهما , استلقيا فوق الرمال ونظرت اليه شاني وهي تمعن في التفكير وتتعجب من الفراغ الذي تشعر به داخلها , كان العفو بمحض ارادتها لكن الذكرى... لن تستطيع اطلاقاً أن تنسى استنكار براين وعدم تفهمه لموقفها. ما الذي تشعر به نحوه بالضبط ؟ سألت نفسها هذا السؤال , لو غفر المرء فينبغي أن يكون هذا التسامح مقروناً بالرغبة في النسيان, والا بقيت الضغينة المريرة, وكانت شاني تعتقد أن الكمال ضروري في علاقتها مع الرجل الذي ستتزوجه , سواء كان براين أم رجلاً آخر ستقابله في المستقبل ... رجل آخر, ألم يسيطر براين على كل أفكارها منذ شهر واحد فقط؟ ضاقت بهذه الهواجس المزعجة واستبعدتها واستسلمت للسعادة المتاحة لها الآن , وغطست في الماء فوجدته دافئاً وهادئاً يشع بلون فيروزي قرب الشاطىء بينما يتغير على مسافة بعيدة الى الأزرق الفاتح, تقطعه قنوات متعرجة من اللجج الفضية. وخرج براين وجفف نفسه , ثم فرش المنشفة على الرمال واستلقى فوقها وفعلت شاني مثله , ثم قال: -" البحر رائع هنا". ومرت لحظات , وكان الصوت الوحيد الذي يسمعانه هو صوت همهمة الأمواج تلمس الشاطىء , وصياح طائر يحوم حول الساحل . وسأل براين وفي عينيه الداكنتين تعبير الندم: -" هل يمكننا ان نتحدث الآن؟ آسف حقيقة, وبخصوص ذلك المساء". قال العبارة الأخيرة بسرعة, وقد بدأ وجهه يحمر خجلاً ثم أضاف: -" لم أستمتع على الأطلاق , كنت أفضل كثيراً لو كنت برفقتك, مر شهر طويل, ينبغي أن ننسى , بذل جهداً ليساعدها على ذلك". -" لم أفعل شيئاً ازاء الغاء الزواج". واعترف براين وهو يبحث عن يدها: -" أنها غلطتي , كان طبيعياً أن تشعري أنه ليس هناك عجلة ". وضغط على يدها بحنان ولم تستطع شاني أن تستجيب له, لماذا تحولت الآن أفكارها الى زوجها؟. أما براين فأضاف: -" هل ستعيدين العلاقات الى سابق عهدها؟". -" لو كنت تريدني". أجابت بغموض وظهرت على جبينها تقطيبة مفاجئة: -" بالتأكيد أريدك". كان مستلقياً على جنبه , واستند على أحد مرفقيه, وهو ينظر اليها برقة, وبدأت شكوكها تتبدد , وشعرت بأنها أكثر سعادة لأن براين يريدها وهذا هو ما يهم. -" لدي اجازة أخرى يوم الأثنين , وسأذهب الى نقوسيا وأوكل محامياً". -" انك فتاة طيبة ! وكما قلت ينبغي ألا تكون هناك أية صعوبة". -" سيحدث تأخير بسبب وجودي في الخارج". -" الى متى؟". وعندما هزت رأسها أضاف: -" لا ... بالطبع لا يمكنك أن تعرفي". -" أتوقع أن يستغرق ذلك بضعة أشهر". غامرت بهذا القول وأعاد اليها الأطمئنان فوراً في ابتسامته وقال: -" يمكنني أن أنتظر , رغم أن هذا لن يكون سهلاً , وعلى أي حال سنرى بعضنا بعضا أبان تلك الفترة". واقتربت منه , وغمغمت وهي ترفع وجهها : -" ستكون أمامنا فترة خطوبة أطول". -" كنت أحمق يا شاني , فسامحيني يا عزيزتي". وكانت قد سامحته , لكنها عبرت عن عفوها بعينيها فقط, اذ فجأة أصبح الكلام عسيراً, واعترض علاقتها ببراين شعور واضح بالتوتر أقلقها كثيراً. وفي الوقت نفسه كان أندرياس يعاملها في المستشفى بفتور, أما ليديا , من ناحية أخرى , فكانت كما قالت عنها جيني بطريقة فجة , ماضية في طريقها وثباًً وقفزاً. -" انها ستفوز به". أكدت جيني ذلك يوماً عندما كانت هي وشاني تجلسان أمام نافذة غرفتها , تراقبان ليديا وهي في طريقها الى الفيلا التي يقيم فيها أندرياس , وفتح الباب لحظة طرقته , وأعلنت جيني أنه كان ينتظر زائرته بلهفة. -" انني أتعجب ماذا تفعل هناك". قالت شاني ذلك وهي مسغرقة في التفكير, وارتفع حاجبا جيني وأضافت شاني بسرعة: -" أعني من الممكن أن ليديا تقوم ببعض الأعمال الكتابية للسيد مان , كما فعلت مع دكتور سكوفيلد". ووافقت جيني ضاحكة: -" من الممكن أنها ستنجح , هذا أمر يسهل ادراكه". وهزت شاني كتفيها بلا مبالاة ولم تعلق, لو أن أندرياس وقع في الحب فان هذا يبسط الأمور , اذ سيكون حينئذ تواقاً مثلها الى الغاء الزواج. وجاءت جيني الى صديقتها قبل أن تبدأ العملية الجراحية مباشرة وقالت لها: -" السيد مانو في حالة عصبية حادة... ما الذي يعاني منه؟". -" أعتقد أنه متأكد , حتى قبل أن يبدأ , من أن الشاب سيصبح أبله". سمعته يتحدث مع الرئيسة عن هذا , ويبدو أن هذا هو سبب اكتئابه, فالشاب له زوجة وطفلان كما تعرفين, ولا عجب أنه في هذه الحالة المزاجية الغاضبة. ولم تكن جيني تبالغ, فعندما دخل أندرياس غرفة العمليات ألقى تحية الصباح جافة على شاني بدون أن ينظر اليها , واغتسل وبدا الأنفعال والتوتر على وجهه , وبينما كانت كريستالا الممرضة الصغيرة لغرفة العمليات تساعده على ارتداء معطف العمليات, غامرت بالأبتسام له, فتلقت تقطيبة أقلقتها. وألقى أوامره بحدة, وحملق بشدة في شاني بدون سبب على الأطلاق, وعندما أخطأت تحت وطأة أعصابها المشدودة فناولته الآداة غير المناسبة ألقى بها على الأرض. ومرت ساعات مشحونة بالتوتر, وظهرت على جبين أندرياس حبات كبيرة من العرق وأخذت كريستالا الواقفة بجواره تجففها. وفجأة شد انتباه شاني تعبير الخطورة على وجه طبيب التخدير وهو يقيس نبضات قلب المريض , وتحدث الى أندرياس بصورة عاجلة, وأدركت شاني أن أندرياس في بدء العملية راوده الأمل أن تحدث معجزة , وعليه الآن الأعتراف بأن دماغ المريض لن يعمل اطلاقاً بطريقة طبيعية, وأنه سيصير عالة على زوجته وأسرته بقية حياته. وأخيراً انتهت الجراحة, وراقبت شاني تعبيراته التي كانت خليطاً من الغضب والأحباط , فكانت الهزيمة شيئاً لا يمكن أن يتحمله أندرياس مانو. وأسرعت شاني تتجاوزه لكن أندرياس ناداها هذه المرة: واستدارت وهي تلقي نظرة خاطفة على طرف الممر حيث كانت الرئيسة تتحدث مع دكتور شارا لابيدز, وكان لا بد لشاني أن تبدي الأحترام لرئيسها فقالت: -" نعم يا سيدي؟". -" أريدك في منزلي هذا المساء, لدي شيء أريد مناقشته معك". كانت لهجته رقيقة ناعمة لكنها فاحصة وهو يضيف: -" كوني هناك في السابعة تماماً". ووصلت شاني في السابعة الا خمس دقائق , وكان الباب نصف مفتوح, ودعاها للدخول , تسارعت دقات قلبها , وشعرت بساقيها ترتعشان أيضا, عندما دخلت غرفة الجلوس , هل تلقى رسالة من محاميها؟ يبدو الأمر كذلك, ومن سوء الحظ أنها جاءت في هذا الوقت وهو يشعر بالأحباط نتيجة للعملية, وأشار بيده الى مقعد وهو يقول: -" اجلسي". وغاصت في المقعد. -" ما كل هذا الذي يجري بشأن الغاء الزواج؟". سألها وكأن الأمر لم يناقش من قبل على الأطلاق. -" هل سمعت شيئاً من المحامي؟". -" سألتك سؤالا؟". قال ذلك بحدة في صوته, وأحست شاني بضيق واضح من موقفه وتمتمت بلهجة تنم عن الحرج: -" أخبرتك قبلاً أنني أريد حريتي". قال وهو يؤكد كلماته: -" وأنا أخبرتك أننا سنظل متزوجين". وتوقف وظهره لجهة النافذة , شبحاً داكناً ملامحه خالية من التعبير. -" الواضح أنك لم تفكري في اقتراحي بأن نحاول العيش معاً". وحدقت فيه مشدوهة وصرخت: -" نحن غريبان , كيف تتوقع مني أن أعيش معك؟". -" اننا زوج وزوجة يا شاني". كان صوته ناعماً ومع ذلك أحست شاني بقدر من القسوة في هذا الغريب المهيب الذي يثير أعصابها , وذكرها مرة أخرى, بعد كل هذه السنين بحيوان على وشك أن ينقض , حيوان يحسب حساب كل خطوة, ويتربص للقضاء على أية محاولة للدفاع عن النفس: -" أنت وأنا مرتبطان ارتباطاً لا ينفصم , أخبرتك بذلك . اننا مرتبطان حتى يموت أحدنا". وهزت رأسها, لا ارادياً كما لو كانت الفكرة تؤلمها , وجف حلقها وسعلت كي تعيد اليه شيئاً من الليونة , وفاجأها بمقدرته على الفهم حين قال: -" هل أحضر لك شراباً؟". -" أجل , أرجوك". تملكها احساس بالزيف , شخصية هذا الرجل القوية, شخصيته الهادئة , تصميمه على البقاء متزوجاً منها , وجوده لم يجلب الا المصائب, لماذا دخل حياتها؟ لماذا لمحته عيناها على الأطلاق, ورغب فيها من اللحظة الأولى؟ وبعدما رآها لم تفتر حرارة عواطفه الملتهبة بعد كل هذه السنين؟ ونظرت في وجهه , انه نحيل داكن , ينم عن الكبرياء , وقوي ووسيم أيضا , وفي داخلها تحركت عاطفة سريعة أثارت أحاسيسها بطريقة أبهجتها وأفزعتها في الوقت نفسه". صدمها هذا الأحساس الجديد, فحولت رأسها وهي تتعجب من القوة الغريبة التي يمتلكها هذا اليوناني الأسمر الغامض. وبعث الشراب النشاط في قلبها , ومنها الشجاعة لتستفسر مرة أخرى اذا تلقى رسالة من محاميها. -" تلقيت رسالة بعد ظهر اليوم, ولهذا أنت هنا". وتناول شرابه بلهفة , ثم وقف وهو يحدق في الكأس لحظة وقال: -" أنك تضيعين وقتك ومالك". وتوقف منتظراً أن تنظر اليه ثم أضاف: -" نحن متزوجان , وكلما أسرعت بتعويد نفسك على هذه الحقيقة , كلما كان ذلك أفضل". وازداد نبضها سرعة , كان أندرياس واثقاً من نفسه للغاية, وفاتراً جداً ازاء المسألة كلها , ومع ذلك ما الذي يستطيع أن يفعله؟ -" قال المحامي أن الغاء الزواج سيكون شيئاً بسيطاً". واتسعت عيناها وهما تحملان نظرات التوسل , اذ أضافت: -"أريد حريتي يا أندرياس , أجبرتني على هذا الزواج ولا يمكنك أن تتوقع أن أبقى معك , بدون حب...". وتجهمت وهي تقول كلمتها الأخيرة, وتعجبت من الغضون العميقة التي ظهرت على وجه زوجها , هل هذا نتيجة احباط الأمس؟ لكن لا, ليس هذا احباطاً, انه ألم مبرح وكرب عميق وهذا شيء مضحك بالطبع لأن أندرياس مانو أكثر رجل يمكنه أن يعاني من الألم والكرب, وسأل متجاهلاً كلماتها: -"ما الذي أخبرت به محاميك بالضبط؟". -" كل شيء ... اضطررت الى ذلك". -" ما هو كل شيء؟". -" قلت أنك جعلتني أتزوجك بتهديد أبي بالأبلاغ عنه , وطبعاً قلت أننا لم نعش معاً على الأطلاق, وهذه هي حجتي القوية في محاولتي الحصول على الغاء الزواج". -" وهل الأمر كذلك الآن؟ ما أقل ما تعرفينه يا عزيزتي , هل أخبرت ذلك الرجل من أكون؟". -" لم يكن باستطاعتي أن أفعل شيئاً آخر , انني آسفة اذ أفعل ذلك , لكن يجب أن أحصل على حريتي". كان أندرياس جراحاً معروفاً ذائع الصيت , ومن الطبيعي أنه لا يرغب أن يمس اسمه أي شيء لا يتفق مع المبادىء الخلقية السليمة, لكن كان عليه أن يفكر في ذلك عندما أرغمها على ارتباط لم يكن أمامه أية فرصة للنجاح. -" وهل أخبرك محاميك بأن الألغاء سيكون سهلاً ". ووضع أندرياس الكأس على المنضدة , وتقدم نحو مقعدها ووقف هناك , يطل عليها بقامته الفارة المسيطرة ونظرت اليه تحركها قوة لا تقاوم لمقابلة تلك النظرة الفاحصة, وبينما يحملقان أحدهما في الآخر أدركت شاني مرة أخرى تلك العاطفة القوية التي اجتاحتها وبدأت حمرة الخجل تتسلل الى وجنتيها , ورفرف الأعجاب لحظة لكن القسوة بقيت ... لا ... ليست هناك دلائل هزيمة في هاتين العينين الداكنتين الواسعتين , بل هناك حزم وتصميم وثقة بالنفس أثارت اضطرابها الى حد كبير , ومضى يقول: -" الواضح أنك جاهلة بحقيقة أن المحامين هنا مشهورون بضآلة معرفتهم للقوانين الأنكليزية ؟ هذا الرجل الذي استخدمته لا يعرف عما يتحدث". -" بالتأكيد يعرف". -" أعتقد أنك تدركين السهولة التي يمكن بها للقبارصة أن يفسخوا زواجاً؟". وتجهمت ... الى أي شيء يؤدي هذا؟. -" انهم يحصلون أحياناً على الطلاق بالموافقة المتبادلة".. وأكمل بابتسامة فاترة: -" ما أريد أن أشير اليه حقاً أن محاميك هذا يعتقد الغاء الزواج أمراً سهلاً, هل أخبرته بأننا تزوجنا في أنكلترا؟". وبدأت شجاعتها تنهار, رغم أنها كانت ترفض بعناد أن تعترف بأن أندرياس يستطيع أن يبقي على ارتباطها به. -" ومع ذلك يعتقد أنه يمكنه الحصول لك على الغائ الزواج, أنا فقط يمكنني أن ألغي الزواج , ولست في وضع يمكنك من هذا سواء أنت أم محاميك من يعتقد العكس". وحدقت فيه وتساءلت: -" أنت؟ لكنني أنا الطرف المتضرر لأنني أرغمت على الزواج تحت التهديد". -" لا تقولي هراء! تزوجتني بارادتك . وبالنسبة لكونك الطرف الذي أضير ... لا أرجوك انتظري حتى أكمل كلامي , هيأت لك بيتاً ورفضت أن تعيشي معي, ومن وجهة نظر القانون أنا المظلوم , ونتيجة لذلك فأنني وحدي الذي أستطيع أن ألغي الزواج". ووضعت كأسها فوق المنضدة, وجلست وقد تشابكت يداها تحدق في الهواء, هل هذا حقيقي؟ سيطر عليها تماماً القلق الذي تسلل اليها, هل هي مقيدة الى هذا الرجل طوال الحياة؟ ورفعت عينيها وهي تتوسل في صمت ولكن كان كل ما قاله : -" أعرف أنك أعطيتني ردك بالنسبة الى مستقبلنا , لكن هل هذه هي كلمتك الأخيرة؟". -" بالتأكيد هي كلمتي الأخيرة , لن أعيش معك اطلاقاً, والى جانب ذلك فانك- فيما يبدو- تغاضيت عن حقيقة أنني...". وخفت صوتها حتى أصبح صمتاً عندما لاحظت تعبيره المتغير بسرعة , ثم رد بنعومة: -" أجل ... أنت؟". وخشيت أن يسد الخوف حلقها وتحدثت بسرعة قبل أن تخونها شجاعتها: -"انني أحب شخصا آخر , وانت تعرف ذلك". وأعقب ذلك صمت متوتر, وعندما قررت أخيراً أن تنظر اليه أدركت أنها لو تطلعت قبل ذلك لرأت شيئاً مختلفاً تماماً عن النظرة الباردة التي تواجهها الآن. -" أريد أن أتزوجه يا أندرياس. واذا كان لديك كرامة على الأطلاق فانك لن تقف في طريق حصولي على الغاء الزواج". -" قلت للتو أنك لا تستطيعين الغاء الزواج, وقلت أيضاً أنني يجب أن أرى الرجل الذي يعتقد أنه يستطيع سرقة زوجتي مني ... من هو؟". -" براين ... انه ضابط في السلاح الجوي الملكي". -" انكليزي ... ايه؟". -" من الطبيعي أن أرغب في الزواج من رجل من بلدي". ونهضت وأخذت حقيبة يدها من فوق المنضدة , ثم قالت: -"ليس هناك شيء بيننا نناقشه , حذرني المحامي بألا أكون معك وحدي". -" ينبغي ألا تكوني وحدك مع زوجك؟". مرة أخرى كان أسلوبه مختلفاً تماماً عما توقعت: -" ماذا قال غير ذلك؟". الصوت الهادىء , والأفتقار التام للأنفعال كانا ينبغي أن يكونا مصدراً لقلقها أكثر كثيراً من مظاهر عنفه, ولكن بدلاً من ذلك بعث هذا المظهر الطمأنينة في نفسها حيث وجدت الشجاعة لترد عليه بطريقة لم تكن تجرؤ عليها من قبل اطلاقاً: -" قال أنه ليس لديك حجة كافية, وأنا أثق في حكمه رغم ما تقوله!". وكان كل ما رد به أندرياس حركة في حلقه واهتزازة من كتفيه قبل أن يستدير ويفتح الباب ويقف جانباً ليسمح لها بالمرور عبره الى الردهة , وكان الباب الأمامي مفتوحاً على مصراعيه وحول الأضواء في الفناء تحوم عشرات الفراشات الضخمة , ومن هناك يأتي الصوت المكتوم للأمواج وهي تلمس الشاطىء برفق, واستدارت شاني لتغلق البوابة خلفها فرأت أن أندرياس دخل البيت وأصبح الباب الأمامي مغلقاً الآن , وكانت على وشك أن تمضي في طريقها عندما وجدت أن عينيها منجذبتان بطريقة لا تقاوم نحو النافذة المضاءة لغرفة الجلوس , والظل الساطع على الجدار, فتجهمت وابتلعت شيئاً يؤلمها في حلقها : كان أندرياس جالساً ورأسه بين يديه.
-----------------------
4- العطلة البريئة
ما هذا الشك الذي يعتريها, ذلك الأضطراب المعذب في تفكيرها ؟ لم تعد ترغب في شيء سوى التحرر من أندرياس . بالـتأكيد أرادت أن تتحرر منه!. مر أسبوع على زيارتها الأخيرة لمنزل زوجها . ناضلت خلاله لتستعيد وضوح الرؤية , وكان براين مسافراً يقوم بمهمة لمدة شهر في أنكلترا , مما أثار ضيقه أما شاني فشعرت بموجة راحة تجتاحها لغيابه, فعندما يحين وقت عودته لا بد أن تكون خرجت من سحابة الشك المحيرة التي تحيط بها. ومع ذلك كان كل يوم يمر يزيد من اضطرابها , وفي النهاية اضطرت الى الأعتراف بأن السبب يرجع الى أن أندرياس يقتحم أفكارها الى مدى أبعد مما يريح ذهنها , وكان الشيء الغريب هو أنه مع هذا الأقتحام يأتي الأعتراف التدريجي بنفسها كأمرأة متزوجة , اذ منذ بضعة أشهر كان زواجها يعتبر حالة زائفة سيتولى الوقت مهمة حلها, لكن الآن بدأت تتقبل هذه الحالة , والواقع أنها في احدى المناسبات أخرجت خاتم زواجها من علبته ونظرت اليه مفتونة , وخافت من وضعه في أصبعها ... السيدة مانو... ولم يفعل المحامي شيئاً أكثر, وعندما اتصلت به هاتفياً آخر مرة قال لها أن هذه الأمور تستغرق بعض الوقت, لكنه مضى يؤكد لها أن الدعوى القضائية سائرة في طريقها , ولا ينبغي أن تقلق مطلقاً. وعندما سمع براين بتفاؤل المحامي أصر على احتفال سابق لأوانه وصحب شاني الى فندق هيلتون , وأثناء العشاء بذلت محاولات عديدة لأخباره بنبأ استدعائها الى منزل زوجها , لكنها لم تستطع , وهكذا سافر براين الى أنكلتراوهو يجهل تماماً تأكيد أندرياس بأنه هو وحده الذي يملك السلطة لألغاء الزواج. -" أعتقد أنه بات الآن مستسلماً الى حد ما". قال براين ذلك بارتياح ينم عن الفوز وهو يجلس مع شاني في السيارة لحظة قبل أن يلقي عليها تحية المساء , وأضاف: -" لا يمكن أن يحدث شيء آخر على ضوء تفاؤل المحامي الى هذا الحد". وقالت شاني وهي تتجنب الرد المباشر: -" قد يكون مخطئاً ... أقصد المحامي, ربما يعتقد أنه من السهل أن يتم هذا كما يجري هنا , فالطلاق في قبرص أمر سهل". -" للأسف أن هذا لا يحدث في أنكلترا". رد براين بذلك وقد أخطأ فهم ما تقصده, مما أدى الى تقطيبة حادة على جبينها , اذن فهو يرى أن الطلاق ينبغي أن يكون سهلاً ... وعندما لم تتحدث كرر براين سؤاله: -" يبدو أنه مستسلم قليلاً ومع ذلك...". وقال براين بحدة: -" قليلاً ؟ ماذا تقصدين؟". -" يجب أن أكون صريحة : أندرياس لا يريد أن يطلقني". وتجهم براين فجأة وهو يقول: -" يا له من غبي ! لكنك تصرفت كما لو كان سلم بالأمر". وبقي ترددها في مناقشة أمر أندرياس, وكادت شاني تطلب من براين أن يعنى بشؤونه الخاصة, لكنها سرعان ما أدركت أن هذا غير منطقي الى حد كبير من جانبها , ومضت تشرح له أن أندرياس يبدو من ناحية مسلما بالأمر الواقع ومن ناحية أخرى , أصبح يبدو كثيراً مستغرقاً في التفكير ومن يدري لعله يدبر خطة ما. وقال براين: -" أنك خيالية جداً ... ما الذي يعد له؟". -" لا شيء ... انني خيالية كما تقول". -" حسناً ... سواء كان مستسلماً أم لا فأنه سيضطر لأطلاقك , فالمسألة خرجت من بين يديه تماماً". وفكرت شاني , كم هو قليل المعرفة! وتمنت لو كانت لديها الشجاعة لأخباره بالحقيقة, اخباره بتأكيد أندرياس الحاسم أنها لا تملك أسساً تستند عليها في الحصول على الغاء الزواج. وبعد رحيل براين بأسبوع أقامت هيئة المستشفى حفل وداع لممرضة يونانية كانت ستتزوج يوم الأحد التالي , حضر جميع الأطباء كذلك الممرضات اللواتي ليست لديهن نوبات عمل, ومن بينهن شاني وجيني, كانت شاني تحظى بشعبية لدى الجميع, ليس فقط بسبب جمالها الفاتن ولكن أيضا لأحساسها العميق بالأمانة والتعاطف , وحظيت بقدر كبير من اهتمام الأطباء , وفي المرات العديدة التي لاحظت فيها نظرة زوجها اليها رأت ومضة التصلب في عينيه , وأخذت ليديا تحوم حوله في ثقة, ومن حين لآخر كانت الهمسات تتردد حولهما. وأكد دكتور شارالا مبيدز وفمه قريب من أذن شاني : -" انهما صديقان فقط... لن يتزوجها اذا كان هذا ما تتوقعه ". ودفع هذا شاني الى الأستغراق في التفكير وضحكت ضحكة رنانة أثارت اهتمام أندرياس بها مرة أخرى. واعترفت بأنه وسيم والتقت عيناها بعينيه وأصبح الأحساس بالقلق قوياً في أعماقها الى درجة أنها تحركت مبتعدة عن المجموعة الصغيرة التي أحاطت بها ووقفت وحدها تنظر من الفناء نحو البحر ثم الى جبال تركيا التي تكتنفها الحرارة ومع ذلك ما زالت مغطاة بالثلوج. كان ذهنها مضطرباً , لماذا تستاء فجأة من موقف ليديا الذي ينم عن الرغبة في امتلاك أندرياس ؟ أنها تستاء منه رغم أنها ضحكت من ملاحظة دكتور شارالا مبيدز, وفكرت في براين , الذي رحل منذ أسبوع , ولم تفتقده اطلاقاً, وساور شاني احساس بالذنب ازاء ذلك خاصة أنها الآن أصبحت عاجزة عن تصور مستقبلها كزوجة له. -" ألا تشربين؟". كان الصوت خفيضاً مهتزاً ومع ذلك كان رقيقاً بشكل ما, واستدارت شاني وقد تسللت الى وجنتيها حمرة الخجل الناعمة: -" تركت كأسي فوق المنضدة". وحملها أندرياس اليها وأخذتها منه, يسيطر عليها شعور بالخجل وهي تتطلع الى وجهه , شكرته واحتست الشراب بطريقة آلية وهي واعية لعيني ليديا الداكنتين تنظران اليها. -" سنفتقد أندرولا". كانت كلماتها عادية مضطربة : -" الواقع أنها ... ممتازة". وتوقف أندرياس عن الكلام وكان فاتراً هادئاً ثم أضاف: -" ألا نجلس؟". وجلست شاني على المقعد الذي قدمه اليها , ثم قالت متلعثمة: -" ستأخذ اجازتك قريباً, هل ستقضيها في بيتك؟". -" ليس لي بيت يا شاني". كانت العبارة هادئة تماماً ولكنها تحوي لمحة لوم ولا تخلو من الحنين, وشعرت بالذنب, وفكرت بتجهم سريع, لماذا يثير الرجلان اللذان دخلا حياتها هذا الشعور بالذنب؟". -" انني ذاهب الى جزيرة كوز أتعرفينها؟". وفقدت لامبالاتها , وبرق في عينيها وميض الشغف وقالت: -"الجزيرة اليونانية؟ بالطبع أعرفها, كوز , مسقط رأس أبو قراط , أبو الطب". -" هل زرت الجزيرة؟". وهزت رأسها وهي تقول: -" آمل أن أزورها في وقت ما , ينبغي في الواقع أن أذهب الى هناك". وسأل بابتسامة قاتمة: -" لأي سبب؟". وابتسمت رداً على ابتسامته ثم قالت: -" لمشاهدة الأسكلبيون (1) هذا طبيعي , أعتقد أن كل من يعمل في الطب لديه رغبة في الذهاب الى هناك". -"الأسكلبيون مستشفى أبو قراط , أتعرفين أنه يجري بناء مركز هناك حيث يمكن للأطباء , من جميع أنحاء العالم أن يلتقوا ويتناقشوا؟". ولمعت عيناها: -" مدهش! لا يمكن أن يكون هناك مكان أكثر ملائمة من ذلك في العالم كله لأقامة مثل هذا المركز". -" بالتأكيد لا يمكن". وأعقب ذلك فترة صمت طويلة , وشعرت شاني ان احساساً بالتوتر بدأ يتسلل اليها , لكنها لم تكن مستعدة على الأطلاق لسماع كلمات زوجها التالية: -" لماذا لا تأتين معي يا شاني؟". وتنفست بسرعة وقفزت الى ذهنها صورة مفاجئة جزيرة كوور الصغيرة وأندرياس يرافقها. -" هذا مستحيل , وأنت تعرف ذلك". -" أيمكنك أن تعطيني سبباً واحداً وجيهاً، لماذا تجدينه مستحيلاً؟". ونظر أندرياس اليها نظرة ثابتة , وازدادت حمرة الخجل في وجنتيها , وطغى عليها اضطراب وتراجع عندما أدركت أن فكرة الذهاب مع زوجها لم تستبعد على الفور من ذهنها , وهمست: -"لن يكون هذا تصرفا سليماً يا أندرياس". -" أنك زوجتي يا شاني". وغمغم بذلك وهزت رأسها مؤكدة رأيها فأضاف عندما لاحظ ترددها: -" سنذهب كصديقين فقط". -" صديقين؟". وتذكرت وحشيته ورغبته الجامحة , ثم تمعنت في وجهه بدقة... أن ما رأته في ملامحه لا يمكن اساءة فهمه . كلمته هي شرفه , ولن ينقضها. -" انني ... انني...". واستمرت عيناها الجميلتان تنظران اليه يحولهما الشك الى لون داكن. -" اجازتي لا تتفق . لا تتفق مع اجازتك". كلمات ضعيفة وغير مقنعة على الأطلاق, ما الذي انتابها؟ -" أعتقد أن أجازتك تبدأ بعد اجازتي بثلاثة أيام , يمكنني أن أنتظرك". أيمكن أن تكون تحت تأثير الخيال أم أن هناك لمحة توسل في صوته حقيقة, واستعادت ذكرى اعترافه بأنه بحث عنها, وتعجبت من شخصية هذا اليوناني الأسمر الذي بدأ يقتحم أفكارها رغم جهودها لأبعاد صورته عنها , لكن هذا أصبح مستحيلا, فالواقع أنه كثيراً ما يحتل ذهنها مستبعدا كل شيء آخر , حتى براين, الذ ي كانت جميع أحلام مستقبلها تتركز حوله الى عهد قريب. -" لا يمكننا بسبب القيل والقال". -" ليس من الضروري أن يعرف أحد". قال هذه الكلمات في تردد, وتعجبت شاني لماذا يقيم علاقة مع ليديا اذا كان لا يزال يريد زوجته؟ لكن هل كانت هناك علاقة؟ ان العاملين في هيئة المستشفى يعتقدون ذلك. ولكن شاني لم تقتنع تماماً بذلك. -" سيعرف الناس, لأننا لا نستطيع أن نجعل هذا سراً مكتوماً , سيرغب كلانا في التحدث عنه عند عودتنا". ماذا بها؟ سألت نفسها مرة أخرى , أن فكرة قضاء اجازة مع أندرياس لا محل لها. -" من جانبي لن أهتم , لكنك أنت؟". وللحظة لمحت حقد الغيرة الأسود في عينيه قبل أن يواصل كلامه: -"لديك هذا الشاب , هذا (البراين) الذي تعتقدين أن بأمكانك الزواج منه, رغم تأكيدي الحاسم بأنك لن تحصلي على حريتك". أكمل حديثه بسرعة وكأنه يخشى أن تخونه كلماته: -" ينبغي لنا أن نحافظ على سرنا". وفي صمت احتست كأسها يسيطر عليها الشك والحيرة, هل تقضي اجازة مع رجل آخر بينما براين بعيد في الخارج؟". وهمست بقوة: -" لا , لا أستطيع الذهاب معك, أرجوك أن تنبذ الفكرة كلها!". وكان التوتر يملك نفسه , لكنه استرخى الآن واتكأ الى الخلف في مقعده, أشبه برجل غامر وخسر , وتسلل لون رمادي تحت بشرته مختلطاً باللون البرونزي الداكن العميق الذي ورث جزءاً منه واكتسب الجزء الآخر من تعرضه للشمس , وتنهد وهو ينهل من كأسه بعمق: -" كما ترغبين يا شاني". -" أنني آسفة". الشعور بالذنب مرة أخرى , كم تتمنى لو استطاعت أن تطير الى مكان ما بعيداً عن هذين الرجلين اللذين يمزقان روحها ارباً, وفجأة تجهمت , هل كان براين عنصراً هاماً حقيقة في هذه الرواية؟ تضاءل دوره تدريجياً في الوقت الذي أخذ الضوء يتركز على أندرياس بطريقة بطيئة, ولكن مؤكدة, وفي غمرة الصراع العنيف لعجزها عن اتخاذ قرار دفعت يداً مرتعشة بين طيات شعرها , وقالت مرة أخرى وهي تناضل بيأس من أجل اتخاذ ما تراه موقفا مشرفاً: -" أنني آسفة , انها فكرة مستبعدة أن نسافر معا الى الخارج". -" أوضحت ذلك بالفعل". قال ذلك بصوت كان يفتقر لدهشتها الى الخشونة التي توقعتها , واستدار مبتسماً بينما كانت ليديا تقترب منهما. -" هل أستطيع الأنضمام اليكما؟". كانت نظرتها الى شاني متكلفة لأن عينيها تركزتا على أندرياس وحده, لكنه نهض وهو يقول أنه ينبغي أن يتحدث مع رئيسة الممرضات , وترك شاني وحدها مع الفتاة, كان واضحاً أن الأمل يراودها في أن تصبح زوجة أندرياس , وساد بينهما الصمت حتى قالت ليديا أخيراً بطريقة مفاجئة: -" كنت أنت والسيد مانو مستغرقين في الحديث, هل كنتما تناقشان مسائل تتعلق بالعمل؟". كم هي حركة شفافة ! فكرت شاني في ذلك بقسوة غريبة عن طبيعتها الى حد ما , وردت بلا تحديد لمعاني كلماتها: -" لم يكن عملاً". وانتصبت ليديا وابتعدت وعبرت الغرفة للأنضمام الى أندرياس والرئيسة , وبقيت شاني حيثما كانت , لا تريد أن تكون في صحبة أحد وهي في مثل هذه الحالة من الأضطراب, ومع ذلك ابتسمت عندما جاءت اليها جيني بعد ذلك ببضع دقائق: -" لا تستطيع أن تتركه وحده!". قالت جيني ذلك وهي ترتمي فوق المقعد الذي خلا بذهاب أندرياس وتركزت عيناها على ليديا التي أصبحت الآن وحدها مع أندرياس. -" لا أحد يعتقد أنها تستطيع الفوز به, لكنني لست متأكدة الى هذا الحد". وغص حلق شاني بشيء غريب وهي تقول: -" لست متأكدة؟ ألديك سبب خاص لهذا القول؟". -" انها دائماً تحوم حوله, وعلاوة على ذلك اقترحت فعلاً الذهاب في اجازة معه, ما رأيك في هذه الوقاحة؟". وارتعشت رموش شاني , وقالت بهدوء: -" كيف عرفت أنها اقترحت الذهاب معه؟". -" سمعتها للتو". -" ماذا قالت؟". -" لكي أنقل كلماتها بالضبط قالت:" أندرياس كنت أفكر أنني أتوق الى زيارة كوز اذن لماذا لا نذهب معا؟". -" والسيد مانو ماذا قال عن ذلك؟". خرجت الكلمات بصعوبة نتيجة لجفاف في حلق شاني. -" لا أدري , لم أستطع الوقوف هناك لمجرد الأنصات الى حديثهما , لقد سمعت ما أخبرتك به وأنا مارة بهما". وأخذت شاني تفكر ! هل سيوافق أندرياس على اقتراح ليديا؟ ربما... فالذهاب بمفرده لن يسعده كثيراً, لكن لماذا تهتم اذا ذهبا معا؟ مضت أسابيع قليلة فقط منذ كانت تأمل أن يقع أندرياس في حبها ويوافق على الغاء الزواج. أسابيع قليلة, نعم, لكن يبدو أن أشياء قليلة حدثت لها في بحر تلك الفترة, وشعرت شاني بوخز غير واضح في قلبها , اذ ألقت نظرة الى حيث كان الأثنان واقفين, وهما مستغرقان في الحديث , ترى هل يخططان لأجازتهما؟ لماذا لا ينبغي لها الذهاب مع زوجها؟ خطر لها هذا السؤال مرة ومرات في اليوم التالي للحفل , واكتشفت تدريجياً , أنه لا يوجد له رد واحد فقط, لكن شاني ما زالت مترددة , وربما كانت تستطيع مقاومة رغبتها المتزايدة لولا أن ليديا جاءتها في مقهى القرية تلك الليلة , عندما ذهبت شاني لأحضار زجاجة شراب طلبتها جيني , ودعاها صاحب المقهى بالطبع الى فنجان قهوة. -" أيتها الأخت ريفز". بادرت ليديا بالكلام بدون مقدمات وهي تجلس على مقعد في مواجهة شاني , وأضافت: -" بشأن ليلة أمس, كان أسلوبك معي جافاً الى حد الوقاحة وأود أن تذكري أن لي قدراً معيناً من السلطة في المستشفى, ولذلك يجب أن تحترميني". وردت شاني في الحال, وقد بدأت تتوتر: -" والدك له سلطة , نعم, أما أنت...". وتوقفت عن الكلام وهزت كتفيها بلا مبالاة , وهي تنقل يدها من فوق المنضدة عندما وضعت القهوة أمامها. وقالت ليديا يلهجة لاذعة: -" أخشى أن تكوني أصبت بالغرور نتيجة الأهتمام الذي يبديه رئيسك نحوك, لكن لمصلحتك أنصحك بألا تنظري الى هذا الأهتمام بجدية, فهو أمر تقتضيه أصول المهنة فقط". وومضت عينا شاني وشعرت بدافع لا يقاوم في أن تكشف الحقيقة كلها, لمجرد الأستمتاع بمشاهدة دهشة ليديا وذعرها, لكنها بدلاً من ذلك قالت بطريقة عفوية: -" يبدو أن لديك أسساً لهذا التأكيد؟". وقالت ليديا في اندفاع: -" نعم لدي... السيد مانو وأنا مخطوبان". وأسبلت رموشها لأخفاء تعبيرها ثم أضافت: -" الواقع أننا سنعلن خطبتنا فور عودته من كوز". وفكرت شاني في احتقار الفتاة الغبية, كل هذا كان مجرد آمال تراودها , ربما يكون أندرياس مهتماً بليديا, لكنه ما زال مصمماً على التمسك بزواجه, ومرة أخرى شعرت شاني برغبة قوية لكشف الحقيقة لهذه الفتاة لكن, بدلاً من ذلك كان كل ما قلته: -" من هذا أستنتج أنكما ستسافران معاً؟". لأول مرة في حياتها كانت شاني تتصرف مثل قطة حاقدة تتوق للأغاظة , هكذا حدثت نفسها , لكن هذه المرأة أثارت بالفعل أسوأ ما فيها . وجاء الرد السريع من ليديا: -" من المحتمل أن نذهب معاً". لكن شاني كانت تعلم أنها قالت هذه الكلمات بلا تفكير , وأن ليديا ندمت عليها بالفعل, ومع ذلك فبينما يبدو , من ناحية, أن أندرياس لم يوافق بعد على اصطحاب ليديا فأن تلك الفتاة من ناحية أخرى, ما زالت تأمل أن يفعل ذلك. ليديا وأندرياس معا مدة أسبوعين. لا مجال لتفكير أو تردد بعد ذلك, وبدافع قوي أقوى من الحذر أو التعقل قامت شاني بزيارة زوجها وأخبرته بأنها غيرت رأيها, وأنها على استعداد لمرافقته وكان يجلس وحده, لكن هناك ما يدل على أنه كان يقرأ كتابا أو صحيفة, وعرفت شاني غريزياً أنه كان يفكر تفكيراً عميقاً, الا أنه عندما سمع كلماتها اللهثة وحتى قبل أن يدعوها للجلوس , أضاء وجهه بأعجوبة, واختفت الغضون المرهقة وأصبح وسيماً مرة أخرى. وسأل بعد ذلك ببضع دقائق وهو يقدم لها شراباً: -" ما الذي جعلك تغيرين رأيك؟". وكان طبيعياً أنها لم تستطع أن تخبره, ولكن شاني حتى وهي تفكر في ليديا بدأت تتعجب مما اذا كانت تأثرت تماماً بالحديث الذي جرى بينهما في المقهى, لعلها كانت ستذعن في النهاية لرغبتها الشديدة التي لا تنكر , ويسمح لضميرها أن يموت, وغمغمت وقد بدأت دماء الخجل تزحف عليها: -" أعجبتني فكرة زيارة كوز". وارتفع حاجباه دهشة: -" أهذا السبب الوحيد؟". وهمست: -" أندرياس ؟ أنك تعني ما قلته بأننا سنكون صديقين فقط؟". وضغطت على كأسها فأراحها منها , وبعدها وضعها فوق المنضدة, احتوى كلتي يديها بين يديه ونظر بثبات في عينيها وهو يقول: -" نعم يا عزيزتي... سوف أسعد برفقتك لمدة أسبوعين كاملين , وينبغي ألا أطلب المزيد". وعضت شفتيها , وهي مندهشة عندما اكتشفت انها تقاوم دموعها ... هل يمكن أن يكون قد أحبها؟ من الغريب أن تلك الفكرة لم تطرأ لها من قبل, فكرت في ذلك بامعان عندما ومضت ذكرى كلمات أبيها وهو يقول بعد أن وصف لها كيف وقع في حب والدتها من النظرة الأولى. وسيحدث الشيء نفسه لك يا شاني , فسيأتي رجل ذات يوم رائع ويراك ويعرف أنك له. ونظرت الى يديها وتلك الأصابع القوية السمراء تحتضنها بخفة, وأخذ قلبها يخفق بسرعة بالغة وهي تقاوم هذه الفكرة وتبعدها عنها, وترفض أن تتقبلها كرؤية جديدة , لم يكن حباً ذلك الذي حفزه الى توجيه ذلك الأنذار للأمتلاك؟ لو كان أحبها حينئذ لأخبرها بذلك, وتودد اليها بالطريقة العادية, ولم تكن هناك ضرورة الى ذلك الأكراه الخسيس, ولو كان يحبها الآن فيمكنها أن يخبرها أيضاً , لكن لا , لا يستطيع لأنه يعتقد أنها ترغب فقط استرداد حريتها لتتزوج بشخص آخر, اذن لماذا كل هذا التفكير؟ ومع ذلك كان واضحاً أن رغبته فترت , وعندما ردت مرة أخرى على نظرته بنظرة مماثلة كان الصراع الذي شب بداخلها قد انتهى وابتسمت له ابتسامة صافية وهي تقول: -" أنني أتطلع حقيقة الى ذلك, الآن بعدما اتخذت قراري". وقبل يديها ثم أطلقها وهو يقول: -" سنقضي وقتاً رائعاً نتذكره دائماً". كان الفندق يطل على البحر, يرتفع عالياً فوق شاطىء ذهبي مهجور, اذ كان الوقت متأخراً نسبة الى الموسم ولا يجذب السياح بأعداد كبيرة, وكانت حجرة شاني المجاورة لغرفة زوجها تواجه البحر, واجتاحتها موجة اثارة وهي تحدق عبر النافذة, هناك يرقد بحر ايجه الأزرق هادئاً جذاباً, بينما تلوح عن بعد جبال تركيا , يكاد يخفيها ضباب أرجواني , وتلمع هنا وهناك بيوت القرية الناصعة البياض وسط الجبال التي تغطيها الأشجار. وصلا هذا الصباح , ورغم أن الوقت أوائل أوكتوبر( تشرين أول) , كان البحر دافئاً ومغرياً, وأيدت شاني في لهفة اقتراح زوجها بأن يباشرا اجازتهما بقضاء اليوم الأول على الشاطىء , حتى تجد الفرصة للأسترخاء على حد قوله, جلس فوق الرمال على المسافة الممتدة من الفندق الى البحر, وعندما انضمت اليه قالت: -" لا يمكن أن تكون أفرغت حقائبك, فلم يكن لديك متسع من الوقت". -" تركت عامل الفندق يفعل ذلك, ألم تطلبي من الخادمة أن تفرغ حقائبك؟". كان يرقد على جانبه وهو يتطلع اليها , من خلف نظارة سوداء. -" كان رجلاً , ولم استطع أن أطلب منه افراغ حقائبي". - " بطبع لم تستطعي. ونهض... طويلاً ورشيقاً وداكن السمرة. والجراح لا بد أن يكون في كل صحته, ولا شك أن أندرياس يعطيها هذا الأنطباع, سألها: -" هل أنت مستعدة للسباحة؟". وأومأت بالأيجاب , وتركت روبها ينزلق على المنشفة الكبيرة التي بسطها أندرياس فوق الرمال, وبعد ذلك بثوان كانا في الماء. -" انه رائع". كانت تحلم, تعيش في عالم بعيد تماماً عن الواقع, لكن ألم تقرأ في مكان ما أن كوز قطعة صغيرة من الجنة ذاتها؟ سوف نقيم أسبوعين كاملين في هذه الجنة, وعقدت العزم على أن تستمتع بهما, أن تضحك وأن تسعد مع زوجها... الزوج الذي لم تعد تخشاه. وبعد الغداء عادا الى الشاطىء , وفي المساء تناولا العشاء ورقصا في الفندق, وكانت جميع النوافذ مفتوحة, ومن خلالها هبت نسمات كانت تكسب الدفء بمرورها فوق البحر, وتعبق برائحة ذكية من نباتات الدفلى والياسمين التي تنمو في حدائق الفندق. وكانت الساعة تجاوزت الثانية صباحاً عندما اعترفت شاني أخيراً , وفي تردد , بأنها متعبة. -" طابت ليلتك ... يا زوجتي الفاتنة". وقبلها أندرياس بخفة على جبينها, بدون أن ينبس بكلمة أخرى وتركها الى غرفته وأغلق الباب خلفه, وكانت شاني لا تزال عند باب غرفتها عندما أحكم الرتاج في مكانه. وفي اليوم التالي ذهبا الى الأسكلبيون بسيارة أجرة, لكن الزوار القلائل الذين حضروا هناك كما يبدو على دراجات , وعندما علقت شاني على ذلك أخبرها أندرياس بأن ركوب الدراجات شيء مألوف دائما لدى زوار الجزيرة وقال: -" الطرق جميعها ممهدة, كما ترين , تحف بها الأشجار المزهرة والشجيرات الجميلة مما يناسب ركوب الدراجات كما أتصور". وسألت: -" هل يستأجرونها؟". وأومأ بالأيجاب وبرقت عيناه بالسرور وهو ينتظر النتيجة وأردفت: -" هل يمكننا...". لكنها هزت رأسها ... أندرياس فوق دراجة! وأكملت: -" لن يعجبك هذا بالطبع". -" على العكس , سأستمتع به كثيراً, فالمرء لا تتاح له الفرصة كثيراً لمثل هذه الرياضة الصحية". وعندما وصلا الى المكان الأثري سأل سائق سيارة الأجرة: -" هل أنتظر؟". رد أندرياس: -" لا أعتقد ذلك , فسنبقى هنا فترة طويلة". ثم استدار الى شاني وهو يقول: -" هل أطلب منه أن يعود الينا أم سنعود سيراً على الأقدام؟ هذا أمر متروك لك". -" ليست المسافة بعيدة, كما أن الطريق منحدرة نحو سفخ التل , دعنا نسير؟". كم كان الأمر كله طبيعياً , أندرياس يشاورها , عفواً, وهي تعرب عما تفضله, مثل أي زوجين عاديين , فكرت في ذلك وبينما هي تبتسم لنفسها تصادف أن أندرياس لمحها فسأل : -" لماذا كانت هذه الأبتسامة؟". -" ماذا؟". -" الأبتسامة , تعرفين ما أتحدث عنه". وخفضت عينيها فجأة مراوغة , لكن يده الرقيقة تحت ذقنها رفعت رأسها ثانية , فقالت متلعثمة: -" كنت , كنت أفكر". -" في أي شيء؟". وضحكت ضحكة قصيرة تنم عن الخجل , ثم هزت كتفيها هزة الأستسلام وقالت: -" كنت أفكر في أننا نبدو وكأننا متزوجين حقيقة". واتسعت حدقتاه وهو يقول في رقة ولكن بحزم: -" اننا متزوجين حقيقة يا عزيزتي, قلت أن هذه الأجازة ستكون وقتاً سنذكره دائماً , وأنوي أن أجعلها كذلك تماماً, لكنها هدنة فقط, واذا كنت , بعد أن تنتهي , لا تزالين تريدين حريتك فسنعود من حيث بدأنا". وأطلق ذقنها , لكنها استمرت تنظر اليه, بعينين واسعتين مستديرتين , وقد انفرجت شفتاها وأخذتا ترتعشان بخفة, وأضاف: -" أنك زوجتي يا شاني , ولن أدعك تفلتين مني أبدا". اذن كانت النعومة ولمحات التدليل اللأهية التي لقيتها منذ غادرا قبرص مجرد جزء صغير من قناعه الخارجي , فهو أساساً , صلب وعنيد , رجل لن يمكن اطلاقاً اقناعه بالتنازل عن سيطرته , ويجب ألا تنسى ذلك اطلاقاً , كما أخبرها. وأخذ يدها في يده وضغط عليها بخفة وهو يقول: -" أي شيء يواجهنا في المستقبل يمكن معالجته في حينه , أما في الوقت الحاضر فينبغي ألا تعكر أية لمحة من الخلاف صفو لحظة واحدة من هذه الأجازة". أي شيء يواجهنا في المستقبل... أسرعت دقات قلب شاني لأنها أحست تحذيراً ماكراً في تلك الكلمات التي قيلت بسرعة: -" أندرياس ؟". -" عزيزتي؟". كانت أصابعه تلتف قوية حول أصابعها وهو يقودها بتؤدة نحو مستشفى أبو قراط, حيث أعيد بناء معظمه كما أعيدت اقامة بعض الأعمدة بعدما انهارت بسبب الهزات الطبيعية . ثم أردف: -" ماذا هناك؟". وابتسمت قائلة: -" لا شيء , لا شيء على الأطلاق". وبعد ذلك بفترة وجيزة وما يتجولان نحو حرم اسكابيوس, انه العلاج والطب اليوناني, سألت شاني بفضول فاتر اذا كن أندرياس ملماً بتاريخ المكان, فلم يكن هناك فيما يبدو , أي مرشد وأضافت: -" أنني أعرف القليل, لكنه لا يكفي لشرح كل شيء". -" أعتقد أنني أعرف معظم التاريخ, فيما بيننا يمكننا أن نلم بما حولنا, لأنني أرغب في أن أتجنب المرشدين لو أمكن فالمرء حيثم يجد المرشدين , آليا يجد السياح". وكما هو الحال بالنسبة الى جميع الأماكن المقدسة اليونانية كان هذا المكان مهيباً , بني في غابة أبوللو(2) المقدسة, قبل ميلاد المسيح بأربعة قرون, وتحف بلمكان كل أشجار السرو والنخيل وأدغال نباتات الدفلى وشجيرات الخبازي القرمزية, بينما على مسافة بعيدة يوجد السهل الذي تنتشر فيه الأشجار , يمتد نحو مضيق هاليكا رناسوس , وخلف ذلك يمكن رؤية سواحل آسيا الأرجوانية. وكان لا يزال ممسكاً بيدها, وبدا كأنه يساعدها برقة, برغم أن شاني لم تكن بحاجة الى المساعدة, وأدت درجات أعرض من الحجارة الى معبد اسكلبيروس سليل أبو قراط, الذي ينحدر هو نفسه من أبوللو , اله الشمس. قال أندرياس عندما أخذا يرتقيان درجات السلم: -"هناك ثلاثة مسطحات, الأعلى بني أولاً , ولذلك سنبدأ من هناك". وعلقت شاني: -" لا يمكنني أن أفرق بين الخيال والواقع , لو أن أسكليبوس كان اله وأبو قراط رجلاً، اذن كيف يمكن أن تكون بينهما صلة؟". وضحك أندرياس وهو يقول: -" لم تكن هناك صلة بينهما, لكن اليونانيين القدامى كانوا يحبون أن يعتقدوا أنهما كذلك, ووبما أن أحداً لم يجادل في هذا المجال فقد أصبح مقبولاً, بصفة عامة, أن أبو قراط ينحدر من سلالة العلاج, وتذكري أن أساليب أبو قراط كانت جديدة وثورية الى حد أن اليونانيين القدامى اعتقدوا آلياً, بوجود قوى خارقة للطبيعة فيه". -" أجل أظن ذلك, وما لا يمكن تصديقه تماماً لأن أفكاره التي ابتدعها منذ أكثر من ألفي عام لا تزال مقبولة اليوم". وهز رأسه وهو يقول: -" الهواء النقي والطعام البسيط , التمرينات الصحية والتمتع بقدر كاف من الراحة, أنت محقة تماماً، فأن أساليبه تتفق وما نسمعه في القرن العشرين". وسادهما الصمت وكل منهما يفكر في حياة الرجل الموقر الذي منح الطب المثالي للعالم, بذكائه ومهارته البديهية , أحد مكتشفي الحقيقة الأساسية, أكثر المبادىء الذي يقول أن في داخل الجسم الآدمي يوجد طبيب طبيعي منهمك في مهمة الوقاية , كان أبو قراط دائماً واعياً لحقيقة أن نجاح الطبيب يعتمد على مساعدة هذه الوقاية التي ترجع للطبيعة. -" كان أول رجل يتغلب على أعمال السحر والشعوذة". غمغمت شاني بأفكارها بصوت عال, لكن أندرياس بدا كأنه لم يسمعها والتزم الصمت ثانية, وهو يفكر في توسع المستشفى , وكيف سافر المرضى من جميع أنحاء العالم القديم للعلاج في هذه البقعة المنعزلة التي يسودها السلام, وقد درس أبو قراط نفسه في معبد أسكاليبوس وأصبح فيما بعد طبيباً متجولاً, وزاد من معلوماته ومهارته العلمية قبل أن يعود الى مسقط رأسه في جزيرة كوز. وهناك بنى معبداً هائلاً للطب, وسرعان ما عرف مستشفاه بوصف أول كلية طبية حيث يمكن للطلبة دراسة الطب بطريقة عملية, وتحت اشرافه أصبح معبد أسكاليبوس معبدا للفن, بالأضافة الى كونه مكاناً للعلاج والعبادة, وكانت نظرية الطبيب العظيم أن توازن العالم الداخلي للأنسان شيء أساسي لصحته . وهكذا بتوجيهات أبو قراط ابتكرت فنون خلاقة زادت الجمال الطبيعي للمكان , وصارت منسجمة معه تماماً , فانتثرت على الأرش تماثيل البرونز والمرمر, أجملها وأعظمها تمثالا أسكاليبوس وأبوللو ثم أفروديت (2) الجميلة ومن خلال تعاليمه ونظرياته الثورية وضع أبو قراط أسس التفكير العلمي الذي أثر على رجال الطب في جميع أنحاء العالم طوال ألفين وخمسمائة عام. وأخيراً جاء رد أندرياس على ملحوظة زوجته: -" كان رجلاً رائعاً بالتأكيد , حتى يمينه بقي , وأصبح كل خريج طب يقسم به". يمين أبو قراط... رددت شاني , بعض عباراته: النظام الذي سأتبعه سيكون لصالح مرضاي طبقاً لقدراتي وأحكامي , وليس لأذاهم أو الأضرار بهم , ولن ألحق اطلاقاً الأذى بأي شخص و ولن أصف أي دواء ضار ربما يتسبب في الوفاة حتى لو طلب مني ذلك, وسأحافظ على نقاء حياتي وفني , وألقت شاني نظرة على زوجها الذي ضاقت عيناه في مواجهة وهج الضوء وهو يلتقط ما تبقى من معبد أسكاليبوس الشهير, كم هو طويل ومستقيم , نظيف وتبدو عليه بوادر الصحة ذهنياً وجسدياً. أيمكن لرجل مثله أن ينغمس في علاقة حب؟ هل كانت ليديا حقاً من أولئك الأصدقاء الذين يمكن أن يرتبط بهم كما يعتقد بعض أفراد هيئة المستشفى في لوتراس؟ ساور شاني الشك في هذا , الآن... سأحافظ على نقاء حياتي ! قد يكون يونانياً ومفطورا على حب الطبيعة, لكن شاني . اذ كانت تراقبه وهو مستغرق ذهنياً في استعادة المنظر القديم , لم تستطع أن تصدق أنه من الممكن أن ينسى اليمين لحظة واحدة على الأطلاق. وأفلت يدها وهو يومىء قائلاً: -" أنظري فقط الى هذه الدرجات ... أنها من المرمر الأسود". -" أنها جميلة , لا بد أنهم نقلوا المرمر من مسافة بعيدة". هز أندرياس رأسه , وأخبرها بأن صخور سلسلة الجبال في الجزيرة تحوي كميات من هذا المرمر الجذاب ثم أضاف: -"كان حظهم سعيداً لأن المرمر كان هاماً للغاية في أيام أقامة هذا النوع من البناء المعماري". والى جانب هذه الدرجات كانت هناك آثار رواق أمامي وعدة أعمدة, ولم يبق شيء من معبد أسكاليبوس الدوري (4) العجيب, وتحدث أندرياس في أسى عن الهزات الأرضية العديدة التي تتعرض لها الجزيرة. وتجولا بين الأطلال ... كانت مجرد بقايا عظمة زالت منذ أمد طويل , وشاهدا أساسات لما يمكن أن يكون بيوت الأطباء وشقق الممرضات , وسألت شاني عندما أتتها الفكرة: -" هل كان المرضى يضطرون لدفع نفقات علاجهم؟". -" لا, لكن في معبد أسكاليبوس كان هناك مذبح للشكر, وكان الناس يضعون النقود في الصندوق المخصص لذلك, وكانت الأموال موهوبة, لكنها بالطبع أنفقت في صيانة المستشفى". وعلى المسطح التالي معبد صغير أيوني الطراز, وآثار فيللا رومانية قديمة , وجزء من معبد كبير آخر , وتوقفت شاني لتحدق في المنظر الأخاذ المحيط بها, وسبقها أندرياس , وعندما استدار وجدها تقف هناك , تبدو صغيرة وفاتنة حيال الأعمدة المرمرية الكورنتية (5) البيضاء الشاهقة, ستة أعمدة أخرى تقف شامخة واضحة تحت سماء اليونان الصافية , بينما تبدو من بينها عن قرب أشجار السرو الرشيقة الساكنة وسط هدوء الجو المعطر بأريج الأزهار. -" قفي دون حرك". قال أندرياس ذلك وهو يمسك بآلة التصوير ويلتقط لها صورة, ثم أذن لها بانتسامة , بأن تتحرك وتتقدم نحوه , وأغلق علبة آلة التصوير بعناية بدت غير ضرورية , ولسبب غامض غص حلق شاني , وحاولت قراءة أفكاره لكن وجهه كان يعلوه الجمود المعتاد اياه, واختفت عيناه تحت نظارتين سوداوين. وعلى المسطح المنخفض , حيث وصلا بعد نزول السلم الواسع , كانت نافورة الشفاء... لا تزال تندفع مياهها كما كانت أيام أبو قراط, وبما أن كليهما شعر بالعطش والحر في ذلك الوقت أخذا يشربان مياهها المتلألئة , وجفف أندرياس يديها ثم يديه , وفجأة شعرت بأنها قريبة منه الى درجة لم تكن تصدق اطلاقاً أنها ستحدث وقال: -" أخبريني عندما تشعرين بالتعب يا شاني, هلا فعلت؟". وكانا يقفان عند قاعدة بعض الدرجات القديمة الضعيفة , حيث توقفا غير متأكدين اذا كان ارتقاؤهما مسموحاً أم لا , كانت على مقربة من المباني الرئيسية , ويبدو أنها تؤدي فقط الى مكان مغلق, وأضاف: -" يمكنني أن أمضي لكن أنت, لا أريدك أن تتعبي". لمحة اهتمام في صوته لا يمكن أن يخطئها أحد, ورقة في عينيه وهو ينظر اليها في قلق, وهزت رأسها وقد فاضت نفسها بالسعادة... سعادة جعلتها تتساءل عما سيكون عليه نتيجة هذه الأجازة, وردت بضحكة صغيرة مرحة. -" فضول الأنثى يجتاحني , وينبغي أن أرى ماذا هناك في قمة هذه الدرجات". واستجاب أندرياس لحالتها المعنوية وقال موافقاً: -" أذن هيا بنا, ولو تجاوزنا الحدود وأمسكوا بنا فعلينا فقط أن نعترف بالجهل ونعتذر بتهذيب". وعندما وصلا الى قمة الدرجات قابلت نظرهما أرض خلاء تكثر فيها الشجرت, وخزنت فيها أكوام المباني المهدومة التي أخرجت من جميع أنحاء المناطق المحيطة بهذا المكان الأثري الرائع, السكون مطبق على المكان , وبينما كانا يخطوان بين قواعد الأعمدة والتماثيل المهدمة شعرت شاني بأنها أصبحت جزءاً من ذلك الفقر الكئيب الغريب , وهمست وهي تقترب بلا وعي الى جانبه: -" أنه ... مكان مروع... هل تشعر بهذا؟". وقال موافقاً وهو يلف ذراعه حول كتفيها: -" انه مكان موحش فعلاً, لكن ليس هناك ما يدعو الى الخوف, ان النباتات التي تنمو أعلاه تحجب الضوء وهذا هو كل ما في الأمر". وقالت وهي تتلفت حولها: -"قد يكون مقبرة؟ أعتقد أن بعض المرضى دفنوا هنا". -" ليس في المناطق المقدسة , لم يكن يسمح بأن يلقى أحد حتفه هنا". وحملقت مذهولة وهي تقول: -" لا بد أن تكون حدثت وفيات , حتى أبو قراط العظيم لم يكن في وسعه أن يشفي جميع الحالات". -" عندما كان يكتشف أن مريضاً مصاباً بمرض لا شفاء منه, كان أقاربه أو أقاربها يستدعون ويطلبون منهم أخذ المريض ". -" كانت هذه قسوة, أليس كذلك؟". -" حسب طريقة تفكيرنا نعم, لكن تذكري أن الأسكالبيون كان مكاناً مقدساً , ولم يكن يسمح بأن يلقى أحد حتفه داخل نطاق أي مكان مقدس". وظهر مبنى حديث الى حد ما من خلال أغصان الشجر, واتجها بخطواتهما نحوه, وكان الباب مفتوحاً على مصراعيه, ولهثت شاني قليلاً وهي تلقي نظرة حولها وقالت: -"ما هذه؟ انظر لوحات عجيبة, وجميعها مغطاة بالكتابة, لا بد أن عددها يتجاوز المئات". وكان هذا صحيحاً تماماً , فكانت جميع الجدران مغطاة بهذه اللوحات الى جانب أعداد أخرى مكدسة على الأرض , وكان معظمها من المرمر الأبيض, والكتابة واضحة عليها مثل ضوء النهار, حفرت في الحجر. وردد أندرياس: -" مدهشة! , لا بد أنها دفنت أثناء احدى الزلازل المبكرة, لأنها لم تتعرض للتآكل من أثر العوامل الجوية". -" ماذا تقول الكتابات؟". وبينما كان أندرياس يقرأ الكتابة اليونانية القديمة, كان يهز رأسه بين الحين والآخر ثم قال بايماءة أندهاش وهو يدق على احدى اللوحات: -" هذه رسائل شكر الى الأطباء والممرضات". وحدقت غير مصدقة: -"تماماً كما يحدث الآن, كثيراً ما أتلقى خطابات شكر, وأعتقد أنك تتلقى أيضاً". وأومأ بالأيجاب ثم قال: -" أن صنعها جميل للغاية, انظري الى هذه, وكيف نقشت الكتابة على أطرافها". -" ماذا تقول؟". -" أنها موجهة الى طبيب لشكره على العلاج الناجح وتقول(لأنك خففت عني المرض الذي عانيت منه سنوات)".يمضي الكاتب ليخبر الطبيب بأن قرباناً وضع على المذبح في عصر أسكاليبوس. وتفحص عدداً من اللوحات الأخرى وهي مندهشة قبل أن تقول في صوت ضعيف تشوبه الرهبة. -" تصور أننا نقرأ هذه الرسالة بعد ألفين وخمسمائة عام...". وتوقفت عن الكلام متجهمة ثم قالت: -" هذا يجعلك تدرك يا أندرياس , الى أي مدى حياة الأنسان قصيرة". وكان عند الطرف الآخر من القاعة , يطوف بعينيه حول لوحة نفذت بشكل جميل بصفة خاصة, لكن عند سماعه كلماتها استدار وعاد اليها, ووضع يدين رقيقتين على كتفيها ونظر بعمق في عينيها ثم قال: -" الحياة قصير يا عزيزتي, ولذلك فهي ثمينة للغاية , ويجب علينا ألا نضيع لحظة منها". كلمات وقورة قالها برقة بالغة, ولمسة رقيقة على ذراعيها , أثارت داخلها عاطفة لم تعرفها من قبل على الأطلاق, وفي ومضة ذكرى مرت أمام عينيها تلك السنوات الخمس, التي مرت منذ زواجها, خمس سنوات كان من الممكن أن تقضيها كزوجة لهذا الرجل الذي أثرت فيها حكمته ورقته بقوة الى حد أن القسوة التي أبداها نحوها بدأت تخبو , ولم يعد لها أهمية , وابتسم وهو يربت على خدها بمرح ويقول بخفة: -" كم نحن جادان , دعينا نوجه اهتمامنا الى الأشياء الطيبة في الحياة , هل أنت جائعة؟". -" أكاد أموت جوعاً". قالت ذلك وهي تضحك, وبحركة لا واعية تماماً دفعت ذراعها في ذراعه وهبطا معا درجات السلم واتجها نحو البوابة المؤدية الى الطريق عائدين الى المدينة.
---------------------------
5- عود على بدء
وكانا ينويان تناول الغداء في كوز, عاصمة الجزيرة, لكن موسيقى البوزوكي المفعمة بالحياة , انسابت اليهما من مقهى في طريقهما الى المدينة وجذبتهما اليها, وكان هناك رجلان يرقصان رقصة سوسكا , وتساءل أندرياس: - ما رأيك ؟ اللون المحلي أم الفندق الضخم؟". -" اللون المحلي". ودخلا, وسارا بجانب الراقصين, واختارا سمكتين كبيرتين حمراوين من سمك البريوني من بين المجموعة المختلفة من الأسماك الطازجة المعروضة تحت زجاج المنضدة الطويلة. وأخيراً جاءتهما الوجبة, حيث جلسا أمام مائدة تحت ظلال أشجار العنب, وشربا الزتزينا وهما يتناولان الطعام, وبعد ذلك تناولا القهوة التركية, وكان الآخرون يحملقون فيهما ويتحدثون عنهما, وقدمت رقصة أخرى خصيصاً لهما, حيث كان الرجل يردد أغنية حزينة , وهو يقع على الأرض ثم ينهض ثانية عدة مرات في حركات تدل على اليأس, لكنها رشيقة. وسألت شاني: -" ماذا يفعل؟". -" انه من كاليمونس , وهي جزيرة أخرى ليست بعيدة عن كوز, حيث يشتغل معظم الرجال بصيد الأسفنج وهي عملية خطيرة للغاية, وهذه الرقصة ترجع جذورها الى الحياة القائمة هناك, الأغنية حزينة جداً وتعبر عن أسى الرجل من عجزه عن آداء الرقصة التي كان في وقت من الأوقات , يستمد منها أقصى درجات النشوة". -" وهل الحركات تعبر عن الغطاس المشلول وهو يحاول أن يرقص كما كان يفعل من قبل؟". وأومأ أندرياس وهو يقول: -" أنه يظل يقع على الأرض , لكنه يصر على مواصلة الرقصة التي أحبها ذات مرة وكان يؤديها برشاقة". وانتهت الرقصة وسط تصفيق مدو, وبينما كان الراقص يهم بالجلوس أشار اليه أندرياس , ودعاه للأنضمام اليهما وقال له: -" الواضح أنك من كوليمونس , كيف جئت الى كوز؟". -" تزوجت فتاة من كوز , ولذلك أقيم هنا". -" هل كنت صائد اسفنج؟". وأمأ الشاب ثم قال: -" بدأته وأنا في السابعة عشرة, وظللت ست سنوات أقوم بهذا العمل, كنت سعيداً عندما وجدت هذه الفتاة التي تمتلك بيتاً وأرضاً واسعة ورثتها عن أبيها". وسألت شاني بلهفة: -" حدثني عن صيد الأسفنج , كان زوجي يشرح رقصتك لي...", وتوقفت عن الكلام وهي مندهشة من الطريقة الطبيعية التي أنزلقت بها كلمة ( زوجي) واحمرت وجنتاها وتعمدت تجنب نظرة أندرياس لكنها أدركت تلقائياً أن عينيه مركزتان عليها. وشرح الشاب كيف كانت السفن تخرج من الميناء في كاليمنوس في شهر ابريل (نيسان) من كل عام , وتبحر نحو ساحل أفريقيا الشمالي حيث يوجد اسفنج من نوع ممتاز بصفة خاصة وأضاف: -" جميع السفن تبحر معاً وهو منظر رائع, لكن المرء يلوح بيده مودعاً أقاربه وهو يعلم أنه لن يراهم لمدة خمسة أشهر , وأن بعضهم يعود مشوها , وأن البعض الآخر قد لن يعود على الأطلاق". ومضى يصف الأحتفال الذي يقام في الميناء قبل ابحار الأسطول وأضاف: -" الأحتفال الذي يقام في موسم الفصح يكون حزيناً كئيباً , لكن ذلك الذي يقام في سبتمر ( أيلول) يكون أكثر مرحاً وابتهاجاً , في موسم العودة". وقالت شاني وقد تسللت الى صوتها لهجة سخط: -" وأعتقد أنكم لا تحصلون على أجر مناسب لهذا العمل؟". -" أجل نفعل, أننا نحصل على أجور عالية جداً تدفع لنا مقدماً، لأنه يجب أن نترك لأسرنا ما يكفيها". وأومأ أندرياس وهو مستغرق في التفكير: -" أيدفع قبطان السفينة هذه الأموال لكم؟". -" هذا صحيح , وهو يحصل على قرض من الحكومة". -" وعند عودتكم يتم بيع الأسفنج للتجار على ما أعتقد؟". -" أجل , يباع بالوزن, لكن يجب أن يجف أولاً". وتعجبت شاني لماذا لم تفكر من قبل في الأسفنج الذي تستخدمه في حمامها ولذلك سألت: -" هل يتحرك الأسفنج في جميع أنحاء البحر؟". -" لا, أنه يتشبث بالصخور, ولا بد من شده, وفي بعض الأحيان يكون التيار قوياً, ولذلك فان عملية جذبه من الصخور تكون شاقة جداً, كذلك فان المرء لا يكون لديه متسع كبير من الوقت اذا كان يعتمد على تنفسه الطبيعي". ونظر الى شاني قائلاً: -" أتعرفين ماذا يفعلون توفيراً للوقت وللنزول الى القاع بسرعة؟". وهزت رأسها فأضاف: -" أنهم يتمسكون بصخرة ضخمة تؤدي بهم الى القاع بسرعة كبيرة". وارتجفت , وهي مقتنعة بأنها في كل مرة تشتري فيها اسفنجة ستفكر في الأخطار التي يواجهها هؤلاء الرجال الشجعان في كاليمنوس. وقالت بعد فترة وجيزة وهما يغادران المقهى: -" ألم يكن مثيراً؟ أنني سعيدة للغاية لأنا قابلناه". -" وأنا أيضا". تطلعت شاني وهي تنظر الى أندرياس بصفته زوجها فقط, كان فتياً ومرحاً معظم الوقت, ليس على الأطلاق كالرئيس القاسي نافذ الصبر يصدر الأوامر اليها في غرفة العمليات, لكن كم هو مختلف في جميع النواحي, أنه الآن في اجازة, بعيداً عن هموم عمله وقلقه, وطوال سنوات الأنفصال تلك- كلما مرت صورته مثل حلم سريع عبر ذاكرتها كانت لا تشعر نحوه الا بالأشمئزاز , اذ كانت ترى غريباً أسمر في غرفتها , لا يتأثر بتوسلاتها الصبيانية , لكنه الآن يتصرف بطريقة مختلفة تماماً , وقطعت أفكارها عندما وصلا الى مدينة كوز. واستأجرا الدراجات كل يوم تقريباً بعد ذلك, وركبا الى عديد من القرى في أنحاء الجزيرة , لكنهما بقيا في العاصمة يومين كاملين وهما يرتادان الأماكن الأثرية. -" لم أر مثل هذا العدد الكبير في منطقة صغيرة كهذه!". هتفت شاني بذلك ذات يوم وهما يركبان دراجتيهما في طريقهما الى الملعب( الجمنيزيوم ) القديم, وكان الطريق الى هناك طويلاً تحف به على الجانبين شجيرات الدفلى , وقد امتلأت الحدائق بالأزهار تحمل عطرها الزكي نسمة باردة خفيفة تهب من ناحية البحر. وترجلا وأسندا دراجتيهما الى شجرة وسارا نحو المكان. -" من أين هذا العدد الكبير من الأماكن الأثرية؟ انها منتشرة في جميع أنحاء المدينة". -" تذكري أن آخر هزة أرضية وقعت عام 1933, ورغم أنها كانت مدمرة أدت الى كشف عدد هائل من الكنوز الأثرية التي كانت المباني قد قامت فوقها عبر العصور, وتفادوا في المدينة الجديدة اقامة المباني في هذه الأماكن كي يخرج علماء الآثار كل هذه الأشياء العجيبة التي نراها الآن". وأخيرا وصلا الى المدرج حيث جلسا يستريحان تحت أشعة الشمس الدافئة ويأكلان ثمار الرمان التي التقطها أندرياس من شجرة فوق رأسيهما. وفي اليوم الثالث من التجول للأستكشاف ابتعدا عن المدينة وهما يبحثان عن مكان خاص لتناول الطعام أوصاهما به موظف الأستقبال في الفندق, وفجأة قفزت شاني من فوق دراجتها وهتفت: -" مزيد من الآثار القديمة! وهنا في البراري! كان هذا صحيحاً , وامتدت أمامهما أميال لهما وحدهما, كانت الأعمدة المنهارة مغطاة بالنباتات الى حد كبير , وكانت هناك رؤوس ثلاثة تماثيل لأسود من المرمر. انحنت شاني وبدأت تنبش عن جذور الحشائش الخشنة وغيرها من الأعشاب البرية, أخيرا توسلت اليه وهي تشعر بالأثارة : -" ساعدني ... هناك شيء صلب هنا". -" أتدركين أنك تخرقين القانون؟". حذرها بذلك لكنه أذعن لطلبها. وكانت شاني منهمكة تماماً في مهمتها , وأزالا بعناية جذور النباتات ثم أزاحا التربة, وهنا شهقت شاني شهقة قصيرة وقالت: -" قطعة جميلة من الفيسفاء , أندرياس ينبغي أن نخبر أحداً". وابتسم وهو يقول: -" السلطات تعرف أن هذه هنا..." -" كيف يمكنها ذلك؟ عثرنا عليها للتو". " لكن بعدما عثر عليها شخص آخر , ثقي بذلك". -" لكن هذه النباتات ؟ الفسيفساء . كانت مدفونة تماماً حتى الآن". -" أعتقد أنه لا شك أن هذا المكان تم مسحه , أنظري الى الأعمدة . أننا لسنا الوحيدين اللذن لاحظناها". ورمقها بنظرة ابتهاج ونهض وهو ينفض التراب عن يديه ثم قال: -" لا يا شاني, اننا نتوصل الى اكتشاف عجيب, فالمكان بانتظار التنقيب فيه , وفي الوقت نفسه يرجى من السياح الفضوليين ألا يباشروا هم التنقيب". وقطع كلامه وهو يضحك من تعبير الأكتئاب الذي بدا عليها ثم قال: -" أو أزالة النباتات , فمن الواضح أنها تركت تنمو فوق المكان , هيا بنا ينبغي أن نغطية مرة أخرى". واعتراها الأحباط تماماً, وأشاحت ببصرها تحدق في الصورة الرائعة للطيور والأزهار , وقالت بابتهاج: -" أنها جزيرة رائعة". وبعد ذلك بأسبوع صاحت هذه الصيحة نفسها اذ كانا وحدهما في حديقة الفندق يتجولان تحت سماء ساحرة والهواء حولهما كله معطر بشذى الأزهار يهب رقيقاً دافئاً, وفجأة شعرت شاني بنفسها تنجذب نحو زوجها وسمعت همسته الرقيقة المقنعة في أذنها: -" انه مكان رائع يا عزيزتي شاني, مكان رائع لقضاء شهر العسل". وفي الحال تصلبت وابتعدت عنه وهي تشعر بالأضطراب , فقال بهدوء: -" أنني آسف". ثم أضاف عندما لاحظ ما اعتراها : -" قلت أنه لن يعكر صفو هذه الأجازة شيء وأنا أعني ذلك". ثم أخذ يدها في يده وسارا في صمت عائدين الى الفندق. -" أندرياس ... لا أستطيع أن..." لكنه قاطعها قائلاً: -" قلت لا تقلقي, لم يبق لنا الا أربعة أيام فقط, فلنسعد بها". وابتسم لها بدون بادرة غضب في عينيه ثم أضاف: -" ألم أقل منذ البداية أنها ستكون فترة تظل ذكراها معنا؟". وأشارت بالأيجاب ولما لم يتغير تعبيرها نظر اليها بصرامة وأمرها بأن تبتسم , فأطاعت , ومنذ ذلك اليوم أصبح مرحه مجرد مظهر خداع , وسرعان ما أحست شاني بهذا, اذ بدا وكأنه يحمل في أعماقه ثقلاً من الأسى, كان مثل رجل ناضل بيأس ولكن بشرف, وخسر المعركة, وحاولت الأقتراب منه وفي مناسبتين حاولت أن تدير الحديث بطريقة تجعلها تعبر له عن شكها المتزايد, وعن أنها تشعر شعوراً مختلفاً اتجاه زواجها وينبغي أن يكون صبوراً معها, فيتيح لها فسحة قصيرة أخرى من الوقت لتعرفه, فقد كانت أولاً وقبل كل شيء في بداية معرفتها اياه خلال هذه الأجازة , لكنه كل مرة كان يغير مجرى الحديث , وأدركت أنه يفعل ذلك اعتقاداً منه بأنها تضايقت من أقتراحه بأن يجعلا أيامهما القليلة الأخيرة بمثابة شهر عسل لهما, وهكذا لم تكن قد قدمت اعترافها عندما عادا الى لوتراس , حيث استأنفا علاقتهما القديمة بعدما قضيا معا أسبوعين. وتحدث أندرياس مع زملائه عن اجازته , ومن ناحية أخرى كان المفروض أن شاني قضت هذه الأجازة مع أصدقاء لها في كراكاس , كما فعلت عدة مرات من قبل, لذلك اكتفى أصدقاؤها بالسؤال اذا استمتعت باجازتها , ولم تكن شاني تعرف حقيقة مشاعرها أزاء أندرياس ولكن كلماته الرصينة تلح على أعماق ذهنها " فكري في الأمر يا شاني لأن أمامنا طرقاً طويلة علينا أن نقطعها , ويمكن أن تكون هذه الطرق مفعمة بالوحدة"". لكنه لم يحبها, ولذلك رفضت أن تفكر في احتمال العيش معه, في أية حال كانت واثقة من شيء واحد أنها الآن لا تستطيع قبول فكرة زواجها من براين, وكلما أسرعت بابلاغه كلما كان ذلك أفضل... ستكون أمينة معه تماماً, وتمنت ألا يثور ثورة غضب حادة, لكن قلبها بدأ يخفق بطريقة غير عادية عندما اتصل بها براين تلفونياً فور عودته الى قاعدة ليماسول. -" عزيزتي لقد عدت! متى يمكنني أن أراك؟ هل تستطيعين؟". -" أ... أجل...". وشعرت بأنها مرتبكة ومضت تقول: -" أجل انني غير مرتبطة يا براين, لكن شيئاً ما حدث". وقاطعها بحدة: -"هل حدث؟ الغاء الزواج؟". فتح بنفسه أمامها مجالاً للحديث فاستغلته وقالت: -" أندرياس واثق أنه وحده يستطيع الغاء الزواج, لأنني رفضت أن أعيش معه, فمن المحتمل ألا أستعيد حريتي أبداً, وفي أية حال فأنني سأخبرك بالأمر عندما أراك". وبدا براين كأنه لم يفهم كلماتها الأخيرة حيث قال لنفسه: -" يمكنه وحده أن يلغي الزواج... ايه؟". سألها في لهجة حادة غاضبة: -" هل كنت تعرفين ذلك قبل أن أرحل؟". -" أجل". -" أذن، لماذا لم تخبريني؟". -" لم أكن أرغب في ازعاجك في ذلك الوقت, لكن الآن...". -" لكن قلت أنه استسلم!". ونفت بسرعة: -" لا ... قلت أنه يبدو مستسلماً الى حد ما... لكنني قلت أيضاً، أنه لا يريد أن يطلقني". وسألها بعد فترة: -"هل يعني هذا أن هناك احتمالاً للتأخير؟". -" قد لا يكون هناك الغاء للزواج, لكن...". وقاطعها بصيحة غاضبة ثم قال: -" اتركي هذا الأمر لي! حان الوقت لأتدخل في هذه المسألة , أنه لن يفلت منها!". وقالت بالحاح: -" براين... لا ... هناك أمور أخرى... براين..". صرخت ملحة لكنه أنهى المكالمة , وطلبته مرة أخرى لكنه لن يفعل شيئاً قبل أن يراها في نهاية الأسبوع ... الواقع أنه لم يكن يستطيع أن يفعل شيئاً رغم تهديده الذي قاله في ثقة.
------------------------
6- فخ من حرير
كان مستشفى مونيكومو يحتل ربوة عالية في جبال ترودوس بين قريتي يدهولاس وبروروموس, وبعد وصول أندرياس الى لوتراس ببضعة أسابيع استدعى لأجراء جراحة هناك, وكان عدد أفراد طاقم المستشفى ناقصاً في ذلك الوقت فرافقته شاني, وراعها مثل أندرياس تماماً نقص الأمكانات في المستشفى الواقع في منطقة يمكن أن تكثر حوادثها , فلم يكن الطريق الجبلي ضيقاً ووعراً فحسب , مع وجود انحناءات خطيرة يفصل بين الواحدة والأخرى مئات قليلة من الياردات , ولكن المنطقة كانت أيضاً مكاناً معروفاً باجتذاب عشاق التزلج في الشتاء, ولم يشر أندرياس مرة أخرى الى قلة المعدات ولذلك دهشت شاني عندما استدعاها أندرياس الى غرفته في صباح اليوم التالي لمكالمة براين الهاتفية , وقال انه اتصل بالطبيب الشاب المسؤول في مونيكو ووافق بسرور على اقتراح أندرياس بأن يذهبا معاً ويعدا قائمة بالمعدات الضرورية , ثم يطلب الطبيب استكمالها عندئذ, وكانت شاني وأندرياس تقابلا في غرفة العمليات مرة واحدة منذ الأجازة , وفي تلك المرة كان الجراح الفاتر الجامد, وبالأضافة الى ذلك كان يبدو متوتراً, واجتاح شاني شعور بالقلق لسبب غامض , لكنها استطاعت أن تسيطر عليه في النهاية لأن أندرياس حدد خططه في نبرات هادئة وقال: -"أنه يريدها أن تذهب معه الى ترودوس فهل لديها بعض الأقتراحات؟ وزاد هذا الطلب دهشتها , وفكرت في غرابة الأمر, فلماذا يشغل نفسه بمثل هذا المستشفى الصغير؟ وقال كما لو كان يقرأ أفكارها: -" يحتمل أن أستدعى لأجراء جراحات في مونيكلومو في المناسبات المقبلة لذلك سأذهب لمعرفة ما اذا كان يمكن تزويدها بالمعدات بصورة أفضل". -" متى تنوي الذهاب؟". وقال انه ذاهب بعد ظهر اليوم نفسه, وعند ذاك نظرت اليه في شك وقالت: -" لن يكون أمامنا فسحة طويلة من الوقت, الا اذا كنت تفكر في العودة بسيارتك في الظلام". -" القيادة لن تزعجن, وسنبدأ رحلتنا حوالى الثانية عشرة وسنتناول شيئاص من الطعام ونحن في الطريق" وتوقفا عند قرية ليفكا لتناول الغداء, حيث أكلا الكباب والسلطة وشربا القهوة التركية, وكانت ثمار التين تتدلى من شجرة بجوار المطعم , ولما رأى أندرياس نظرات شاني متجهة اليها سألها اذا كانت ترغب في بعضها. -" نعم". قالت ذلك وهي تشعر شعوراً غريباً بالأضطراب لأن هذا ليس أندرياس الذي عرفته أثناء الأجازة , وكان التغيير فيه كبيراً حتى أن الأيام التي قضياها في كوز بدت وكأنها لم تحدث على الأطلاق وأضافت: -" ربما لا يريدون أن نقطعها". -" هل سمعت أبداً عن قبرصي يتردد في قطف شيء اذا ما أراده زائا؟ انهم يشعرون بالفخر عندما يرغب المرء في شيء يمتلكونه". وكان هذا صحيحاً , ولم تقدم أي أعتراض آخر, وبعد دقائق قدمت اليها ثمار التين نظيفة في سلطانية من الزجاج, وأكلت شاني منها , وسأل أندرياس بعد فترة وجيزة وهو يلقي نظرة على ساعته: -"هل أنت مستعدة؟". -" أجل...". وبعد ميل ونصف ميلاً الى نهاية المطاف , وفتح أندرياس الباب , وخرجت من السيارة الى صمت مطبق, الى عالم من الصخور وقمم التلال الحادة المهجورة عدا المبنى الصغير حيث أقيم المستشفى, وقال أندرياس وهما يدخلان: -" يمكنك أن تتحدثي مع رئيسة الممرضات بينما نقوم نحن بجولتنا , واستقبلتهما الرئيسة وطبيب يوناني قبرصي شاب مبتسم , وأضاف أندرياس: -" سأرسل في طلبك لو احتجت اليك". وتطلعت شاني بسرعة , لكن وجهه كان جامداً ... ( لو احتجت اليك) ... أي شيء غريب يقوله , اذا كان لا يتوقع أن يحتاج اليها فلماذا جاء بها الى هنا؟". وفي النهاية أرسل بطلبها , لتعد بعض المذكرات , وكان هذا كل ما فعلته , بل ان هذه المهمة الصغيرة كان يمكن أن تقوم بها احدى ممرضات المستشفى, وفي أية حال لم تعلق شاني أية أهمية. أخيراً عندما خرجا من المستشفى وجدا نفسيهما وسط جو مخيف من الظلام والأشباح الغامضة, وظهرت الحدود السوداء لجبل أوليمب وسط السماء القرمزية الداكنة وحذرهما الطبيب قائلاً: -" أنها طريق خطرة في الظلام. اذا كنتما تفضلان البقاء فان هناك فندقاً قريباً". ورد أندرياس: -" لا , شكراً لك". وأطلق الطبيب ضحكة قصيرة وهو يقول: -" خذا راحتكما اذن, فقد أحصى صديق لي يوماً ما مائة وتسعة وخمسين منحنى على طول الطريق الى أسفل, انها طريق وعرة". وكانت المنحيات رفيعة , ذات منعطف حاد الى درجة أن السيارة بدت كأنها تسير على عجلتين فقط, وبعدما قطعا نحو خمسة عشر ميلاً، أدركت شاني فجأة ما يحيط بها اذ أنها كانت تائهة وسط أفكارها وقالت: -" هل تسلك طريقاً مختلفاً؟". ولم تكن هناك طريق أخرى, وفي مكان ما تحول أندرياس الى ما لم يكن يزيد عن مسار جبلي وعر , وأضافت: -" ضللت طريقك, هل أخرج وأعيدك الى الطريق؟". وكز بصره على الضوء المنبعث من مصباح السيارة الأمامي وهو يقول: -" انني أمتلك فيللا صغيرة هنا. أجل... انني أراهاوأريد أن أصل الى هناك". -" لم أكن أعرف أنك تمتلك فيللا". وكان كثيرون يمتلكون فيللات في منطقة ترودوس , وقد اعتادوا الذهاب لقضاء شهرين وسط الجبال أثناء الصيف بسبب ارتفاع درجة الحرارة وأضافت شاني: -" هل تمتلكها منذ فترة طويلة؟". -" منذ نحو ستة أسابيع, لكنني لم أستخدمها بعد اطلاقاً". وتكسر الحصى الخشن تحت عجلات السيارة حين دخلا الى أرض خلاء في الغابة العميقة, في أجمل بقاع وادي مارا باسا . كانت الطريق ضيقة حتى أن الأغصان المنخفضة للأشجار لامست السيارة. توقفت السيارة, وأخيراً استطاعت شاني أن ترى ظل الفيللا. -" أنها بقعة رائعة". ووقفت شاني بجانب السيارة, وهي تمعن النظر وتفكر أنه كان الأفضل لو أن أندرياس زار الفيللا وهما في طريق الذهاب لأن رحلة العودة ستستغرق بعض الوقت, ثم أضافت: -"هل هناك شيء مهم تنوي أن تفعله؟". لم يجبها, وفتح قفل الباب وبعد ثوان أصبحت الصالة والفناء غارقين في الضوء, وسارت شاني الى الأمام وهي تنظر حولها نظرة اعجاب ثم قالت: -"انها لطيفة جداً, ستجدها مفيدة في الصيف المقبل, والناس يستخدمون الفيللات أيضا في الشتاء فلدينا نادي التزحلق على الجليد هنا... لا شك أنك تعرفه". -" ستكون فكرة جيدة أن يأتي المرء الى هنا لممارسة رياضة الشتاء, لا بد أن أفكر فيها". وكان هناك صوت قرقعة حادة, واستدارت شاني اذ أغلق أندرياس الباب خلفه ثم أدار القفل, وأمام نظراتها المندهشة أسقط المفتاح في جيبه وهو يقول: -" طوفي بباقي البيت , أن غرفة الجلوس جذابة للغاية". ووقفت بلا حراك , توقف قلبها عن الخفقان , وبدا الظلام الذي تركاه وراءهما في الخارج كما لو كان يطبق عليها من كل جانب, ولا يسمح الا بالرؤية الذهنية للحظات الفزع التي انتابتها قبل أن تهرب من ذلك الأجنبي الأسمر الذي لم يكن هدفه الا امتلاكها... وتمتمت وقد جف حلقها: -" المفتاح ... ماذا تفعل؟". -" هربت مني مرة يا شاني...". واتجهت يده النحيلة السمراء بحركة آلية الى جيبه , ومن خلال قماش سترته الخفيف تحسس المفتاح ثم أضاف: -" لن يحدث هذا الليلة". وكان أسلوبه رقيقاً , وانحسر خوف شاني مؤقتاً, وحلت الدهشة محله لماذا يفعل هذا بها؟ وفي هذا الوقت بالذات؟ طوال الأجازة كان هناك مجرد اقتراح , أعقبه تسليمه على مضض لقرارها, ولم يكن في امكانه آنذاك أن يستخدم القوة كما يمكنه الآن! لكنه لم يظهر لا الغضب ولا الحقد ازاء مراوغتها لطلبه بأن يجعلا تلك الأيام الأخيرة القليلة في كوز بمثابة شهر عسل؟ اذن لماذا يخطط وبحساب لأخضاعها لقوته؟ وهمست: -" أندرياس ... انك لا تستطيع...". وزاغت عيناها بين الباب المغلق بالمفتاح والمصاريع المغلقة للنوافذ لماذا تضيع الكلمات ,وحاول أن يمسك بيدها وقال: -" لا أستطيع ... ما الذي لا أستطيع أن أفعله؟". ما زالت الرقة باقية في أسلوبه , وتجهمت ... لأن تصرفه ما زال يحيرها, وسألت نفسها مرة أخرى,لماذا اختار هذا الوقت بالذات؟ زيارة مونيكومو , لا بد أنه رتب ذلك في هذا الصباح فقط. ولغرض واحد هو أن تكون هنا ... الليلة. وبدأ اليأس والخوف يختلطان في احساسها بالمرارة , لكنها حاولت أن تحتفظ بتماسكها , وقالت: -"لا يمكنك أن ترغمني على شيء ! انني لست زوجتك ولن أكون اطلاقاً! وهكذا يجب أن تفتح الباب وتعيدني الى لوتراس!". واتسعت حدقتاه وقال: -" لست زوجتي؟ أذكر أنه أقيم لنا حفل زواج رائع". وتحركت لتشد مقبض الباب ... تصرف لا جدوى منه لكن لا يمكنها أن تقف هناك دون أن تفعل شيئاً , وقالت: -" دعني أخرج!". واكتفى أندرياس بمجرد النظر اليها بشيء من التفكير , واذ ابتعدت عن الباب , قال لها: -" هذا أقرب الى التعقل يا شاني". -" أنك غشاش! خدعتني من قبل, وفعلت ذلك مرة أخرى, جئت الى هنا في براءة تامة معتقدة أنك تزور الفيللا لسبب حيوي!". ورد بضحكة: -" وأي سبب حيوي أكثر لدي؟ ستكون هذه يا زوجتي الفاتنة , ليلة شهر العسل بالنسبة الينا , تأخرت كثيراً لكن قد تكون أكثر متعة لهذا السبب". -" أتعتقد أنه لن يكون هناك الغاء للزواج لو أبقيتني هنا لكن...". -" متأكد". وابتسم صوته بزمجرة ناعمة, وفاجأها هذا التغيير ثم أضاف: -"بعد هذه الليلة لن يكون هناك جلبة أخرى حول الغاء الزواج , ولا تهديدات أخرى". تهديدات ؟ أي نعومة نطق هذه الكلمة, لكن شفتيه كانتا قد ارتختا الى الخلف فكشفتا عن أسنانه... عم يتحدث؟ انها لم توجه أية تهديدات أبداً,لكن لا جدوى من المجادلة معه, وبدلاً من ذلك ذكرته بأن رئيسة الممرضات وباقي طاقم المستشفى في لوتراس سينظرون شرراً الى هذا الهروب , ورد بلهجة مهذبة رقيقة: -" واجهتنا مشكلة نفاذ الوقود , فاضطررنا الى المبيت في فندق". -" فكرت في كل شيء!". كان يقف بجوار المدفأة العالية المبنية من حجر, وامتلأ موقدها بكتل جذوع الأشجار , ثم مضى يقول, كمن يقرر أمراً واقعاً: -" يمكننا أن نتناول وجبة... هناك سيدة من يدهولاس تأتي لتهوية البيت وتنظيفه, اتصلت تلفونيا بالعمدة هذا الصباح وطلبت منه أن يعطيها تعليمات بأن تملأ الثلاجة طعاماً". -" لا أريد أن أتناول شيئاً!". -" لا تكوني حمقاء , بالطبع يجب أن تأكلي". -" هذا شيء لا يمكنك أن ترغمني على عمله , عندما أقول لن آكل فأنني لن أفعل!". وتجمعت دموع الغضب في عينيها. وانحنى , وأشعل عود ثقاب في المدفأة , ثم اختفى داخل المطبخ, وتحركت شاني نحو النافذة , لكنها لم تحاول الهرب, اذ كانت شاني واثقة أن زوجها سيسمع أي صوت يصدر من غرفة الجلوس , وبدأ رأسها ينبض , وأرخت يديها , أن قرارها فيما يتعلق ببراين كان ملكاً لها وحدها أما مسألة الغاء الزواج فقد تقررت الآن ... كانت زوجة أندرياس , وينبغي أن تبقى على هذه الحالة بقية حياتها , ووصل الى مسامعها صوت زوجها: " شاني ... تعالي ساعديني, ليست لدي أية فكرة عن كيفية اعداد هذه الشرائح من اللحم". تحركت بطريقة آلية , ودخلت المطبخ , كانت في شبه غيبوبة , فهي كارهة زوجها , ومع ذلك واعية تماماً لأعترافها الأخير, بأن أندرياس يقتحم ذهنها باستمرار وأن هذا يثير القلق. وغمغمت وهي تلتقط طبق اللحم: -" أنه مجمد". " سنضطر الى الأنتظار حتى يذوب الثلج, أعتقد أن لدينا وقتاً كبيراً , لكن ألا يمكن وضعه في الفرن كما هو؟". -" أجل , سيمكن طهوه في النهاية". ورفعت عينيها في عينيه فلم تجد فيهما الا الرقة. -" تعالي اذن , وأعدي البصل والخضار". وفجأة ومضت عيناها: -" قلت أنني لست جائعة". -" ستشعرين بالجوع عندما تشمين رائحة الطعام, اليك الجزر , والآن دعيني أرى... نعم طلبت من أجني أن تحضر لي قرنبيطة , لا بد أنها في مكان ما". وردت بسخرية: -" أنت ماهر للغاية!". -" لا بد أن يتغذى المرء يا عزيزتي". وضحكت عيناه في عينيها , وأدار ظهرها اليه, لكنها أعدت الخضار , وسرعان ما كانت الكسرولة في الفرن, ووقفت بجوار الموقد, وهي مندهشة من طاعتها, ومع ذلك هل من الصواب أثارة غضب زوجها؟ لا بد أن تتحمل المحنة . لماذا تغضب أندرياس وتجر على نفسها المتاعب؟. وهكذا تناولت الوجبة, رغم أنها كانت تغص بالطعام أحياناً, وبعدما رفعت الأطباق وغسلتها أخذها أندرياس بين ذراعيه بلا مقاومة من جانبها , وقال بعد فترة: -" لم أكن اطلاقاً أنوي أن يكون الأمر بهذه الصورة يا عزيزتي , بحثت عنك والأمل يراودني أنني عندما أجدك أستطيع اقناعك بالمجيء الي برغبتك, لكنك طلبت منحك حريتك على الفور حتى يمكنك الزواج من شخص آخر, وفي أثناء هذه الأجازة ؟ كنت آمل...". وتوقف عن الكلام , وأبعدها عنه ونظر في حزن الى عينيها لكنه لم يكمل كلامه, ما الذي كان يوشك أن يضيفه؟ ووسط وميض من الذكرى سمعته يقول: -" وعندما تنتهي هذه الأجازة اذا كنت لا تزالين تريدين الغاء الزواج...". أذا ؟ اذن كان الأمل يراوده في ألا تصبح – عندما تنتهي الأجازة – راغبة في الحصول على حريتها , يا له من رجل غريب ! لو لم تكن واثقة أن هدفه الوحيد هو امتلاكها لأعتقدت أنه يهتم بها ... ونظرت اليه باحتقار وقالت: -" كنت تأمل في الواقع, أن أستسلم طائعة؟ وهذا ما لن تحققه أبداً , أرغمتني على الزواج بتهديد بغيض, وبخدعة حققت رغبتك , لكنني لن أكون لك اطلاقاً". ومن الغريب أنه رد على ذلك بلهجة هادئة رقيقة: -" ستكونين ل يا شاني ... في هذ ه الليلة الوحيدة ستكونين ملكي تماماً , أعرف بانك ستكرهينني , لكنني لن أدعك تحصلين على ذلك الألغاء". -" أذن فأنت تعترف أخيراً، بأنني أستطيع أن أحصل عليه , قلت أنك وحدك فقط من تستطيع الغاؤه , بينما كنت تعلم طوال الوقت أنه ليس علي الا أن أسرد ملابسات الزواج فأحصل على حكم بالغائه". -" لم أعترف بشيء من هذا, ما زلت أرى أنني وحدي الذي أستطيع الغاء الزواج وأنت تعرفين ذلك جيداً... لقد ناقشت الأمر مع...". وقطع كلامه وهو يصر على أسنانه ثم أضاف: -" لم كل هذا الكلام؟ كما قلت بعد الليلة لن يكون هناك مجال للتساؤل حول فصم زواجنا". كانت في الحديقة في الخارج عندما أتى أندرياس من المنزل, وكان هواء الجبال منعشاً ونقياً اكتسب الدفء من مروره عبر الوادي وامتلأ برائحة الصنوبر, ولمست معصمها بأصابعها بلا وعي, ثم تجهمت , ولسبب غامض قررت أن ترتدي سوارها , هدية أندرياس لها بمناسبة الزواج, وكانت فوق طاولة الزينة وينبغي لها أن تستعيده , وحلق طائر عبر الوادي وأخذت تراقبه , وقد امتلأ عقلها طبيعياً بالأحداث المثيرة الأخيرة. قال لها زوجها بنبرة تتسم بالحزن( مجرد ليلة واحدة وتصبحين ملكي تماماً) وتوقعت أن تكتشف حقيقة كلماته الأخيرة تلك, لكن هل تكرهه؟ واضطربت عندما تذكرت مرة أخرى شكوكها وحيرتها حينما تقتحم صورة زوجها عقلها. وتقدم نحوها واستدارت وهي تتعجب لأنه يبدو كما هو, وجهه قاس عنيد , عيناه باردتان وحادتان كالصلب, كيف تبدو هي نفسها؟ مشطت شعرها حتى دون القاء نظرة على المرآة , انها تدرك أن وجهها تشوبه حمرة الخجل , وعينيها تلمعان بادراك جديد , وشعرت أيضاً أن القلب الذي كان ينبغي له أن يكون بارداً بسبب الكراهية أخذ يخفق بسرعة بالغة, ونظر اليها زوجها لحظة, فلاحظ احمرار وجهها وحركة يديها بشكل عصبي , لكنه لم يعلق بشيء على هذه الأشياء حينما قال بنبرة عتاب فاترة: -" توقعت أن يكون افطاري معداً فوق المائدة عندما خرجت من الحمام, وبدلاً من ذلك أجدك واقفة في الشرفة هنا .... تحلمين". -" سأحضر لك شيئاً ... هل تريد افطاراً مطهواً؟ رأيت بعض اللحومات والبيض في الثلاجة". -" مجرد قهوة وخبز مقدد ... مع قليل من المربى... وتناولي أنت ما تشائين". وابتعدت مندهشة أنه يمكن أن يكون موضوعياً ومتباعداً هكذا , في لهجته يتصرف كأنها لم تكن بالنسبة اليه أكثر من مجرد شخص تعرف عليه بالمصادفة. وتناولا الوجبة في الشرفة, لم يتفوه أي منهما بكلمة واحدة وتساءلت شاني عما يفكر به . هل تخبره بحيرتها؟ هل تعترف بأن الكراهية التي كانت لتشعر بها ازاءه بدأت تتبدد في بطء , وكانت تختفي الآن ؟ كيف يمكنها أن تفعل ذلك وهي تعلم أنه لا يحبها؟ ومع ذلك , وهما في طريق العودة الى المستشفى حاولت أن تفتح الحديث وتخبره بمشاعرها , ولكنه كان يرد بكلمات متقطعة , وأخيرا لزمت الصمت , وهي تعتقد أنها ستجد فيما بعد أخرى أكثر ملائمة. وعند وصولهما الى لوتراس أبلغوه على الفور بأنه مطلوب لمستشفى نيقوسيا, وشرح للرئيسة كيف نفذ البنزين من السيارة وأصبحا منعزلين وسط الجبل, وكانت المعلومة الوحيدة التي قالها: -" واضطررنا للمبيت في فندق". وفي اللحظة التالية مضى, وعلمت شاني فيما بعد أنه سافر من نيقوسيا الى أثينا حيث سيبقى أسبوعين أو ثلاثة, ليكمل ما بقي من اجازته. في مساء اليوم التالي حاولت شاني أن تطلب براين تلفونياً لكنه كان في نوبة عمل, وحاولت مرة أخرى مساء الخميس , بالنتيجة نفسها وتساءلت , هل سيأتي في نهاية الأسبوع؟ راودها الأمل بذلك فكلما أسرعت باعترافها كلما كان ذلك أفضل, كان ضميرها ما زال يوخزها قليل , بدأت حرارة عواطفها تفتر منذ قسوة براين ازاءها عندما أخبرته بزواجها, وتحولت أفكارها تلقائياً الى أندرياس , والى رد فعلها المثير للدهشة لأنتصاره المخطط عليها , كان ينبغي أن تكون الكراهية وعدم الصفح هما العاطفتان اللتان تجتاحانها , لكن عوضاً عن هذا وجدت نفسها تقع في حيرة جديدة, اذ برغم أن أندرياس لم يحبها أثبت أنه محب رقيق , وأدهشتها رقته تماماً وأخضعتها وفكرت, انه بالتأكيد لم يكن بامكانه أن يحظى بها عن طريق معاشرتها فقط؟ ليس هذا أساساً يقوم عليه زواج دائم, أذهلتها أفكارها , وحاولت أن تنسى تلك الليلة, وتبعد عن نفسها أية فكرة للحياة مع ذلك الأجنبي الأسمرالذي لا يعدو حتى الآن أن يكون غريباً, وهزت رأسها , كيف يمكن أن يكون غريباً عنها وهو زوجها بكل معنى الكلمة؟. وأتى براين مساء الجمعة , واتصل بها هاتفياً من نيقوسيا قائلاً أنه سيقابلها بالمقهى الذي يفضله كلاهما, وشعرت شاني , وهي تقترب من منضدة اختارتها خارج المقهى , أن الجو الخيالي الذي يسيطر عليه, لا يجعله المكان الملائم للأفصاح عن أنبائها , وسرعان ما تقدم براين نحو موقف السيارات وبرغم أن شاني شعرت باضطراب من جو الأنتصار والخيلاء الذي بدا عليه وهو يقترب من المنضدة, لم تكن مستعدة تماماً للمعلومات التي كانت ستسمعها على الفور. ولم يضيع وقتاً, لكنه جلس على كرسي أمامها وبادرها بقوله في نبرات رنانة: -" حسمت الأمر معه! ألم يذكر مانو شيئاً لك عن مكالمتي التلفونية؟". ومدت شاني يداً مرتعشة الى خدها وسألت: -" مكالمة هاتفية؟ هل اتصلت بأندرياس؟ بشأن ماذا؟". -" الغاء الزواج! استشرت محامياً وقال أنه صحيح أن زوجك هو الطرف المتضرر , أو سيعتبر كذلك. ولذلك قررت أن أعالجه بجرعة من الدواء الذي يصفه, أخبرته بأنه اذا لم يلغ الزواج في وقت سريع فأنني سأفضحه ... سأخبر العالم بما فعله معك!". واحمر وجهه الوسيم من أثر الشعور بالرضا, وكل ما استطاعت شاني أن تفعله هو أن تحدق مذعورة , ثم قالت وهي ترتعش: -" صوبت بالفعل مسدساً نحو... رأس أندرياس؟". -" صوب مسدساً نحوك طوال تلك السنوات الماضية, اذن لم لا؟". وضحك من التعبير الذي ارتسم على وجهها , حيث أخطأ فهمه ثم مضى يقول: -" فكرة مدهشة... وكانت فعالة للغاية , ويمكنني أن أخبرك بأنه لم يجادل كثيراً , بل قبلها مذعناً". وضحك مرة أخرى بسخرية , وأجفلت شاني , كيف أمكنها أن تحب هذا الرجل على الأطلاق, وتفكر في أن تقضي بقية حياتها معه؟. وبحث عن يدها , لكنها رفعتها من فوق المنضدة, وتجهم براين من تصرفها , لكنه قال بمرح: -" سنتزوج قريباً جدا, الآن بعد أن تدخلت في المسألة, وزوجك بالأسم فقط مهزوم تماماً". كانت كلماته منسقة, لكنها باهتة, بينما كانت أفكارها في مكان آخر- التهديدات- ذكر أندرياس التهديدات التي عالجها بطريقته الفعالة وسألت: -" متى اتصلت هاتفياً بأندرياس؟". -" صباح الثلاثاء , كنت قابلت المحامي بعدما اتصلت تلفونياً مساء الأثنين مباشرة , لكنني لم أستطع وقتئذ أن أتصل بزوجك, ولذلك اتصلت به صباح الثلاثاء وقلت له بنجاح وجهة نظري". بنجاح... كان من الممكن أن تضحك شاني , لكنها قالت بصوت متهدج محطم جعل رأس رفيقها يهتز: -"وهكذا هزم... أليس كذلك؟". -" تماماً... لم يقل كلمة واحدة". -" ولا كلمة واحدة؟". -" زل لسانه بكلمة أو اثنتين بين حين وآخر". وألقت عليه شاني نظرة جانبية وهي تقول: -" موافقاً على الغاء الزواج؟". -" ليس بالحرف الواحد لكنه كما قلت هزم تماماً....". وتوقف براين لحظة ثم قال: -" قبل أن أنهي المكالمة حاول أن يموه بعبارة غامضة , عندما أخبرته بأنه هزم والأفضل أن ينسحب بكرامة". -" قلت ذلك لأندرياس!". -" بالطبع, وحينئذ قال أنه يهزم فقط عندما يخرج الموقف من يده وأن هذا بالتأكيد لن يحدث, كان تمويها كما هو واضح". -" هل ذكر اسمي؟". تساءلت شاني بفضول وهي تتعجب لماذا التزم أندرياس الصمت ازاء الحديث التلفوني مع براين, ثم أضافت: -"أعني غير ما حدث عندما هددته؟". -" سأل اذا كنت على علم بأنني أنوي تهديده , وقلت أنك لا تعلمين شيئاً عن هذه المكالمة التلفونية, ولكنك ستوافقين تماماً على أي تصرف من جانبي طالما أنه سيحررك". -" بمعنى آخر هل أعتقد هو أنني كنت طرفاً فيما تفعله؟". وكاد يغمى عليها .. أندرياس كان يعتقد فيها هذا؟ في الليلة التي كان يبثها فيها حبه برقة . يعتقد أنها أخبرت براين بأنها لا تهتم بالأساليب التي تستخدم ما دامت تؤدي الى أن يطلق سراحها, ومضى براين يقول: -" قلت أنك مصممة على الزواج مني... أجل , كان يعتقد أنك طرف فيما أفعله". وظهر المضيف , وتناول منه براين قائمة الطعام, ثم أردف: -" هيا لنشرب الأنخاب, ولنقم احتفالاً ثانياً!". وقالت بلا انفعال: -" ليس هناك شيء نحتفل به". وعقد حاجبيه حيث أدرك أخيرا معنى كلماتها وقال بقلق: -" ماذا تعنين؟". -" ما أقوله بالضبط" ... لا شيء نحتفل به". -" الأفضل أن تشرحي لي". وواجهت نظرته المحدقة, ولم تجد أي مصدر حقيقي للأنزعاج , مجرد قلق بسيط لا أكثر , والواقع أنه لا يزال يشعر بنشوة الأنتصار , وقالت بنبرة باردة: -" أن تدخلك دفع أندرياس الى أن يمسك القانون في يده, والحصول على الغاء الزواج أمر مستحيل. جعلني أبقى معه طوال الليل في فيللا يملكها في الجبال". قالت هذه الكلمات من دون أن يحمر وجهها أو تتردد , مجرد عبارة خالية من أي انفعال , مسحت نظرة الأنتصار من عيني براين , وتعبير السخرية في فمه وقال: -" أنت ... هو ؟ انني لا أصدق". -" لا يمكن أن أكذب في مسألة كهذه". وزحف على عينيه غضب أسود وهو يقول: -" الشيطان! أرغمك أن تبقي هناك . وأن تتحملي لكنه سيدفع ثمن هذا , سأمرغ اسمه في الوحل". " لحظة واحدة يا براين". كانت شاني شاحبة تماماً وقلبها يدق بجنون , لكنها سيطرت على صوتها عندما مضت تشرح التغيير الذي طرأ على مشاعرها لبراين : –" كنت اتخذت قراري قبل أن نقضي أندرياس وأنا الليلة في الفيللا. بأنني سأخبرك في نهاية هذا الأسبوع عندما تأتي ... وهذا ما كنت أعنيه عندما قلت أن هناك ما هو أهم من مجرد موقف من أندرياس العنيد أزاء الغاء الزواج , كان في امكاني أن اخبرك عبر الهاتف , لكن كيف أعرف أنك قررت التدخل بتلك الطريقة؟". -"التدخل؟لي الحق في التدخل, باعتباري زوج المستقبل لك!". لكن شاني هزت رأسها وقالت: -" أخبرتك للتو بأن مشاعري اتجاهك تغيرت بالفعل"؟ وحملق فيها وأخذت عروق عنقه تنبض بشدة: -" تجلسين في هدوء تخبرينني بذلك! لا يبدو أن هذا يزعجك كثيراً". واندفعت الدماء الى وجهها عند سماعها هذا الكلام, ولم تعد ساقاها تقويان على حملها ولكنها صممت على أن تنهض من مقعدها وقالت برقة: -" لم أكن أقصد أن نفترق كعدوين , لكن يبدو أننا صرنا كذلك, لم يكن لك أي حق في أن تهدد زوجي , ولو عرفته كما عرفته أنا لما نظرت الى تعليقه نظرة استخفاف بل كان ينبغي أن تشعر بالقلق البالغ ازاءه, ان ما فعله لم يكن مفاجأة لي ولا سيما الآن بعدما عرفت دقائق الموقف , أندرياس أقوى من أن يرهبه أحد بالصياح". والتقطت حقيبتها من فوق المقعد وأخذت تضرب عليها بأناملها في اضطراب ومضت تقول في توسل: " براين... أنك لن تذكر هذا لأي شخص ؟ أرجوك لا تذع أن أندرياس زوجي... لن تتحدث... هل تعدني بذلك؟". وأخيراً قال وعيناه تحومان حولها: -"لا تخافي ... لن أذكر أيا منكما ما دمت حياً". -" شكرا لك". ووقفت هناك, تراقب حركة يده المضطربة يقبضها ثم يبسطها , ثم يمسك بفرش المائدة أحياناً في أوج غضبه, وأضافت: -" أنني آسفة...". -" لا تضيعي جهدك في الأعتذارات , أنا لا أريدك ولا أعتقد أن أحداً غيري سيفعل". أضاف العبارة الأخيرة في احتقار وردت برقة: -" زوجي سيفعل". ثم تركته ومضت.
----------------------------
7- مشاكل محلية
وبعدما قالت شاني تلك العبارة , بهذه الثقة والحسم , انهار جدار الشك وأدركت أن زوجها هو الرجل الذي تريده, وأدركت أن فكرة الحياة معه كانت كامنة في عقلها منذ وقت, وازدادت قوة بتلك الأيام الشاعرية التي قضياها في كوز. مضى أسبوع منذ آخر لقاء لها مع براين, حوالي أسبوعين منذ رحل أندرياس, ولم تصلها منه أية رسائل , لكنها لم تكن تتوقع منه أن يكتب لها , لأن الشائعات والأقاويل ستكون هي النتيجة الوحيدة لوصول رسالة من السيد مانو الى الأخت ريفز في المستشفى, لكن فكرة الحياة معه كانت تسيطر على ذهن شاني طوال مدة غيابه, وفي بعض الأحيان كانت تشعر باحباط عندما تدرك أنه لا يحبها ورغم اعتقادها الراسخ بأن الزواج ينبغي أن يكون قائماً على أسس أقوى بكثير مما كان بأمكان زوجها أن يوفرها فأنه الآن بشكل لا يقاوم حتى أصبحت لا ترغب الآن الا في أن تكون معه, ستذهب اليه بعد عودته وسيعلم- عكس اعتقاده بأنها تكرهه- أن شعورها ازاءه مختلف تماماً , وسيكون فرحاً بعودتها اليه, ومن يدري قد يتعلم أن يحبها عندما يحين الوقت لذلك. -" متى سيعود السيد مانو؟". وجهت هذا السؤال الى الرئيسة وهي تحبس أنفاسها , وتشعر باضطراب أعجزها عن السيطرة على نفاذ صبرها, هل سيشعر بالفرح ؟ بالطبع!. -" الأربعاء ... نظرت اليها الرئيسة نظرة نافذة وهي ترد عليها ثم أضافت: -" تبدين سعيدة جداً. هل كسبت ورقة اليانصيب؟". وضحكت شاني: -" لا ... لا شيء من هذا!". خرجت الكلمات من فمها قبل أن تدرك أنها ستحفز الرئيسة – لا محالة – على توجيه سؤال آخر: -" ما هو اذن؟ أو لا ينبغي ألا أسأل؟". -" لا أستطيع أن أخبرك به بعد". ولم تضغط عليها الرئيسة , تحدثتا فترة قصيرة , ثم اتجهت شاني الى غرفتها , لم تكن في نوبة عمل ذلك اليوم لكنها وعدت بربارة أوسيانا وهي فتاة يونانية قبرصية غادرت المستشفى أخيراً وتعيش مع أمها في منزل جميل مطلي باللون الأبيض المائل الى الزرقة. كان البيت جذاباً من الخارج. أما من الداخل فلم يكن يحوي ما يكفي من الأثاث , وكانت هذه هي الحال بالنسبة الى معظم بيوت الطبقات الفقيرة , لأنهم يقضون ساعات العمل والترفيه في الخارج, وما دام هناك عد كاف من الأسرة , ومنضدة وبعض الكراسي فأن أية قطع أخرى من الأثاث لا تعتبر ضرورية , أما أفراد الطبقات الأكثر ثراء , والذين زار معظمهم أنكلترا أو أميركا , فأنهم على النقيض تماماً , وقد زارت شاني بيوتاً شعرت فيها بأنها تكاد تختنق من كثرة وسائل الراحة. وبعدما تم التعارف بين شاني وأم لوسيانا , ذهبت الأم الى عملها وقالت لوسيانا: -"اليك بعض المرطبات , أعددت الشراب من ثمار الرمان, وأنا واثقة أنك ستستمتعين به كثيراً". -" أعرف ذلك, فقد شربته من قبل". وكانت شاني تقف في الفناء, تحدق نحو الجبال... يوم الأربعاء ... بعد غد... كم هو غريب أنها تشعر بمثل هذا الشوق. وقدمت لها الفتاة وجبة لذيذة من اللحم والسمك والجبن والخيار الصغير فأكلت شاني شاكرة. ولم تلاحظ شاني أن لوسيانا تشعر بالقلق الا بعدما أدت مهمتها وجلست توانسها , ولم تنتظر شاني طويلاً اذ سرعان ما بدأت الفتاة في التحدث عن أنطو ناكيس , وهو شاب من فاماغوستا تقدم لخطبتها أخيراً ومضت لوسيانا تقول: -" اتى والده لمقابلة أمي الأسبوع الفائت , وأراد أن يعرفا ما أمتلكه أي ما هي (دوطتي), وأرتهما أمي هذا البيت , وأخبرتهما أنني أمتلك بعض حقول الزيتون , كما أمتلك أيضاً بعض حدائق الموز ومجموعة قليلة من أشجار البرتقال , وأعتقد أن الأتفاق تم". -" هل هذا كله ملكك؟". -" هذا البيت هو (دوطتي), منحه لي أبي قبل وفاته". -" لكن أمك؟ هل ستعيش معك؟". -" ربما تعيش معنا , لكنها قد تعيش في الكوخ". -" والدك لم يكن لديه ما يكفي من المال ليبني لي بيتاً , ولذلك أعطاك هذا؟". كانت شاني تعرف أن هذا كثيراُ ما يحدث خاصة اذا كانت للرجل عدة بنات, وقالت: -" اضطر لذلك , فأن لي أربع أخوات". وأشارت الى البيت الواقع في نهاية الزقاق وأضافت: -" اضطر السيد سبيروس وزوجته الى منح أبنتهما بيتهما , وهما يعيشان الآن في ذلك البيت الصغير على جانب الزقاق". قالت شاني وهي تمعن في التفكير: -" هذا مختلف تماماً عن أنكلترا – حيث يبدأ الزوجان الشابان حياتهما وهما يمتلكان بيتاً وأثاثاً ومساحة من الأرض تكفي لمعيشتهما , وغالباً ما ينتهيان في بيت أقل شأناً بكثير أو , كما تقولين , في كوخ , أما في بلادي فأن العروسين يبدأن صغيرين ثم ينتهي بهما الأمر الى حياة أكثر راحة ورفاهية, أو على الأقل تلك هي الصورة العامة". وبدا شيء من الكآبة على وجه لوسيانا وقالت: -"في أنكلترا تسير الأمور سيراً طيباً , فأنتم تقعون في الحب , أليس كذلك؟ ويبدو أن الوقوع في الحب شيء جميل للغاية... وتختار الفتاة زوجها, أليس كذلك؟"". وكانت شاني على وشك أن تجيب بالموافقة , لكنها توقفت وهي تتساءل عما ستقوله لوسيانا لو علمت بأن شاني أرغمت على الزواج من رجل لم تحبه... وبعد فترة قالت: -"أنطوناكيس هذا ... كيف يبدو؟". -" لم أراه أطلاقاً". حدقت فيها شاني وهي لا تفهم ... فالأزواج هنا لا يقيمون علاقات حب قبل الزواج , لكنهم يكونون من المعارف , عادة, أو على الأقل يكون أحدهما قد رأى الآخر , وقالت شاني: -" الواضح أنه رآك؟". -" مرة واحدة فقط , جاء ليزور صديقه يانيس , يعمل في المكتب حيث أعمل , ولم ألاحظ أنطوناكيس لأن عدداً كبيراً من الناس يأتون الى المكتب , لكن أنطوناكيس رآني وسأل يانيس عني , وأخبره يانيس بأنني فتاة طيبة ولآ أخرج مع الفتيان , وهكذا طلب أنطوناكيس من والدته أن يأتيا ويقابلا أمي ". -" هل تشعرين بالسعادة من فكرة الزواج منه؟". -" أعتقد هذا ... نعم..". -" هل أنت واثقة أنك سعيدة يا لوسيانا؟". واجتاح شك مفاجىء , العينين الداكنتين , ثم تنهدت لوسيانا في استسلام وقالت في هدوء: -" أنني سعيدة". -" لكن لنفترض أنك لا تشعرين بميا الى هذا الفتى عندما تقابلينه؟". -" سألت يانيس عنه قال أنه فتى لطيف وطيب مع أخواته , وغيرت شاني الموضوع لأنه كان يشعرها بالأحباط, فكانت لوسيانا صغيرة وحساسة للغاية, وينبغي ملاطفتها والتودد اليها وجرها الى حالة الزواج التي لا يمكن التكهن بها بطريقة رقيقة مقنعة , لكن زوجها المنتظر , بدى من ذلك. أرسل والدته لتقيم هذه الممتلكات فقط يتخذ قراره اذا كان سيتزوج الفتاة أم لا. -" لوسيانا ... متى ستعودين الى العمل؟". -" الأسبوع القادم, أنني أشعر بتحسن كبير وكان من الممكن أن أعود هذا الأسبوع , لكن الدكتور غوردون طلب مني , عندما زرت المستشفى يوم الجمعة, أن أبقى أسبوعاً آخر في البيت, ولا أحب أن أفعل ذلك لأننا لا نحصل الا على مكافأة صغيرة عندما نتوقف عن العمل". ونظرت الى شاني ثم أضافت: -"وأنا لا أكتسب كثيرا عن طريق عملي. ولهذا من الأفضل أن أتزوج". وتوقفت عن الكلام عندما فتح الباب رجل كهل البوابة وسار متمهلاً داخل الحديقة وقال: -" مرحبا!". وأضافت لوسيانا: -" أنني مسرورة لحضورك , دخلت ماعز السيد سبيروس الى أرضي". ثم نهضت وأردفت: -"الأخت ريفز , هل تعرفين السيد جورج حارس الحقول؟". وأومأت شاني وهي تصافح اليد الممتدة نحوها وتقول: -" زوجة جورج كانت في المستشفى منذ أسابيع قليلة". -" بالطبع , نسيت , السيد جورج هل لك في كأس من الشراب؟". -" شرابي المعتاد, الأوزو لو سمحت". ثم قالت لوسيانا وهي تناوله الكأس: -"أنني أدفع لك جنيهين في العام لتمنع جيراني من السماح لحيواناتهم بالدخول الى حقولي , ولا تقوم بمهمتك يا سيد جورج". -" أنك لم تذكري شيئاً عن هذا ولم أسمع به الا اليوم , سأذهب بعد بضع دقائق الى السيد سبيروس وأطلب منه أبعاد ماعزه , في أي حال أن الماعز لا تحدث ضرراً على الأطلاق". -" ليست هذه هي النقطة الهامة , كان من الممكن أن تحدث ضرراً لو لم أرها , وقد تشاجرت كثيراً مع السيد سبيروس". وجلست – كم تبدو ضئيلة وهشة, ولم يكن لشاني أن تتصور أنها تشاجرت مع أحد , وأضافت لوسيانا: -" آمل أن تلقنه درسا نافعا". -" أنه يدفع لي جنيهن في العام مثلك". وجاء الرد السريع: -" وبسبب هذا سيكون غاضباً جداً لو أن ماعزي شردت الى حقوله ". واحتج جورج قائلاً: -" جنيهان في العام, انه ليس مبلغاً كبيراً مقابل كل ما أفعله". وتوقفت عن الكلام عندما اتسعت حدقتا لوسيانا وقالت: -" ليس مبلغاً كبيراً يا جورج! هناك ألفا منا يدفعون لك المبلغ نفسه لا بد أن تكون ثرياً!". -" ليس هذا هو الموضوع , فأنك تدفعين لي جنيهاين فقط, وانظري ماذا أفعل مقابلهما , أنني أحرس حقولك". -" أنك لا تفعل, ماذا عن السيد سبيروس؟". -" أنني أحرس حقولك وأحافظ على أمن القرية". -" الأمن؟ هؤلاء الصبية أبناء مارولا يحدثون ضوضاء دائما". -" سأتحدث مع مارولا". -" ولم تحول لي المياه يوم السبت الماضي , أشجار البرتقال الخاصة بي لن تثمر". ولوح بأصبعه في وجهها ثم قال: -" أنك تحصلين على المياه يومي الأثنين والخميس , وهذا هو المسموح لك , لماذا تتوقعين الحصول عليها كل يوم؟". -" لا أفعل , لكنني طلبت منك تغيير الأيام لأنني أريد ألغاء أيام السبت". -" وما هو الفرق في ذلك؟". -" لأنني أكون موجودة في البيت أيام السبت , وبهذا يمكنني أن أراقب المجاري واذا لم أكن هناك فأن الماء يتسرب منها ". -" تستطيع والدتك أن تراقبها فلديها متسع من الوقت". -" ليس لدى أمي وقت , فالعمل في الحديقة شاق , وأنت تعرف ذلك". وفي النهاية أثار هذا الجدل ضحكة من شاني, لكن الأثنين الآخرين كانا منهمكين في الكلام الى درجة أنهما لم يلتفتا اليها , وقال جورج أن الترتيبات الخاصة بالمياه اتخذت منذ عدة سنوات , ولا يمكن تغييرها, وقد حصل جد لوسيانا على الحقوق الخاصة بها من جد الرجل الذي يملك عين الماء, وبموجبها كان للوسيانا الحق في الحصول على الماء لمدة ساعتين أيام الأثنين , وثلاث ساعات أيام الخميس , وفيما يتعلق بجورج, فأن هذا ينبغي أن يستمر الى الأبد. وهز جورج رأسه بحدة وقال: -" اللوائح يا لوسيانا علينا أن نحافظ على اللوائح". واستدارت لوسيانا أخيرا الى شاني, ومدت يديها احباطاً وهي تقول: -" ألا تعتقدين أنهم حمقى؟". -" أجل , ما دام سافاس لا يعارض , لكنني أعلم أيضاً مدى صرامة اللوائح في الجزيرة, ألا يمكنك أن تجهزي المجاري مقدما؟ً". -" ليست المسألة متعلقة بتجهيزها بل اغلاقها عندما تسقي الشجرة بما يكفيها من الماء , وتحويل الماء الى شجرة أخرى, لا بد أن يكون هناك شخص ما عندما تروى الأشجار والا انابت المياه في المكان كله وضاعت. واقترحت شاني وهي تحاول أن تكون نافعة: -" ألا يمكنك تخزين بعض المياه؟". وبادر جورج بالرد: -" يمكنها ذلك ولكن في الخارج فقط, اذ أنه من غير المسموح ادخال المياه الى البيت بالأنابيب , فهذا لم يرد في الأتفاق على الأطلاق". -" أعرف أنه غير مسموح ادخال المياه بالأنابيب , لكن ليس هناك بالتأكيد ما يمنع لوسيانا من تخزينها في صهريج". -" لا أريد تخزينها في صهريج , أريدها أن تنساب بسهولة في أرضي , وعندما أتزوج يا سيد جورج , سيكون عليك أن تفعل ما يطلبه منك زوجي, والا فأنه لن يدفع لك, وحينئذ أين ستذهب؟". وأطلقت شاني ضحكة أخرى وهي ترى أثر هذه الكلمات على جورج, وكأنه أصيب بنوبة مرضية, لكنه بدا أيضاً مستعداً لأستمرار الجدل الى أجل غير مسمى , وبعدما شكرت شاني لوسيانا لكرمها , غادرت المكان دون أن يلتفت اليها الآخران اللذان عادا للحديث على الفور. وأخيراً عاد أندرياس الى لوتراس , وبرغم أن شاني كانت تعلم أن الأجراء السليم هو أن تعرف اذا كان غير مشغول لمقابلتها ام الأفضل أن تزوره في بيته في وقت لاحق من النهار , رضخت لأحساسها باللهفة وقررت الأتصال به فوراً, قبل كل شيء ينبغي أن تقدم أعتذاراً عن سلوك براين, كما يجب أن يعرف أيضاً، أنها هي نفسها لم تكن توافق عليه, وعندما وصلت الى غرفة أندرياس لم تطرق الباب , وبينما هي تفتحه رات تقطيبة داكنة ترتسم على وجهه وقال ساخراً: -" أرجوك، اطرقي الباب قبل أن تدخلي". وللحظة لم تفعل شاني شيئاً الا أن تشهق وتحدق ثم قالت: -"أطرق الباب؟". -" أليس من المعتاد أن يطرق المرء الباب قبل أن يدخل غرفة الطبيب؟". وارتفع حاجباه وكانت نظرته متعجرفة , كان رئيسها وهي مجرد ممرضة, ولم تعد زوجته على الأطلاق, هذا التعبير المذهل! هل محت ثلاثة أسابيع في الخارج ذكرى الأجازة وتلك الليلة في ترودوس, لكن لم تلبث شاني أن وجدت تفسيراً لسلوكه, فهي استقرت بالنسبة الى مستقبلها بينما الوضع بالنسبة اليه لا يختلف عما كان عندما عادا من ترودوس, لم يكن يدري ما هي مشاعرها ولا لماذا أتت, بل على العكس كان يعتقد أنها تكرهه ولا تزال تحب براين, وفضلاً عن ذلك, كان يعتقد أنها وافقت على تصرف براين لأن براين أبلغه بذلك, وتجمعت كل هذه الأشياء في ذهنها , فقالت برقة: -" أريد أن أتحدث معك يا أندرياس". لكنها توقفت وهي تلقي نظرة حولها , كان الأفضل أن تنتظر و فالجو الطبي ليس المكان الملائم لما ستقوله, وبادرت بلهفة: -"سآتي الى بيتك الليلة". -" سأخرج الليلة , تستطيعين أن تقولي ما تريدين هنا". واستقرت عينا شاني على يده التي كان يقبضها يشدة فوق المكتب , كان يبدو أنه موقف الدفاع , ومع ذلك فهو مستعد للهجوم. -"لا أريد أن أتحدث هنا". بادرت بذلك وهي منكمشة وعاجزة عن تذكر أية من العبارات البليغة التي أعدتها ورددتها لنفسها في سعادة وأضافت: -" أنه بشأن ... شأننا وزواجنا, لو أخبرتني متى تكون غير مشغول؟ فأنني أفضل كثيراً لو أتيت الى بيتك , ليس هناك الكثير مما يحتاج للحديث". -" لا يمكن أن يكون هناك الكثير, قيل كل شيء ولن أصغي الى أتهاماتك المضادة أو أعلانك بأنك الآن تنوين الحصول على الطلاق , من وقت قصير كان الزواج يمكن فصمه عن طريقي أنا وحدي, والآن لا يمكن لأي منا أن يفصمه, منذ البداية كنت أرغب في أن تعطي للزواج فرصة التجربة, ولكنك رفضت حتى في الأجازة عندما اعتقدت أننا ربما نكون تقاربنا , أظن أنك ما زلت تقابلين براين الذي تجرأ ووجه الي انذاراً نهائياً وقال أنك توافقين على تصرفه". وأضاف بمرارة: -" أصابني هذا بصدمة, كنت أتوقع منك أن تستنكري تهديداً مثل هذا , وفي أية حال أتخذت اجرائي الخاص وتعمدت الصمت ازاء التهديد حتى لا أثير شكوكك , ولم أقدم أي اعتذار , ان ضميري مستريح لأنني تصرفت وفقاً لمعتقداتي وهي أن الزواج حالة دائمة". لم تكن في صوته رنة غضب , لا شيء يخيفها كما حدث في مناسبات أخرى مختلفة , ومع ذلك كانت مذعورة, حتى قبل أن يواصل كلامه ويخبرها بأنه لم يعد الآن يرغب فيها ولا بفكرة الحياة معا, فأن لديه مشروعات أخرى , ومن الآن فصاعداً لا حاجة بها لأن تخشى أن تقتحم عليها حياتها أو يستفسر عن تصرفاتها , وحاولت شاني أن تتكلم لكن ما جدوى كل مشروعاتها الآن , انه لم يعد مهتماً بها , ومضى يقول: -" عندما أرحل من هنا بعد ستة أشهر سيسلك كل منا طريقاً مختلفة عن الآخر ولا أعتقد أننا سنتقابل مرة أخرى على الأطلاق, وآمل بأخلاص ألا نتقابل". لو أن شاني تعلقت بأية بارقة أمل فقد انتهت الآن, اذ لم يكن هناك أي شك على الأطلاق في صدق هذه الكلمات , قالها باحساس عميق وقوة, ولم يكن من قبل جاداً كما هو الآن بشأن أي شيء في حياته, وأردف يقول وهو لا يزال يحتفظ – كرئيس لها – بنبرة الفتور الخالية من العواطف في صوته: -"بالنسبة الى مركز كل منا بالمستشفى علينا أن نتذكر ذلك, وآمل ألا أضطر الى تذكيرك بهذا مرة أخرى". وتحول اهتمامه واستدارت شاني آلياً لمتابعة اتجاه نظرته وكانت ليديا تعبر الفناء في طريقها الى البقعة التي تظللها الأشجار حيث يقع بيت أندرياس , ودخلت الى الممر وأغلقت البوابة وراءها, ثم اختفت داخل البيت , وألقت شاني نظرة سريعة على أندرياس, اختفت القسوة من وجهه وهو ينهض ويتجه نحو الباب , ويفتحه لشاني لتخرج, ولم يتفوه أي منهما بكلمة, وبعد اغلاق الباب اتخذ كل منهما طريقاً منفصلة. وبعد ذلك بيومين واجهت شاني محنة العمل مع أندرياس في غرفة العمليات , فبعدما ألقى عليها تحية الصباح المقتضبة بايماءته المعتادة , قال لها: -" تبدين شاحبة , هل أنت على ما يرام؟". -" أنني على ما يرام , شكرا لك يا سيدي". وألقى عليها أندرياس نظرة عابرة ثم حول كل اهتمامه الى المهمة التي يقوم بها. ولاحظت جيني أيضا شحوب شاني , وعندما كانتا تتأهبان لحضور عرس القرية قالت بلهفة: -" هل أنت بخير يا شاني؟ لا تبدين على ما يرام على الأطلاق". وتنهدت شاني, كانت تأمل ألا تبقى على هذه الحال طويلاً, والا اضطرت الى ترك العمل بأسرع مما كانت تنوي, وانتحلت عذراص قائلة: -" أشعر بصداع". لكنها أضافت: -" سأذهب الى العرس, مع ذلك , فقد وعدت أليدها, ويجب أن أذهب". كان شقيق أليديا الصغير في المستشفى, وكان هذا سبباً لدعوة جميع أفراد طاقم المستشفى الى العرس. ولما كانت شاني وجيني في غير نوبة العمل طلبتا سيارة أجرة وذهبتا معا, ووصلتا الى قرية أيوس فاسيليوس في موعد مناسب لحضور بعض الطقوس التي تقام قبل الزواج, وكان ( الكومباري) أو شهود العريس يرقصون خارج منزل العروس , ومما لا يصدق أن العروسين كانا يريدان أن يرزقا بفتاة كأول طفل لهما ولذلك أخذت طفلة في الثانية من عمرها تتدحرج, ثم نثرت قطعاً من النقود, وظهرت العروس بالبخور , وبعد أن ألقى جميع جهاز العروس وغيره من البياضات المزخرفة بطريقة بديعة طويت وحملها وال العروس فوق كتفه الى منزل العروسين الجديد, واستمر الرقص والغناء طوال الوقت, وفي داخل البيت كانت وصيفات العروس يهيئنها للأحتفال , وكان القس موجوداً وهو الذي قص شعر العريس استعداداً للفرح, وتحت أشجار الليمون في حديقة منزل العروس صفت موائد طويلة , تغطيها مفارش بيضاء لامعة, كانت القرية كلها في عطلة , لأن حفلات الزواج القبرصية تقتم دائماً أيام الآحاد , وأخيراً شق الموكب طريقه نحو الكنيسة , واصطفت على الجانبين فتيات صغيرات يحملن شموعاً كبيرة مضيئة مزينة بالأشرطة, ودخل الجميع الى الكنيسة وهم يتحدثون في آن واحد , شاني لم تسمع مثل هذه الجلبة من الأصوات من قبل اطلاقاً. -" هذه الأفراح مزعجة حقاً". قالت جيني ذلك وهي تلكز صديقتها وتشير الى شاب يخرج آلة تصوير ثم يتحدث باليونانية مع القس ذي اللحية , طالباً منه أن يوقف الطقوس قليلاً ليلتقط صورة, أطاع القس في ابتسامة واستدار العروسان وأتخذ ثلاثتهم أهبة الأستعداد للصورة , وأضافت جيني: -"الشهود يدفعون تكاليف كل شيء , أتعرفين ذلك؟". وأومأت شاني وقد ذهبت أفكارها كلها عن غير قصد الى حفل زواجها هي, حيث كان الحضور تبدو عليهم المهابة, والقس نفسه جاداً للغاية, أما هنا فتتردد الضحكات والأحاديث الكثيرة الى حد أن شاني خالجها الشك في أن يكون أي من الحاضرين سمع كلمة واحدة من الطقوس. ولم تشترك العروس والعريس في الأحتفالات والولائم الكثيرة, بل جلسا في البيت لتقديم بسكوت العرس الى كل ضيف بدوؤه, ولكن العروس خرجت فيما بعد, وقدمت رقصتها الرسمية, وأعقب ذلك عادة تثبيت أوراق النقود على ثوبها , وسرعان ما غطى الثوب بأوراق النقد , وانضم اليها زوجها الذي غطيت ملابسه أيضاً بالأوراق النقدية, وهتفت جيني: -" كل هذه الأموال! في امكانهما جمع مبلغ يقدر بألف جنيه بهذه الطريقة, يقولون أن هذه العادات بدأت تختفي بسرعة , لكنني أراهن أنها ستبقى". ولم تلاحظ شاني زوجها الا عندما كانت تشبك ورقتها المالية في ثوب العروس, كان مع ليديا , وكانا أيضاً من بين آخر مجموعة من الناس أثبتوا أوراقهم النقدية في ثياب العروسين, وشبكت كل من شاني وجيني جنيها ثم رجعتا الى الوراء , وهمست جيني: -" هل رأيت ما قدمته ليديا ؟ قدمت ورقة بخمسة جنيات". وأضافت باستخفاف: -" هذا فقط لأن السيد مانو أعطاها المبلغ". واستدارت ليديا ورمقت شاني بنظرة متلطفة قبل أن تقول لرفيقها : -"أندرياس , هل نذهب الآن؟ تذكر أننا سنتناول العشاء مع آل بنسون سمايثز". وقالت جيني بسخرية: -" بنسون سمايثز, أراهن أن اسمهم ببساطة سميث وهم الآن في أنكلترا". وضحكت شاني وردت ساهمة: -" أعتقد أنهم مهذبون الى حد ما ... ينبغي أن أتصور أنهم كذلك , لأن السيد مانو يدقق كثيراً في اختيار أصدقائه". -" حقاً؟". وتابعت عينا جيني الأثنتين وهما يتجهان نحو سيارة أندرياس, وأضافت: -" أذن كيف تفسرين اهتمامه بتلك؟". ولم تستطع شاني أن تفسر هذا فلم تقل شيئاً لكنها اكتفت بمجرد مراقبتهما وهما يدخلان السيارة, التي ما لبثت أن اختفت عن الأنظار.
-----------------------
8-الموقف الحرج
أول مرة أصيبت فيها شاني باغماء كانت وحدها, وثاني مرة كانت في غرفة رئيسة الممرضات , عندما كانت في طريقها الى السوق, وتوقفت لتسليم رسالة الى الرئيسة , وعندما أفاقت كان دكتور غوردون يمسك برسغها ويسألها: -" ألديك أية فكرة لماذا أغمي عليك أيتها الأخت؟" وترددت هل عرفوا؟ كانت واثقة أنهم خمنوا , لكنها لم تكن تستطيع أن تكذب على أية حال , وأعقب اعترافها صمت قصير ثم تحدثت الرئيسة بصوت ينم عن الألم والأسف: -" براين يعلم بالطبع؟". وابتعد الطبيب وضمت شاني يديها في حجرها ثم قالت: -" لا ... انني لم أخرج مع براين منذ فترة من الوقت". وتحدث الطبيب بهدوء ودون أي تلميح بلومها: -" صحيح... جيني أيضا قالت أنكما افترقتما". -" لم نر بعضنا بعضا منذ ستة أسابيع". كانت تحاول كسب الوقت وهي عاجزة عن جمع شتات أفكارها أو تحديد ماذا تقول, ونظرت اليها الرئيسة بخشونة وهي تقول: -" ستخبرينه بالتأكيد؟". وهوت رأسها , وانطلقت من بين شفتيها تنهيدة طويلة مرتعشة, وأخيراً استطاعت أن تتكلم بعد تردد طويل: -"أنه ... أنه ليس طفل براين". -" ليس طفل براين؟ طفل من اذن؟". تحدثت الرئيسة وهي تمعن في التفكير , وحبست شاني أنفاسها , هل يمكن أن تكون فطنت للحقيقة؟ ولم تترك شاني مشاعر الشك مدة أطول بل كانت متلهفة للخروج , لذلك أعلنت أنها تشعر بتحسن وغادرت الغرفة, لكنها رجعت لتستعيد حقيبة مشترياتها التي وقعت منها بجوار المكتب عندما انهارت, وكانت الرئيسة تقول: -" لدي شكوكي, رغم أنني لا أجرؤ على الأفصاح عنها, لكنني تذكرت فقط منظراً صغيراً هنا عندما كانت الأخت تبدو فرحة على نحو ملحوظ , وعندما سألتها عن السبب قالت لا يمكنها أن تخبرني بعد... الواضح أنها كانت تأمل أن يتزوجها الرجل, والواضح أنه رفض". -" تقولين لا يمكنك الأفصاح عن شكوكك , هل هو واحد من طاقم المستشفى؟". -" يا دكتور , لا أستطيع أن أقول شيئاً , لكنني متأكدة أنني أعرف من هو الأب". وربتت الرئيسة على وجنة شاني , كانت الرئيسة حادة الذكاء , لكن ذلك المنظر الصغير كما تسميه, لا يمكن في حد ذاته أن يثير شكوكها, كذلك كانت الرئيسة تتذكر أن شاني والسيد مانو احتجزا في ترودوس , واضطرا الى البقاء هناك... في فندق... على حد قول أندرياس. وأخيراً طرقت شاني الباب وفتحته وقالت: -" تركت حقيبتي". والتقطتها ثم نظرت الى الرئيسة وأضافت: -" لعلك لا تقولين شيئاً". -" طبيعي أن الموضوع لن يتعدى هذه الحدود". كان هذا رد الرئيسة المحدد لكنها أضافت: -"عندما تشعرين بالقدرة على الحديث ربما تودين المجيء الي ومناقشة مشروعاتك معي؟". -" أود أن أستريح فترة...". همت بالحديث عندما قاطعها الطبيب قائلاً: -" استريحي الآن ثم افعلي ما تقترحه الرئيسة, تعالي وتحدثي معها". وبعد دقائق قليلة كانت شاني مستلقية على فراشها, وهي تحدق في السقف وتفكر في التقدير الكبير الذي كانت توليها اياه الرئيسة دائماً , وفرت دمعة من عينيها , وكان من الممكن أن تذهب اليهما وتكشف الحقيقة , وتثير دهشتهما عندما تقول ( نعم, أنه طفل أندرياس ) لكن لا حاجة لأن يشعرا بالأسف لها لأنها متزوجة منه زواجاً شرعياً , ولكن سرعان ما خمدت هذه الرغبة , كان بمحض ارادتها أنها خلعت خاتم زواجها , وظهرت بمظهر المرأة غير المتزوجة, لو أدركت اتجاه تفكيرها قبل ذلك بفترة بسيطة لأصبح كل شيء على ما يرام, لكن اهتمام أندرياس بها أنتهى الآن , ولم يعد يرغب في الأعتراف بها كزوجة له, وليس لها حق في تعريضه للأقاويل التي لا بد أن تشوه سمعته ... لم يكن هناك الا طريقة واحدة للسلوى , أن تبتعد عن لوتراس, وبذلك تتجنب مزيداً من الخزي ... لقد وضعت خططاً بالفعل, فقد ترك لها أبوها أموالاً لم تمسها بعد لحسن الحظ, وبموافقة الرئيسة ستبقى في لوتراس شهراً آخر أو شهرين ثم ترحل الى أنكلترا حيث تقيم عمتها حتى يولد الطفل, ثم اذا كانت عمتها غير راغبة في تحمل متاعب طفل في البيت , فأن شاني ستعثر لنفسها على بيت صغير, وفيما بعد, عندما يذهب طفلها الى المدرسة, ستتولى وظيفة ممرضة نصف الوقت في احدى المستشفيات المحلية, هكذا كانت خططها, أنها تريد الطفل وتنوي أن يكون لها وحدها, واذا علم أندرياس بوجوده يمكن أن يطالب بأن يعيش معه جزءاً من الوقت, لكنها مصممة أن ينشأ الطفل في بيئة مستقرة و واتخذت قراراً حاسماً بألا تدع زوجها يعرف أي شيء عنه. وفي اليوم التالي قابلت الرئيسة , وأخبرتها بالخطط التي وضعتها . -" هل ستقبلك عمتك؟". -"أنا متأكدة أنها ستفعل , فأنا ابنة أخيها الوحيدة وستفرح بأن أعيش معها". -" حسناً ... هذا يبدو ترتيباً مرضياً". وتوقفت الرئيسة عن الكلام لحظة, وهي تنظر مباشرة الى شاني, ثم قالت بلهجة شك, مع نبرة حذر: -" بشأن البقاء هنا, هل ترين ذلك قراراً حكيماً؟". ولم تخطىء شاني فهم النصيحة الرقيقة , واحمر وجهها خجلاً, ومع ذلك فأن أفكارها في هذه اللحظة لم تكن تتعلق بحرجها هي, بل كانت تتساءل عن رأي الرئيسة في أندرياس, لأن استنكارها الأكيد الناجم عن اعتقادها بأنه تصرف تصرفاً بعيداً عن أصول المهنة , أثار قلق شاني, لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً ازاء هذا, وفي كل الأحوال فأن سمعته في أمان كاف, وقالت الرئيسة أنها لا تستطيع أن تفصح عن شكوكها , وكان هذا صحيحاً لسبب بأن أندرياس هو والد طفل شاني فلا يمكنها أن تكون واثقة تماماً من ذلك. واستغرقت شاني في التفكير فيما يحدث لو عرفت الحقيقة في أي وقت , حينئذ سيضطر أندرياس الى الكشف عن زواجه حتى يحافظ على سمعته الطيبة. وأخيرا قالت شاني: -" أود أن أبقى , وسينفعني المال". وكان هذا صحيحاً , لأنها لو اضطرت الى ايجاد سكن خاص لها فأن أموالها ستفيدها , غير أن شاني كانت تعلم أن المال ليس هو العامل الهام , فاذا بقيت في لوتراس سيظل احتمال الصلح قائماً , أما اذا رحلت فأن الأنفصال سيكون نهائياً, ومع ذلك أدركت شاني أنها تتعلق بخيط أمل ضعيف للغاية. ووافقت الرئيسة قائلة: -" أعتقد أن المال عامل هام , لكن هل فكرت في احتمال أصابتك بالأغماء وأنت في غرفة العمليات؟". واختتمت الرئيسة قولها بأن هذا سيكون محرجاً تماماً لشاني وللجراح, قالت ذلك لتأكدها من أن أندرياس يعلم بحالة شاني. وقالت شاني بابتسامة فاترة: -" آمل أن تمر مرحلة الأغماء قريباً". وهوت الرئيسة كتفيها وهي تقول: -" الى متى تريدين أن تبقي هنا؟". -" نحو شهرين". وبعد تفكير وافقت الرئيسة ولكن شاني غادرت الغرفة وهي تحس بمشاعر متباينة, ربما كان الأفضل أن تترك العمل الآن, أي أمل لديها حقيقة؟ فتر اهتمام أندرياس بها, أو ربما انتقل الى ليديا موراي, أن البقاء سيضني قلبها, فقد اكتشفت حقيقة مشاعرها نحو زوجها في وقت متأخر جداً. ولم تصب شاني بالأغماء في غرفة العمليات, لكنها أحياناً, كانت تبدو شاحبة , وفي احدى المرات , بعدما تفرس أندرياس في وجهها بدقة , قال: -" أنك شاحبة... ألست على ما يرام؟". وقفز قلب شاني , هل سيرغب فيها لو علم ؟ لا شك في ذلك. لكن أي شعور بالرضا سينتابها وهي تعلم أنه لم يقبلها الا من أجل الطفل؟ ومع وجود هذه المشاعر الجديدة والرقيقة القوية داخلها لم تكن مستعدة للحياة مع أندرياس الا اذا كان –على الأقل- راغباً فيها كزوجة من أجل نفسها. -" أنني بخير يا سيدي". تعمدت أن يكون صوتها فاتراً وخالياً من الأحاسيس , لأنها خشيت أن يكتشف السر, وفكرت بقوة أن الطفل ملك لها ولو علم أندرياس به فأنه سيرغب في مشاركتها اياه حتى لو رفضت أن تعيش معه. وبعد ذلك بأسبوع قالت جيني عندما فرغت من نوبة عملها ومرت معه في عنبر المرضى: -" أنه يبدو عنيفاً دائماً هذه الأيام , سأشعر بسعادة غامرة عندما يرحل!". -" تعنين أنه عصبي؟". -" ليس بالضبط , لكنه في حالة مزاجية غاضبة , سأل الآنسة رونسون اذا كانت تحصل على كفايتها من الطعام, وقالت لا فاعتبر هذه غلطتي". -" الآنسة رونسون لا تحصل أبداً على ما يكفيها من الطعام, فلها شهية مفتوحة دائماً كجواد". -" أعرف , وكذلك الجميع عدا السيد مانو". -" ألم تخبريه بأنها متذمرة دائماً؟". -" ويطير رأسي ؟ لا يحتمل هذا , كان سيئاً بما يكفي عندما جاء في البداية , لكن الآن أصبح لا يطاق". ولم تقل شاني شيئاً , وبعد فترة وجيزة قالت جيني وهي تمعن في التفكير: -" أنني أتساءل كيف يتصرف مع ليديا ؟ فهي تبدو متألقة هذه الأيام , ولذلك أعتقد أنه يحتفظ بمظهر خاص لها وحدها". كانتا تجلسان في شرفة شاني تحتسيان القهوة, وصبت شاني مزيداً من القهوة لنفسها وظهرت تقطيبة على حاجبيها , كيف كانت تتمنى أن يقع في حب ليديا ؟ ومع ذلك لمجرد أن يوافق على الغاء الزواج , وأخيراً غيرت الموضوع وقالت بهدوء: -" سأرحل عما قريب يا جيني... أريد العودة الى أنكلترا , عمتي كما تعلمين تعيش وحدها تماماً". ونظرت اليها جيني بفضول قائلة: -" عمتك؟ لكنك لم تهتمي بأمرها اطلاقاً من قبل, وقلت أنها تحب أن تعيش وحدها, وكنت دائماً تقولين أنك أحببت الجزيرة , وستشعرين بالحزن لو رحلت عنها". وأعقب ذلك صمت غريب, ولهذا السبب ظلت تؤجل الأمر حتى الآن, قالت: -" جيني... أريد فقط أن أرحل, وأرجوك ألا تسأليني أية أسئلة أخرى". وتجاهلت جيني توسلاتها وسألت: -"براين؟ أنك مضطربة جداً بسبب انفصالك عنه". -" كان الأمر مثيراً للأضطراب الى حد ما ". جاء هذا الرد المراوغ من شاني , ربما كانت تلك أفضل وسيلة للخروج من المأزق , لتدع الجميع يعتقدون أنها سترحل بسبب براين, أنها لا تستطيع أن تفكر في عذر آخر, كان هذا عذراً ضعيفاً, وسيعطي انطباعاً بأن شاني بطبيعتها لا تميل الى الأستقرار , لكنه سيفي بالغرض. وقالت صديقتها بطريقة فظة: -" في رأيي أن لقاءك به كان أمراً مؤسفاً , فهو انسان عابث ولا أعتقد أنه سيتغير سلوكه على الأطلاق". وتوقفت , لكن شاني ظلت صامتة ومضت تقول: -" لم تقدمي تفسيراً بشأن هذا الأمر, ولم تقولي اطلاقاً كيف حدث؟". -" كان هناك سبب قوي جداً, لكن لا أستطيع التحدث عنه , حتى معك". -" آسفة, ... أود لو أستطيع مساعدتك". وظهرت سحابة قاتمة على وجه جيني وقالت : -"هل اتخذت قرارك بالرحيل نهائياً؟". -" الرئيسة تعلم, وهي تبحث بالفعل عن بديلة". -" أذن ليس هناك احتمال بأن تغيري رأيك؟". -" ليس هناك أي احتمال". لو أمكنها فقط أن تفضي بسرها, سيساعدها هذا بالتأكيد على ازاحة عبء ثقيل من الأسى واليأس عن كاهلها, فقد استمر أندرياس يعاملها بلا مبالاة قاسية , لكن الأفضاء بسرها مستحيل, وقالت بفتور: -" سأعود الى الوطن قبيل الميلاد". -" بمثل هذه السرعة؟ بعد أقل من ستة أسابيع". -" بل خمسة أسابيع". ردت شاني بذلك وبدأت تعد الأيام. وقالت جيني بعد فترة: -" أعتقد أنك تعرفين ما تفعلين لكنني متأكدة أنك ستشعرين بالأسف , أنني لم أصادف بعد أحداً يمكنه أن يغادر هذه الجزيرة بدون أن يشعر بالأسف". وفكرت شاني , ولا أنا سأرحل بدون أسف... أسف مرير لأنها لمتر النور قبل الآن, لو أمكنها فقط أن تعود القهقرى وتعيش مرة أخرى تلك الأيام التي عاشتها في كوز, لو أنها فقط لم تكن مفعمة بالشك أزاء براين لوافقت على شهر العسل , ولأصبحت الآن مع زوجها , بحث عنها ووجدها أخيراً, وطلب منها أن تعيش معه ونصحها قائلاً: فكري في الأمر يا شاني, فأمامنا طريق طويلة يمكن أن تتسم بالشعور بالوحدة, وخلال الأجازة حاول جاهداً التقرب اليها ولكنها رفضته , وأرهقته المحاولات حتى ماتت كل رغبة فيها, ولا بد أن تفقد هي الأمل مثله, ربما لو لم يظهر لها الرغبة الجامحة في التملك , لنظرت اليه نظرة مختلفة , أتى الى قبرص يحدوه الأمل في استعادتها , والواضح أنه لم يكن يتوقع الأصابة بصدمة دخول رجل آخر في حياتها, هذا أشعل نيران غضبه , وظهرت سماته البدائية واضحة. ومنذ ذلك الحين اكتشفت شاني جانباً مختلفاً تماماً في طبيعته, لمست منه الطيبة والعناية الرقيقة عندما كانت في الأجازة معه, وفيما بعد لمست رقته كحبيب. وسرعان ما انتشرت أنباء رحيلها , لكن لدهشتها لم يسألها أحد عن السبب , لا بد أن جيني أوضحت لهم الأمر, فتجنبوا احراجها لكن الأقاويل ستتردد , وسوف يعرف أندرياس كالآخرين السبب المفترض لرحيلها, وسيظن أن هناك أكثر من مجرد شجار بين حبيبين , فهو جعل الزواج بين شاني وبراين مستحيلاً... ليتها كانت تستطيع فقط أن تذهب اليه وتخبره بأن هذا الأمر لا علاقة له ببراين, ولكنه يتعلق به هو من كل الجوانب, وكان هو الوحيد الذي لم يتحدث اطلاقاً عن رحيلها, وبدا أخيراً غارقاً في حالة لا مبالاة فاترة, في غرفة العمليات كان يصدر الأوامر وهي تطيع, وفي عنابر المرضى كانت جيني أو أية من الممرضات الأخريات يرافقنه في جولته, يتنفسن الصعداء عندما تنتهي المحنة, ولم يكن يبدو انساناً طيباً الا مع المرضى, حيث يسأل عن راحتهم واذا كانت لديهم أية شكاوى, وكانت ليديا تحوم حوله وقد أصبحت تقوم الآن ببعض الأعمال الكتابية لعديد من الأطباء , لكنها كثيراً ما كانت تذهب الى منزل أندرياس ,وترددت تعليقات حول هذا الموضوع. وبعد ظهر أحد الأيام دخلت ليديا الى غرفة العمليات , بينما كانت شاني تعد العدة لجراحة سيجريها أندرياس فيما بعد, كانت ليديا تحمل حقيبة أوراق كتب عليها الحرفان الأولان من اسم أندرياس (أ_م) وتجهمت شاني للحظة, ربما كانت ليديا تقوم بعمل لأندرياس أيضا, وكان هذا معقولاً اذ لديها متسع كبير من الوقت. وحدقت شاني بتساؤل في زائرتها, ورغم أن وجهها كان شاحباً كان متماسكاً بشكل جميل, وكانت مستغرقة في أفكارها بشأن طفلها , أنها تريده صبياً لكنها تشعر بأنه سيكون شبيهاً بها, ويكتسب لون بشرتها المتوردة, ومن ناحية أخرى لو كانت بنتاً فأنها ستشبه أندرياس... سمراء بملامح قوية دقيقة, أندرياس بالطبع سيرغب في انجاب صبي لأن جميع الرجال اليونانيين يرغبون أن يكون أول أطفالهم ذكراً, وهكذا تأمل أن يكون, لكن لو كان صبياً فسيضيع بلا أب عندما يحتاج الى رفقة, أما البنت فلن تفتقد أباها كثيراً, الأفضل اذن أن تتمنى ... وابتسمت شاني لنفسها... وما جدوى كل هذه المفاضلة؟. واقتربت ليديا من شاني وهي تفحص الأدوات وقالت: -" لدي رسالة لك". -" نعم؟". -" ايفينيا من القرية طلبت مني أن أخبرك بأن طلبك جاهز, أعدت لك بعض فوط المائدة المشغولة". -" أشكرك لنقلك الرسالة, سأذهب لأحضارها غداً". وعلقت ليديا بعد فترة: -" سمعت أنك سترحلين عنا؟". -" أجل , أني راحلة". -" قبل الميلاد؟". -" صحيح". وتركت شاني مهمتها وابتعدت لتفحص الأسطوانات , وهي تأمل في أن تفهم ليديا وترحل, لكنها بقيت بجانب المنضدة ثم قالت: -" هذه مفاجأة تامة!". ونظرت شاني اليها, وتذكرت تأكيد ليديا بأنها هي وأندرياس يحتمل أن يعلنا خطبتهما عقب عودته من كوز, وكانت ليديا تأمل أن يصحبها معه الى الجزيرة, ولم يصحبها معه, واستنتجت أنه ذهب وحده... أية صدمة ستتلقاها لو علمت أنه ذهب الى هناك مع زوجته!. وعندما أصبح واضحاً أن شاني لن تتكلم قالت ليديا بفتور: -" هناك تكهنات عن سبب قرارك غير المتوقع بالرحيل... أفراد طاقم المستشفى يعتقدون أن هذا يرجع الى خلاف نشب بينك وبين الشاب صديقك". وتحركت الى حيث كانت شاني تفحص مرة أخرى عربات نقل الأدوات التي أعدتها من قبل, الجراحة لن تجري قبل الرابعة, فقد أجرى أندرياس جراحة في نيقوسيا في الصباح, وهو الآن يستمتع بقسط من الراحة, وأردفت الفتاة : -" لكن هذا ليس السبب الحقيقي , أليس كذلك؟". -" لا أعتقد أنني أفهمك يا آنسة موراي؟". وانطلقت ضحكة ساخرة أثارت أعصاب شاني وقالت ليديا: -" لا يبدو أن أحداً غيري لاحظ , لكنه واضح جداً لي منذ فترة أنك تطمعين في رئيسك, وهذا ليس جديداً بالطبع, فالممرضات كثيراً ما يطمحن الى الزواج بالأطباء , ولكنهن نادراً ما ينجحن , وأعتقد أنك تجدين الموقف مستحيلاً؟". وقالت شاني بنبرات باردة كالثلج: -" آنسة موراي , هلا غادرت غرفة عملياتي!". وضاقت عينا ليديا , وخيَم اللون الداكن على وجنتيها وقالت: -" حذرتك قبلاً من افتقارك الى الأحترام , واذا لم تكوني دقيقة فأنني سأبلغ الرئيسة عنك". -" أفعلي هذا بكل رضا, اذا كنت ترين أن لك شكوى". واتجهت نظراتها نحو الباب... لا بد أن فترة راحة أندرياس قصيرة لأنه دخل في تلك اللحظة , واحمر وجه شاني , كذلك وجه ليديا, وأخذ أندرياس ينقل نظراته بين كل منهما متسائلاً , لكن أيا منهما لم تتحدث , وسأل شاني: -" أهناك شيء ما؟". -" لا يا سيدي". -" لكنني متأكد أن هناك شيئاً ما... ليديا و لماذا انت هنا؟". -" جئت لتسليم الأخت ريفز رسالة". وابتسمت , وفي الوقت نفسه كانت تهز رأسها تعبيراً عن الحيرة ثم أضافت: -" وبدلاً من أن تشكرني أمرتني بالخروج". -" حقاً؟". وتركزت عينيه على شاني , وارتسمت في أعماقهما أغرب تعبيرات وأضاف: -" هل هذا صحيح؟". -" شكرتها...". وللحظة نسيت شاني أن أندرياس هو رئيسها في المستشفى, وأردفت: -" شتمتني , ولا أريدها هنا! وهكذا يمكنك أن تطلب منها الخروج". وأعقب كلماتها صمت مخيف, ووضعت يداً مرتعشة على فمها, لكنها لم تستطع أن ترغم نفسها على الأعتذار, واستمر أندرياس ينظر اليها بتلك النظرة الغريبة, ورغم أنه أنَبها بقسوة خالجها أنطباع لا تفسير له بأنه فعل ذلك لمجرد أنه ليس لديه مجال للأختيار , حيث أن ليديا كانت شاهدة على أنفجارها الذي لا ينم عن الأحترام. وارتسم على وجه ليديا تعبير الفوز الممتزج بالغموض وهي تنقل نظراتها بين شاني وأندرياس الذي- رغم كلمات اللوم والتحذير القاسية- كان لا يزال ينظر الى زوجته بلهفة أكثر منه بغضب. ولم تلاحظ شاني اياً منهما , حدقت في الأرض واحمر وجهها واشتدت حرارته من أثر المحاضرة التي ألقت عليها للتو, كانت غاضبة من نفسها وأشد غضباً أزاء ليديا لأنها أثارتها بهذه الطريقة التي فقدت معها السيطرة على نفسها, وكانت غاضبة على نحو غير منطقي, من زوجها لأنه جاء الى غرفة العمليات بدون توقع, لم يكن له الحق في المجيء الى غرفة العمليات في هذا الوقت قبل موعده! وكان ينتظر أن تنظر اليه حتى يتحدث اليها, وشعرت بذلك فتعمدت أن تستمر في خفض رأسها, ولذلك تحدث مع ليديا بدلاً منها: -" لماذا أمرتك الأخت بالخروج؟ لا بد أن يكون هناك سبب لذلك". -" أنني لا أعرف حقيقة يا أندرياس". كان صوتها خفيضاً وهي تتصرف بطريقة من تريد أن تبدو متسامحة, وراغبة في تخفيف حدة موقف غريب وأضافت: -" من المحتمل أن تكون الأخت ريفز مرهقة, ومن ثم سريعة الغضب". قالت ذلك وهي تبتسم بسرور ثم أردفت: -" الأخت تعمل هنا والمفهوم أنها ترغب في القيام بعملها بدون مقاطعة وأنا أفهم ذلك". واتسعت عيناها الجميلتان اللتان أخذتا تنظران في عينيه بينما انفرجت شفتاها بالنداء, ونظرت شاني لترى ابتسامة سريعة ترتسم على وجه زوجها الذي قال بنعومة موافقاً: -" أعتقد أنك على حق يا ليديا, كان كرماً منك أن تدعي المسألة تمر بهذه الرقة, وأنا واثق من أن الأخت ريفز عندما تشعر بأنها أقل ارهاقاً ستعترف بذلك عن طيب خاطر وتعتذر عن وقاحتها". وارتفع ذقن شاني , لكن شيئاً ما لم يكن يستطيع أن يسحب الكلام من بين شفتيها ما دامت ليديا في الغرفة, وتجاهلت كليهما, وبدأت تعد الآلات من جديد, وهي تأمل أن يؤدي تصرفها هذه المرة الى التأثير المرغوب, وقالت ليديا: -" سأذهب الآن يا أندرياس , هل أراك قبل المساء؟". واختلس نظرة الى حقيبة الأوراق التي تحملها ثم الى ساعته وقال: -" هل ستذهبين الى بيتي الآن؟". -" أجل, كنت في طريقي الى هناك عندما تذكرت الرسالة التي وعدت بنقلها الى الأخت ريفز". -" أعدي قدراً من الشاي, سأكون معك بعد بضع دقائق... لديك مفتاحك؟". -" أجل". ونظرت ليديا في اتجاه شاني نظرة خبيثة , ثم منحت أندرياس ابتسامة رائعة ثم رحلت, وحينئذ قالت شاني وقد خف غضبها: -"لم يكن ينبغي لي أن أتحدث معك بهذه الطريقة , خاصة أمام الآنسة موراي". وتوقعت أن يرتسم في عينيه تعبير قاس صارم , لكن كان كل ما رأته هو أن التعبير الغريب تغلغل في أعماقهما مرة أخرى, قال: -" لم تكن لدي فكرة أنك تكرهين الآنسة موراي". وشعرت بالحيرة, أين الأسلوب المتشدد الذي أصبحت معتادة عليه الآن , وردت: -" لأ أهتم بالآنسة موراي فأستطيع أن أحبها أو أكرهها". -" لا تهتمين؟ لماذا اذن أمرتها بالخروج؟". -" ليس لها أي حق في الوجود هنا". -" سبب وجودها هنا يبدو معقولاً, نقلت اليك مشكورة رسالة تهمك". -" ما أقصده هو أنها لم يكن لها أي حق في البقاء ... أعني بعدما سلمتني الرسالة". -" لماذا بقيت؟". -" لا يهم". ردت شاني بذلك وقد نفذ صبرها, لماذا يشغل أندرياس نفسه بحادثة تافهة كهذه, ثم أضافت: -" لن يهمك أن تعرف". وقال متجاهلاً تعليقاتها: -" قلت أنها شتمتك... ماذا قالت لتثير غضبك الى هذا الحد؟". -" لا يمكنني أن أخبرك". أين الولاء الذي يدين به لليديا ؟ أم أنه لا يدين لها بأي ولاء؟ ولا تعني بالنسبة اليه أكثر من ما تعنيه بالنسبة الى أي من الأطباء الآخرين الذين تقوم لهم بأعمالهم؟ الواضح الآن أنها تقوم بآداء عمل لأندرياس, فهو يكتب المقالات والتقارير وبالطبع يحتاج الى كتابتها على الآلة الكاتبة, وعبست شاني , لا يمكن أن تكون العلاقة مجرد علاقة عمل لأن أندرياس وليديا يخرجان معاً في بعض المناسبات , ومن المعروف أنه تناول العشاء عدة مرات مع والدي ليديا في بيتهم. -" لا يمكنك أن تخبريني... ايه؟ لا بد أن يكون هناك سبب قوي يجعلك لا تستطيعين ذلك؟". ولم تقل شيئا وبعد لحظة سأل أندرياس بنعومة: -"قد يكون هناك شيء ستخبرينني به". ونظر مباشرة اليها , ووجدت صعوبة في مواجهة نظرته , ثم أضاف: -" هل أنت عائدة الى بلادك حقيقة بسبب الأنفصال عن براين؟". وخفق قلبها ... أنه يبدو كما لو كان يتغلغل في أعماق روحها , وكان سؤاله غريب وغير متوقع... انه طبيب, ... هل من الممكن أن تكون بذور الشك بدأت تترعرع في عقله؟ ولو عرف بنبأ الطفل هل سيعرض عليها أن تبقى معه رغم أنه , باعترافه, لم يعد يهتم بها! ولو رفضت عرضه فسيأخذ الطفل منها, والقانون يمكن أن يمنحه هذا الحق, وكذبت يائسة: -" أجل... بالتأكيد من أجل براين". وظلت نظرته اليها لحظة طويلة مخيفة, ثم تكورت شفتاه وقال: -" أعتقد أنك تعتبرينني مسؤولاً عن هذا الأنقلاب في حياتك؟". -" أنك مسؤول". همست بذلك دون حاجة بها لأن تكذب هذه المرة, ورد عليها بلهجة تتسم بشيء من السخرية: -" كنت سأمنحك شرف الأتصاف بالشجاعة... وكنت ستتغلبين على الأزمة في الوقت المناسب , فلم تكن هناك حاجة الى اتخاذ مثل هذا القرار المتهور". وتوهجت عيناها بشكل غريب وهي تقول: -" لماذا تهتم يا أندرياس؟ قلت أنت بنفسك أنك لم تعد تهتم بي". وكان صوتها منخفضاً أجش يحمل نبرة توسل يائسة لم يفهمها زوجها , وقال: -" أنك على حق , فقدت اهتمامي بك , اذن لماذا أزعج نفسي بمستقبلك؟". وبنظرة احتقار جارفة تركها تقف هناك , وقد استندت يدها المرتعشة على عربة المعدات بعدما أندثر شعاع الأمل الرفيع في نفسها بالسرعة التي ولد بها.
-------------------------
9- الرقص على اللهب
كان العمل مع أندرياس مرهقاً من قبل , لكن بعد ثورة الغضب القصيرة تلك في غرفة العمليات أصبح بغيضاً حقاً, وبدأت شاني تتمنى لو أنها أخذت بنصيحة الرئيسة ورحلت مباشرة , لكنها مضطرة للأستمرار في العمل لأن بديلتها لن تأتي قبل أربعة أسابيع أخرى, كان رقص على اللهب أندرياس أثناء العمل يوجه اليها كلمات لا ذعة, وعندما يكونان في أوقات غير العمل كان يعاملها بلا أكتراث, وكان هذا يبدو أوضح أثناء العلاقات الأجتماعية, اذ كان من المعتاد أن يقيم أحد أفراد طاقم المستشفى لقاء من تلك اللقاءات أحياناً في غرفة الرئيسة. وأحيانا في المقهى المحلي , وفي هذه المناسبات تسقط جميع الرسميات وتستخدم الأسماء الأولى في الحديث , وكانت شاني , محبوبة من الجميع عدا أندرياس الذي كان يتجنب الحديث معها عمداً. وأرضى هذا ليديا , لكن كانت هناك نظرة حائرة في عينيها , وغالباً ما كانت تنقل النظر بين شاني وأندرياس وقد ظهرت تقطيبة على ملامحها الوسيمة. -" ماذا جرى لليديا؟ أنها ترمقك بأغرب النظرات". سألت جيني شاني هذا السؤال ذات أمسية وهما تحضران حفلاً في حديقة المقهى , بمناسبة الأحتفال بميلاد غلوفر, وحضر هذا الحفل عدد كبير من طاقم المستشفى. من بينهم شاني وأندرياس. -" أننا لا ننسجم مع بعضنا". ردت شاني بذلك وهي تهز كتفيها بلا مبالاة وتراقب في الوقت نفسه ليديا باشمئزاز وهي ترنو بنظرات الوله الى أندرياس. وقالت كريستالا: -" ومن ينسجم معها؟ لا أحد...". وصححت جيني لزميلتها قائلة: -" ـندرياس مانو... أنني أتساءل ما ستفعله عندما يرحل!" وتدخل الدكتور غوردون في الحديث وهو يهز رأسه وقد ظهرت تقطيبة على وجهه وقال: -" من المحتمل أن تتبعه ... لا أستطيع أن أرى سبب انجذابه اليها , فهي ليست من النوع الذي يلائم أندرياس". -" أنها تقوم ببعض الأعمال له". قالت شاني ذلك ووجهت نظراتها مرة أخرى ال ليديا , التي كانت تتحدث مع أندرياس وفي الوقت نفسه , تضع يدها على ذراعه كنوع من تأكيد العلاقة. واختلس أندرياس نظرة الى حيث كانت مجموعة شاني الصغيرة تتحدث, وكأنه شعر بأنه هو مثار الأهتمام , ونظر بلامبالاة الى شاني ثم استدار مرة أخرى الى رفيقته , التي كانت كأسها فارغة فرافقها. وقالت كريستالا: -" أعتقد أنه يصطحبها من حين لآخر فقط , وأعتقد أنه كثيراً ما يعمل في البيت". وعلقت جيني: -" أن لليديا أبوين ساحرين , ومن المحتمل أن يذهب لمقابلتهما عندما يتناول العشاء في بيتها". وقال الدكتور غوردون وهو يمعن في التفكير: -" أجل ... أنت على حق فيما يتعلق بأبويها , فهما ساحران, وتناولت أنا نفسي العشاء معهما في مناسبتين". وبدأ عازفو فرقة الموسيقى الشعبية الأربعة العزف، ونهض كثيثرون للرقص على أرض الحلبة ، كل زوجين معاً ، بينما هي ركن آخر بدأ ثلاثة من القبارصة تقديم واحدة من أكثر الرقصات اليونانية حيوية. وبعد فترة توقفت الموسيقى ، وأحيلت ( الحلبة) ونهض يانيس حارس قلعة كيريتيا ، وفي الحال دوت عاصفة من صيحات الابتهاج ، اذ كان يانيس النجم الجذاب في أي حفل..كان مرحاً واوروميا للغاية في سلوكه، اذا ظل يعمل في انكلترا عدة سنوات ، ومع ذلك كان مثالاً لليوناني القبرصي، صريحاً ، كريماً، وساذجاً الى حدما، كذلك كان وسيماً ورشيقاً كاي شاب في العشرين من عمره، وقد عرف الجميع بانيس وأحبوه. ورقص رقصاً متواصلاً دون أن يصيبه التعب ، وأخذ يقفز في الهواء وتلوى بسرعة على انغام فرقة البوركي السريعة النابضة ، وأخيراً جلس بجوار أندرياس ، وتحدثا فترة من الوقت، ولكن حينما جلس بدأت الموسيقى تعزف مرة أخرى اتجه نحوشاني وقال ضاحكاً : - تعالي لنريهم كيف نرقص! - شاني ! أجل اننا نريد شاني ... أنها الوحيدة التي تؤدي الرقصة مثل أي قبرصي! جاء هذا الهتاف من الجميع وقالت شاني : - أرجوك يانيس... ليس أمام جميع هؤلاء الناس. لكن كلماتها ضاعت وسط الهتاف ، وأوقفها يانيس على قدميها. كانت الرقصة بطيئة وصعبة، لكن شاني ويانيس كانا خبيرين بها، وقد أمسكا بمنديلين وأخذا يضمانهما ويلوحان بهما بطريقة تعطي تأكيداً خاصاً للانحناءات الرشيقة، كانت الحديقة المظللة على البحر، وعازفو الموسيقى الشعبية بملابسهم الزاهية الألوان ، والأنوار المتلألئة التي تكاد تختفي بين أغصان الكروم، والتصفيق الهادئ الايقاعي... كل هذا ساهم في نجاح العرض الراقص الشيق، وكانت تلك الرقصة تمتد جذورها الى العصور القديمة، وحركاتها تعبر عن طقوس التضحية في العصور الهمجية ،رقص شاني و يانيس مثلما كانت الرقصة تؤدى منذ أكثر من ألفي عام عند المذبح في اليونان القديمة، ونسيت شاني وجود الحاضرين ، ونسيت حتى همومها ، ورقصت استمتاعاً بحياتها، واحمر وجهها ولمعت عيناها وكان جسمها الرشيق الجميل يتحرك في تكامل ولم تتلامس هي وشريكها اطلاقاً لكنهما رقصا في انسجام كامل وكانت خطواتهما خفيفة ودقيقة. وفجأة لمحت عيني زوجها ورأت فيهما الاعجاب و الدهشة معا.وذهبت أفكارها رغماً عنها الى ذلك اليوم في كوز، حين رقص لهما صائد الاسفنج كاليموس رقصة جميلة، وعرفت غريزياً أن أندرياس عاد بأفكاره أيضاً الى كوز، عندما انتهيا من الرقصة دوى التصفيق وهتف الجميع من أجل المزيد.www.liilas.com/vb3 وجلست شاني وقد احمر وجهها وبدت عليها السعادة، كان الفرح يبدو على الجميع إلا ليديا التي اسود وجهها جداً، وهتف يانيس وهو يقدم كأساً اليها: - كانت الرقصة رائعة، شاني هي افضل الانكيز جميعاً في قبرص! وتساءلت : وهل يرقص أندرياس كثيراً؟ كانت تفكر في ذلك عندما رأت لدهشتها ، أنه هو و الدكتور شارا لامبيدر و يانيس الذي لا بكل شرعوا بالرقصة المعروفة في قبرص فقط، ( رقصة المنجل) مما كاد يسحقها: - هل لها معنى خاص؟ وجهت جيني هذا السؤال الى كريستالا، فكانت المناجل تتحرك أحياناً كما لو كان ذلك وقت الحصاد ، بينما اتخذت الحركات الأخرى بشكل سوط يحيط بالأجسام؟ وردت كريستلا شارحة: - انها نوع من الرقص الرمزي، لكن جذورها فقدت، ولابد أن لها علاقة بالخصوبة وجني المحصول، وكانت تؤدي في المهرجانات التي تقام تكريماً للأرض. - ولماذا ترقص في قبرص فقط؟ - لا أعرف ، بدأت أصلاً في اسبرطة ، ونقلها الدوزيون. الى هنا، وفي اسبرطة كانت أرتيس هي الخصوبة، ومثيلتها هنا في أفروديت، ولعل هذا هو السبب في أنها بقيت فترة أطول في قبرص، حيث تعتبر الرقصة متأصلة بقوة لأن أفروديت ولدت هنا. - لكن أفروديت هي الحب؟ ردت كريستالا ضاحكة: - والخصوبة.. والجمال..أن لها عدة أشكال... وكانت هذه الرقصة صعبة أيضاً، لكن الواضح أنها رقصة الرجال وعندما كان المنجل يستخدم في حركة السوط كان يمثل التفاف السوط حول الجسم عند مذبح ارميس القديم حيث كان الشباب اسبرطة يدخلون في مباريات لمدى التحمل و المشاق. ورأت شاني أندرياس وهو يعبر الممر، وتذكرت آثار خوفها وهي في الثامنة عشرة من عمرها وتعيش في كنف أبيها، ولم تتركه وحده الا عندما اضطرت الى ذلك، ولاعجب في أن أندرياس أخافها ، لكنها ليست خائفة الآن.www.liilas.com/vb3 كان مظهره العنيف بغيضاً ، لكنها عرفت الرقة التي تنطوي عليها نفسه، وقدم لها مثالاً بسيطاً للرعاية والاهتمام اللذين كانا سيغمرانها لو أنها فقط اكتشفت مشاعرها في وقت أسرع قليلاً، قبل أن يفقد زوجها اهتمامه بها. راقبت شاني الراقصين مبهورة، وهي تحول نظراتها من حين الى آخر الى وجه زوجها، وذكرها التعبير الذي ارتسم عليه بأن عقيدة الاغريق القدامى كانت هي الحرية والكبرياء و المنافسة النبيلة، ويقال ان الرقص وسيلة يمكن من خلالها ايجاد توازن بين الروح و المادة، ويعبر عن المشاعر و الأحاسيس الأنسانية، ويستمد الجمال من أعماق الروح العميقة، وعبثاً حاولت أن تبعد فكرة أن وجه زوجها ينطق بالحزن الذي يختفي وراء قناع التركيز ، كان حزيناً وبائساء و تجهمت شاني، وحولت عينيها لتنظر الى يديها. لكن تغيير الرؤية لم يؤد الا الى العودة الى صورة أندرياس كما رأته في احدى الأمسيات بعدما ذهبت الى بيته لمناقشة مسألة الغاء الزواج، عندما التفتت وكان جالساً هناك يدفن رأسه بين يديه. وأنتهت الرقصة ، ومرة أخرى ارتفع الهتاف و التصفيق و المطالبة بالمزيد ، ونظرت شاني لتقابل نظرة زوجها ،لم يكن يبدو على الاطلاق يائساً أو حزيناً، لكنه يبتسم بفتور لشيء يقوله يانيس ، واستطاعت شاني أن تبعد فكرة أن أندرياس غير سعيد. وقدمت المرطبات، ثم عرضت رقصة جماعية أكثر رزانة، وسهولة، ووجدت شاني نفسها تقف بجانب زوجها، يده استقرت فوق كتفه ويدها برفق فوق كتفه، وبينما كانا يرقصان أحنى رأسه قريباً من رأسها وهمس في لهجة ساخرة بعض الشيء لكنها مختلفة بالمديح بشكل لا يخطئه أحد: - شاني ، انك ملئية بالمفاجأت ... بعضها بهيج جداً حقاً ... بعضها بهيج جداً حقاً ، أمعنت شاني التفكير في هذه العبارة ، فمن بين المفاجأت غير البهيجة ظنه أنها وافقت على تصرف براين بتهديده، وآلمها أنه صدق ذلك، ومما يدعو للسخرية ان تدخل براين جاء بعدما قررت عدم الزواج منه ، وعندما كانت تفكر جديا في احتمال الحياة مع زوجها ، هل كانت الأمور ستختلف لو أن براين لم يتدخل؟. بدا غريباً للغاية أنه بعدما أرغمها على الزواج ، ثم تحمل مشقة البحث عنها، يفقد أندرياس اهتمامه بها، كان التغيير مفاجئاً ، لاشك في هذا، لأنه طوال الإجازة كان مهتماً بها الى أقصى الحدود، أيمكن أن يقول أنه فقد الاهتمام بها فقط لأنه يشعر بالألم من فكرة أنها مازالت تفضل براين، بعد الإجازة الرائعة التي قضياها معاً؟ ربما، ينبغي لها أن تحاول مرة أخرى، لكن لا، انها مغامرة كبيرة، فقد كان اندرياس مصمماً في قوله بأنه لم يعد يريدها، ولو اعترفت بكل شيء، الآن لأصبحت تحت سيطرته مرة أخرى... من أجل الطفل سيقدم لها بيتاً، فان أن تقبل و تعيش مع رجل لا يريدها، أو أن يشاركها الطفل... أنها لا تشك لحظة أنه لن يلين في مسألة الطفل، لأن الآباء اليونانيين آباء مثاليون، انهم يحبون أطفالهم حباً شديداً. ....لا... إنها لا تجرؤ على القيام بمثل هذه المغامرة الكبيرة. وعندما انتهت الرقصة ظل أندرياس يتحدث مع الدكتور غوردون لفترة قصيرة، ثم سار معه بطريقة آلية، الى حيث كانت شاني تجلس مع مجموعتها الصغيرة. وركزت جيني صديقتها برفق ، فقد نهضت ليديا وتقدمت للانضمام اليهم، وقالت جيني بلهجة أغاظة: - انها مثيرة، وأنا أقر لها بذلك. وضحكت كريستالا قائلة: - أنك فتاة لعوب. - من اللعوب؟ وعمن يدور هذا الكلام؟ تساءل الدكتور غوردون وهو يجلس في مواجهة شاني ، لكن أندرياس بقي واقفاً لحظة، وهو يراقب زوجته التي أخذت بدورها تراقب تقدم ليديا مواري نحوهم في تمهل ، ورفعت شاني بصرها ولسبب غير مفهوم احمر وجهها خجلاً فاندفع الدكتور غوردون قائلاً: - لست أنت ياشاني... وألقى نظرة سريعة على أندرياس تم نظر الى ليديا ، وسرقت في ذهن شاني الكلمات المراوغة التي قالتها الرئيسة للطبيب يوم أغمي عليها في غرفة الرئيسة، وبذلت شاني جهداً لتضحك وهي تهز رأسها، وأشرق وجه دكتور غورودن مما بعث الارتياح في نفسها. ولكن ماذا عن أندرياس؟ كان تعبيره غريباً للغاية في الواقع، التعبير المبهم نفسه الذي ظهر على وجهه أثناء المواجهة مع ليديا في غرفة العمليات، حيث بدا كأنه يشك في أن زوجته تشعر بالغيرة، هل يمكن أن يكون تفكيره متصرفاً الى أنها الآن بعدما خسرت براين بدأت تستاء من ارتباطه بليديا؟ لاشك أن هذا سيبعث في نفسه الرضى الى أقصى حده، وربما لهذا أيضاً أصبح فجأة، لطيفاً مع ليديا بصفة خاصة ذلك اليوم ومتشدداً مع زوجته، الى درجة أنه اقترح عليها أن تعتذر للمرأة البغيضة. وأجفلت شاني ... غيورة؟ ينبغي أن لا تنتابه مثل هذه الافكار التي ترضي غروره ،اذا لم يكن مهتماً بها فأنها ليست مهتمة به ولا بصديقاته. وأحضر أندرياس كرسياً لليديا ثم جلس بجوارها , لكن عينيه كانتا مركزتين على شاني , وأخذ يتفحص وجهها الذي اشتدت حمرته وهو غارق في التفكير... وقالت الأخت لوزيدز بفضول: -"أندرياس , أنت يوناني , اذن كيف استطعت أن تقدم رقصة المنجل بهذه البراعة ؟ أنها لا تعرض في بلادكم, ولذلك لا يمكنك أن تكون تعلمتها هناك". -" عشت في قبرص سنوات عديدة وأنا صبي". -"هذا يفسر الأمر , لن تكون قادراً على الأسترخاء هكذا عندما تعود الى أنكلترا, فالأنكليز متحفظون الى حد كبير, مع اعتذاري لجميع الأصدقاء الأنكليز هنا". -" لا , في الواقع , فأنني سأضطر الى الأحتفاظ بوقاري للغاية". وفكرت شاني... أنه دائماً سيكون وقوراً , وخلال الرقصة ظهر وقاره المتأصل في كل حركة , في الأنسجام والأعتدال , في دفع المنجل بقوة, ولكن برشاقة مع ذلك. -" وشاني أيضا سترحل عنا". تنهدت جيني وهي تقول ذلك, وقد أتضح أن أسفها يشمل أندرياس أيضاً , رغم تذمرها المتكرر من قسوته, وتعالي أسلوبه, وأضافت: -" ألن تكون فرصة لطيفة لو تقابلتما مرة أخرى في لندن؟ ووجدتما نفسيكما تعملان معا في المستشفى نفسه؟". واختلست شاني نظرة بالغريزة الى أندرياس , حيث أدركت أنه يتعمد تجنب عينيها , وتذكرت أمله الذي عبَر عنه بقوة في ألا يراها ثانية اطلاقاً عندما يرحل عن لوتراس , ولم يكن يعلم وقتئذ أنها سترحل أولاً, وأن آماله ستتحقق بأسرع مما كان يتوقع. وقالت براندا موافقة: -"هذا محتمل, لأنك ستعملين في لندن , أليس كذلك يا شاني؟". -" أنني ...". كانت شاني على وشك أن تقول بأنها لا يحتمل أن تعمل في لندن , لكنها توقفت اذ أدركت أن عيني ليديا الداكنتين مركزتان عليها , في تعبير حاقد , ثم أضافت في نبرات فاترة: -" ربما أعمل في لندن, في وقت ما". ونسيت شاني وهي تقول ذلك وجود الدكتور غوردون الذي كان لبقاً فأحجم عن النظر الى شاني أو الأشتراك في الحديث. ورفع أندرياس بصره بسرعة, فتسربت حمرة الخجل الى وجنتي شاني الجميلتين , ها كان قلقاً؟ أكان متوجساً أن تقتحم عليه حياته مرة أخرى ؟ وارتعشت عندما رأت ليديا تعطي كأسها الفارغة الى أندرياس, كانت ليديا تبتسم له, لكنها ظلت تبتلع غصة في حلقها بصعوبة, ولم يكن صعباً أن تراها وقد تأثرت بعمق مما أشارت اليه شاني من أنها يحتمل أن تعمل في لندن. وأزاحت ابتسامة سريعة تقطيبة شاني عندما انضم يانيس الى مجموعتها الصغيرة, وأخذ يتحدث ويشرب ويدخن غليونه, ثم بعد فترة قصيرة , أقترح أن ترقص شاني وأندرياس معا , مما أثار ذعر شاني الى حد كبير. أنها لا تستطيع أن ترقص مع أندرياس, وعلى أية حال فهو لن يرغب في الرقص معها , وعبست ليديا من اقتراح يانيس , لكنه بالطبع لم يلاحظ ذلك, ولدهشة شاني كان أندرياس مستعداً للرقص معها, وقد جاءت الدعوة واضحة من النظرة التي وجهها اليها, وسيكون محرجاً للغاية أن ترقص مع زوجها , وبدأت شاني تهز رأسها , وبينما كانت ليديا لا تزال عابسة, مد أندرياس يده الى شاني التي أمسكت بها, مما سمح له أن يقودها الى الحلبة. وكانت الرقصة مختلفة عن رقصة (المتاهة) المعروفة في كنوسوس , والتي أدَاها تيسيوس والفتيان والفتيات الذين أنقذهم من مينو طور(7) وحش كريت الهائل, وكانت أهمية تلك الرقصة , التي قدمت على مذبح أبوللو , أنها كانت أول مناسبة في تاريخ اليونان يرقص فيها الرجال والنساء معا. وفي معظم مراحل الرقص كانت حركات الجسم تتألف من أنتاءات وانحناءات تعبر عن المتاهة, وأحياناً كان لا بد أن تكون المرأة في حالة الخضوع , مسبلة الجفنين وأن تقوم بحركات مترددة خجول , بينما على النقيض الحاد تكون قفزات الرجل والتفاتاته قوية حادة باعتباره القاتل الشجاع المتوقع للمينو طور. وأستخدمت شاني منديلها بطريقة فريدة ومؤثرة بشكل بارز, حيث عبرت عن أسى أردياني التي هجرها حبيبها بعدما أخرجته بسلام من المتاهة عن طريق كرة من الخيوط , وكان المنديل يمثل حجاباً مزقته أردياني في محنتها , واستخدمته لتجفيف دموعها , وفي الجولة الأخيرة الحزينة من الرقصة تلوح بالمنديل في سلسلة ايماءات يائسة بينما تحمله السفينة ثيسيوس ليبتعد أكثر فأكثر عن الجزيرة التي قضى فيها الليل مع أردياني , وقد بدت النهاية شبيهة بتجربة شاني الى درجة أن عينيها لمعتا بدموع لم تتساقط , وظل أندرياس فترة طويلة ينظر اليها , ثم قادها عائداً الى الحفل وأخذ يهز رأسه بتعبير يختلط فيه نفاذ الصبر بالغموض" -" شاني ... كنت رائعة!". -" رقصتما معا رقصاً بديعاً!". قالت جيني عندما جلست شاني ثم أضافت: -" أي شخص يراكما يعتقد أنكما تدربتما معاً من قبل". ثم همست: -" ليديا مضطربة , أتدرين؟ أنها تشعر بالغيرة منك". -" أذن فأنها لا تستطيع أن تكون واثقة من أندرياس". قالت شاني ذلك وهي ترمق ليديا بنظرة متعالية وتعتقد أن مما يدعو الى السرور أن تكون قطة ماكرة من قبيل التغيير , وكانت غير واعية الى أن زوجها لاحظ تصرفها , وأن هذا أدى الى ظهور تقطيبة على وجهه تعبر عن الأمعان في التفكير , وهمست جيني: -" أنني أغير رأيي بسرعة في أندرياس , أنه ليس سيئاً على الأطلاق, عندما يكون خارج العمل, لا يخطر على البال أنه يمكن أن يكون لطيفاً الى هذا الحد. ولامست شفتي شاني ابتسامة تعبر عن الأمعان في التفكير . ليت جيني رأته وهو يركب دراجة ويطوف بها في أرجاء كوز, أو وهو يعرض جسمه لأشعة الشمس, وقد أرتدى أقل ما يمكن من الثياب, أو وهو يتحدث مع صائد الأسفنج في كاليمونس , وقالت بعد فترة طويلة: -"أعتقد أن معظم الأطباء يعطون أنطباعاً خاطئاً عن أنفسهم,فهم أثناء العمل يكونون متباعدين تماماً , وقد يتصرفون بقسوة". -" أنك تتحدثين كأنك تنتحلين أعذاراً لأندرياس". -" كنت أتحدث بصفة عامة". وتوقفت شاني عن الكلام , وهي تنصت الى الموسيقى , وكانت الأسطوانات تستخدم عندما يكون عازفو الموسيقى الشعبية في الأستراحة, وأدار بتروس أسطوانة تنبعث منها موسيقى راقصة أنكليزية , ونهض وتقدم زوجان الى الحلبة, ووقف الدكتور غوردون ومد يده الى جيني وهو يقول: -" الآن يا يانيس جاء دورنا , يمكنك أن ترى الآن كيف نؤديها". وسأل يانيس شاني: -" ماذا يعني بقوله جاء دورنا ؟ أيعتقد أنني لا أستطيع آداء رقصاتكم ؟ بعد أن عشت في أنكلترا خمس سنوات؟". -" هل عشت هناك هذه المدة؟". -" خمس سنوات , وكانت تمطر طوال الوقت". -" لا , لم يحدث". -" أنت على حق, كان الثلج يتساقط بعض الوقت, عندما لا يكون هناك ضباب أو صقيع أو رياح". وكان وجهه الأسمر عليه تأثير ضحكة كبتها ثم أضاف: -" أتعتقدين أن هذا غير صحيح؟". -" أعرف أنه كذلك". وراقب الراقصين فترة قصيرة ثم قال: -" تعالي يا شاني , لا أستطيع أن أتحمل تلميحات الدكتور غوردون أنني لا يمكنني آداء رقصاتكم". واقتربا من ليديا ورفيقها أندرياس , ومن فوق رأس ليديا ألتقت عينا أندرياس بعيني زوجته, ومرة أخرى لاحظت تعبيره الغريب, وأحنى رأسه وهمس بشيء لشريكته , ودوت ضحكة مما أدى الى اتجاه نظرات عديدة اليها, وفكرت شاني ... امرأة غبية... ألا ترى أن محاولاتها تثير سخرية الجميع. لكن بعد هذه السلسلة القليلة من الأحداث أصبحت الأمسية راكدة بالنسبة الى شاني , وسخرت من الفكرة التي ترسبت في ذهن زوجها الآن بأنها تشعر بالغيرة من ليديا , ولكن لم يكن هناك شك في أن منظر الفتاة بين ذراعي أندرياس ملأ شاني بشعور اضطرت بكل أمانة أن تعترف بأنه الغيرة... لا يمكنه اطلاقاً أن يتزوجها , والواضح أنه لا يحبها , لكنه يوجه لها اهتماماً أكبر من أي الأطباء الآخرين الذين تؤدي لهم عملاً, وخاصة في الآونة الأخيرة, لعله بعدما استسلم الى أن شاني لا يمكن أن تكون له , قرر اشباع رغباته الداخلية عن طريق الأنغماس في علاقة مع امرأة أخرى؟ أن علاقة سطحية مثل هذه شيء غير عادي بالنسبة الى الرجال اليونانيين , واقتحمت أفكارها ذكرى تلك الليلة التي قضتها مع أندرياس في الفيللا , وأصبح منظر ليديا في أحضان أندرياس غير محتمل , واستبعدت ذلك قائلة لنفسها( أنه لن يفعل) ليس بعد أن أقسم ذلك اليمين...) , لكن في اللحظة التالية ذكرها أدراكها أنه بشر كما أنه يوناني بتلك العواطف الجياشة للشرقيين. وسار أثنان من البحارة في الحديقة, وقال أحدهما وقد أخذ يتمايل على أنغام الموسيقى: -" أهذا حفل؟". -" هلا انضممتمت الينا!". توقف يانيس عن الرقص ثم جذب شريكته . -" شكراً, كنا نحب أن ننضم اليكما لكن لدينا موعداً عند كليتو , فأن مجموعة من السياح ذاهبة الى هناك, وقد وعدنا كليتو بأننا سنقدم اللون المحلي لهم... لماذا لا تنضمون جميعاً الينا؟". ووافق الجميع وبعد بضع لحظات أصبحوا جميعا في السيارات , وأخذوا البحارين معهم وكان مقهى كليتو بعيداً جداً عن الفنادق الفخمة في قبرص, ولكن زيارة هذه الجزيرة كانت ضرورية في أية أجازة, فالجدران كانت بيضاء ناصعة , تعلقت عليها شباك صيد, وحتى الأنوار كانت تميل الى لون التراب, والمناضد عبارة عن براميل , زينتها الوحيدة البقع ورماد السكاير, أما الأرضية فكانت عبارة عن أحجار غير مغطاة , ومن منصة ساطعة الضوء في أحد الأركان تنبعث موسيقى البوزوكي , وفي وسط الحلبة بعض البحارة يقدمون الى السياح ما جاؤوا لمشاهدته , وكانوا يرقصون ببراعة , وقد جلس السياح حولهم يشربون ويدخنون , وهم يشعرون ببهجة بالغة من الجو المحيط بهم. وهتف رجل كهل: -" هذه هي قبرص الحقيقية... ينبغي أن نأتي الى هنا كل ليلة". وسألت سيدة كانت تجلس بجانب شاني: -"من منهم كليتو , أخبرونا بأنه أعمى". -" أجل أنه أعمى, ها هو قادم على السلم". وفي الحال ترك أحد البحارة الراقصين وذهب لمساعدة كليتو , وكان الرجل المسن يبدو سعيداً كما يشعر دائماً عندما يكون مقهاه مملوءاً بالزبائن. -" كيف أصبح أعمى؟ أخبروني بأنه ضرب في المقهى". -" أجل , كانت هناك مشاجرة". -" لكن من فعلها؟". وترددت شاني في الرد على هذا السؤال حتى قبل أن ترى نظرة يانيس المحذرة , وتحدث بالنيابة عنها: -" أننا لا نذكر ذلك, هل ترغبين في مقابلة كليتو؟". -" أجل". ونهض يانيس , وأحضر كليتو الى حيث كانوا يجلسون, وابتهج السياح بذلك, ورحب بهم الرجل المسن, وشرب الجميع نخبه وقالت له السيدة: -" الجو رائع , أردنا اللون المحلي وتحقق لنا هذا بالتأكيد". وفي أحد الأركان المظلمة جلس البحارة في تكاسل وهم غير حليقي الذقون , وتصاعد دخان السكاير, وفي أماكن أخرى ذات الضوء الخافت فتيان وفتيات يتبادلون الغزل... كان هذا كله عرضاً أعده أصدقاء كليت المخلصون ليجمعوا له المال اللازم لأجراء عملية جراحية في عينيه , لكن لم يكن هناك شك في أن قضاء أمسية عند كليتو شيء لطيف وممتع وقالت شاني لكليتو: -"لا أعتقد أن أي شخص يمكنه أن يرحل من هنا دون أن يقسم بأن يعود". -" هل ستخبرين أصدقاءك؟". -" انني أفعل دائماً؟". وكان الى جوارها رجل مسن من أقارب كليتو أسمر اللون وبلا أسنان , ويقدم مساهمته المعتادة في ألوان التسلية, حيث أدت حركاته وهو يضع كأساً فوق رأسه في توازن ,الى عاصفة مدوية من ضحك الرجال , لكنها أثارت ارتباك السيدات. سوقي... كان هذا هو التعبير الذي نطقت به ملامح ليديا , وقالت جيني بنعومة: -" أنظروا الى وجهها ... يبدو أن هذا النوع من التسلية لا يناسبها". ولم يكن كذلك, فقد تثاءبت ليديا مراراً , وفي النهاية استدارت الى أندرياس قائلة: -" ألا نذهب؟ الساعة جاوزت الواحدة". وقال الدكتور شارالامبيدز: -" المرح بدأ لتوه , وهو يستمر حتى الثالثة صباحاً". -" لا يمكنني أن أبقى الى هذه الساعة , أندرياس , هل توصلني الى البيت؟". وتردد, اذ لمح الشرر في عيني زوجته , ثم قال بنعومة : -" حسناً جداً يا ليديا, سنرحل اذا شئت , هل يريد أحد أن أوصله؟". وهز يانيس رأسه : -" ليس أنا... أنني أستمتع بما يدور حولي". وهزت جيني أيضا رأسها وقالت: -" ولا أنا..". ولم يرغب أي من الحاضرين الآخرين في توصيلة, ونطق وجه ليديا بالسعادة من فكرة مرافقة أندرياس في سيارته في ضوء القمر. وقالت شاني وهي تنهض: -" أود أن توصلني , أدركت للتو أنني مرهقة الى حد ما". وقالت لنفسها وهي تتبعهما الى السيارة: -" أجل , أنني خبيثة الليلة".
---------------------------
10– سماء بلا غيوم
لم تبق الا عشرة أيام قبل رحيل شاني الى أنكلترا, وأصبحت مستعدة تماماً, أعدت حقائبها ونقلت الى ميناء فاما غوستا لترسل من هناك على السفينة التالية الى ليفربول, واستعدت عمتها لأستقبالها, لكن خطابها تضمن عديداً من التعليقات اللاذعة عن الرجال بصفة عامة, وأندرياس بصفة خاصة, ذلك بعدما كان من الصعب جداً على شاني أن تشرح الموقف بدون أن تضع أندرياس في وضع سيء, وأكتشفت من الرد أنها لم تكن ناجحة كما اعتقدت. وكان من المعتاد أن يقيم أي من أفراد طاقم المستشفى الراحلين حفلاً, وطلبت شاني من الرئيسة الأذن لها بأن تفعل ذلك, وبدت الرئيسة مندهشة الى حد ما وهي تعتقد, أن الموقف لن يكون مريحاً سواء بالنسبة الى أندرياس أو بالنسبة الى شاني, وكانت تجلس هي وشاني في الشرفة , ورغم أن الجو كان دافئاً كانت السماء قاتمة بالغيوم منذرة بالمطر, والأمطار الغزيرة غمرت ترودوس بالفعل حيث أصبح الجو في تلك البقعة المرتفعة بارداً الى حد أن الثلج أصبح متوقعاً قبل وقته المعتاد , وبعدما أعطتها الرئيسة الأذن بأقامة حفل الوداع سألتها: -" هل ستعودين الى التمريض؟". -" فيما بعد .. نعم". -" هل سترعى عمتك الطفل؟". -" لم أطلب منها, لكن اذا لم تفعل سأضطر الى الأنتظار حتى يدخل المدرسة". -" ثم تقومين بعمل نصف الوقت بالطبع". وأومأت شاني وقد أجتذبت أهتمامها سيارة ليديا وهي توقف في موقف السيارات بجانب المستشفى, وخرجت الفتاة , وسارت بنشاط في اتجاه بيت أندرياس , ورمقت الرئيسة شاني بنظرة جانبية , مما جعل وجهها يحمر خجلاً, ولم يكن من الصعب قراءة أفكار الرئيسة , اذ كانت تراودها الأفكار القاسية أزاء أندرياس , وتظن أن شاني كانت حمقاء الى أقصى درجة وقالت: -" ينبغي أن تكتبي لي, وتدعيني أعرف أحوالك". ولم ترد شاني ... حالما تغادر الجزيرة ستقيم حياة جديدة لنفسها , وتستخدم اسم زوجها , ولا بد أن تكون هناك قطيعة كاملة , ولن يمكنها حتى أن تكتب لجيني , أفضل صديقاتها , والتمعت دموع في عينيها , وتساءلت : هل سيشعر أندرياس بالأسف لو أكتشف كيف أدى تصرفه الى قلب نظام حياتها ؟ كل ما عرفه هو أنها ستعود الى أنكلترا , ومن الطبيعي استنتاجه أنها ستعمل هناك , وفكرت . ربما يواجه أزمة خطيرة مع ضميره لو عرف الحقيقة , ولكن الأمل هو ألا يعلم بالحقيقة اطلاقاً من أجل الطفل. وبينما شاني في طريقها الى المبنى الملحق لزيارة بعض المرضى وهي في غير نوبة العمل القت- آليا- نظرة الى موقف السيارات , أصبح واضحاً الآن أن العلاقة بين أندرياس وليديا تقوى بسرعة, يظهران معاً أكثر كثيراً مما لو كانت مجرد علاقة عمل, وذلك منذ ليلة حفل الأخت غلوفر, هكذا فكرت شاني, صحيح أنها أيضا واجهت لحظة انتصار قصيرة عندما رقصت مع زوجها , لكن فوز ليديا كان الأخير , وقالت شاني: وهي تستعير بعضاً من حقد صديقتها ( لكنه لا يستطيع أن يتزوجها)... ستصاب بصدمة لو كان هذا ما تفكر فية. وكانت عمة لوسيانا في الملحق, اذ زلت قدمها فوق السلم مما أدى الى أصابة رأسها وذراعيها بجراح, لكن اصابتها لم تكن خطيرة , وكانت تستمتع تماماً بالراحة والطعام الجيد, وترف العيش لوجود من يقوم بخدمتها لأول مرة في حياتها , وكانت عجوزاً ذات بشرة متغضنة , لكن شاني وهي تقترب من فراشها رأت عينيها المعبرتين للغاية تبرقان فرحاً, وأمسكت العجوز بيد زائرتها قائلة: -" أعتقدت أنك ستذهبين بلا كلمة صغيرة معي". -" لم أكن لأفعل ذلك... أردت أن أتحدث الى الرئيسة في فترة عدم انشغالها". -" قبل أن تحضري كانت عمتي تقول أنها تود أن تقبلك". قالت لوسيانا هذا , وكانت قد وصلت في غياب شاني , وجلست على الجانب الآخر من الفراش, وتساءلت شاني بلهفة: -" لماذا؟". -" عمتي تحب جميع الأنكليز , ملكتكم ترسل لها مبلغاً من المال كل شهر , ولم تتوقف أبداً أو تتأخر عن موعدها , ولأنها تحب الأنكليز تريد أن تقبلك". وأحنت شاني رأسها وقبلت العجوز خدها,وكان وجهها مبتسماً ولكنه جاد, كان هناك عمق كبير في بعض هؤلاء السيدات المسنات , وكثيراً ما كانت شاني تتساءل أي نوع من التأثير كن سيتركنه في جزيرتهن لو أنهن كن متحررات ومتعلمات , وسألت شاني, وهي لا تزال تمسك يد العجوز: -" من قتل والدك في الحرب؟". -" كان في البحرية البريطانية , وترك لعمتي ستة أطفال, تركها وحيدة تماماً مع ستة أطفال". وفكرت شاني , وأنا أشعر بالأسف لنفسي من فكرة أن أتعهد بتربية واحد تعهداً كاملاً , واستطردت لوسيانا: -" كان أكبرهم في الثامنة , لكن والد ملكتكم أرسل لهم مبلغاً من المال لشراء الطعام والملابس , وللأنفاق على تعليمهم , وتلقى جميع أبناء عمتي تعليماً ممتازاً , وهم يعملون الآن في مناصب برواتب كبيرة , ولهذا نحب جميعاً الشعب الأنكليزي". وابتسمت شاني قائلة: -" أجل يا لوسيانا , لاحظت أنك أنت وأسرتك من بين القلة الذين عرفتهم ولا يكفون عن تذكيري (بالطرق التي أقامها البريطانيون لنا) وأنت تعرفين الأجزاء الضيقة من الطريق المسفتة, التي تدفع سائقي سياراتكم , لسوء الحظ الى اعادة السير في وسط الطريق, وفي بداية وجودنا هنا أستأجرنا , صديقي وأنا سيارة لمشاهدة شيء من جزيرتكم , وشكوت من هذه العادة, لكنني سرعان ما تعلمت كيف أصمت لأنهم كانوا يقولون لي أنها غلطتي مرددين ( أنكم أنتم الذين أقمتم الطرق لنا)". وبدا الألم على لوسيانا , وقالت: -" هذا أمر سيء للغاية". -" كان كله نابعاً من روح الدعابة , جدلك القصير مع حارس الحقول كان أقرب الى الشجار من أي شيء آخر سمعته منذ مجيئي الى هنا". -" هذا لأننا جميعا أقرباء , حتى من بعيد, والروابط العائلية قوية جداً في قبرص". ثم نهضت لوسيانا قائلة: -" أنا مضطرة للرحيل الآن يا عمتي... غدا ستأتي أمي". -" لا تنسي أن تروي حديقتي". -" سأرويها لكنها ستمطر غداً". -" ربما, لكن ريها ضروري". ثم رفعت بصرها وقالت: -" هل أنت ذاهبة أيضا أيتها الأخت؟". وردت شاني برقة: -" حان الوقت لتنامي فيللا , تحدثنا بما يكفي". وشعرت شاني بأن من بين الأشياء التي ستأسف عليها كثيراً عندما ترحل عن الجزيرة فكرة توديع أولئك المسنين الرائعين, فهم يمثلون حياة القرية البسيطة وعاداتها, ولن يأتي جيل آخر ليحل محلهم , لأن قبرص تدور في دوامة التقدم. لم تبق الا ثلاثة أيام على الرحيل, وأقامت شاني حفلها في الليلة السابقة في غرفة الجلوس الخاصة بالممرضات , وكان طبيعياً أنها لم تدع ليديا, أما أندرياس فكان فاتراً، لكنه في بعض الأحيان , كان لطيفاً وكانت عيناه تلتقيان بعينيها فتلم فيهما ذلك الشعاع الغريب الكامن في أعماقهما وهو يقدم لها بعض المرطبات , أو يجلس في الشرفة ويشترك في الحديث حيث كانت مجموعات عديدة صغيرة تجلس تحت سماء تضيئها النجوم. -" لا يبدو أن الأمطار أفادت كثيرا". وشعرت شاني بالحرج حين وجدت نفسها وحيدة مع أندرياس , وأضافت تقول: -" أعتقد أن ذلك لأن الأرض جافة الى حد كبير, فلا تستطيع الأمطار التوغل فيها". -" ولهذا نرى السيول الجارفة تغرق الطرق, وقد انهار جانب من الطريق الى فاسيليوس". وفكرت شاني, مثل هذا الحديث الجاف , وفجأة بدا الجو , مكهربا. -" بالطبع عندما يتوقف المطر تبزغ الشمس على الفور وتبدأ في تجفيف الأرض مرة أخرى , سيكون الأمر سيئاً للجزيرة لو كان الشتاء جافاً مثل العام الفائت". وشعرت شاني أن زوجها لديه شيء هام للغاية يريد أن يقوله لها لكنه لا يستطيع أن يجد الفرصة مع وجود كل هؤلاء الناس. -" ومع ذلك سقطت كمية كبيرة من الثلوج على ترودوس, ولو ظل الحال هكذا فأن المياه الناتجة عن ذوبان الثلوج ستفيد كثيراً". وانضم الدكتور غوردون اليهما, ثم جاء شخص آخر أو أثنان من غرفة الجلوس, وأطلق أندرياس تنهيدة صغيرة وبعد فترة قصيرة استأذن بالأنصراف قائلاً أن لديه عملاً يريد أن ينجزه . وفي الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي استدعي الى نيقوسيا بصورة عاجلة , وعندما وصل الى هناك اتصل هاتفياً بلوتراس قائلاً أنه لن يعود قبل ساعة متأخرة من مساء اليوم التالي , ولم تكن شاني في نوبة عمل , ولكن الرئيسة طلبت منها أن تحمل بعض التقارير الى غرفته. ووضعتها شاني , ثم لمحت المفتاح ملقى فوق المحبرة , مفتاح الفيللا في ترودوس. سوارها... شعرت شاني فجأة بأنه من الضروري أن يكون في حوزتها هدية زوجها الوحيدة لها , الى جانب خاتمي الزواج والخطبة بالطبع. ووقفت بجانب المكتب ثم التقطت المفتاح في تردد... يمكنها أن تذهب الى الفيللا وتعود قبل أن يعود أندرياس... هناك سيارة أوتوبيس تقلع بعد نصف ساعة. كانت الطريق خالية من العقبات , لكن الثلوج السميكة تكسو الجبال, وبدأت سحب سوداء ضخمة تظهر منخفضة بشكل يهدد بالخطر عندما غادرت شاني سيارة الأوتوبيس , واتجهت نحو الطريق الضيقة التي كان أندرياس يقود سيارته فيها تلك الأمسية التي لا تنسى , وظهرت الفيللا من خلال الظلام صغيرة كئيبة منعزلة ومهجورة , وكانت مظلمة وباردة من الداخل, واجتاحت شاني رعشة وهي تسرع نحو غرفة النوم , وبعدما وضعت السوار في جيبا خرجت من الفيللا مرة أخرى, وأغلقت الباب بالقفل, وغادرت المكان بدون نظرة واحدة الى الوراء, وسقط الثلج بكميات كبيرة على الجبال الساكنة , وفي الوادي , وكان الأوتوبيس سيواصل طريقة الى برودهروموس ثم يعود, وينبغي أن تلحق به لأنه آخر أوتوبيس ذلك اليوم الذي انخفضت فيه الرؤية الى مجرد بضع ياردات... وأنبت نفسها ... لم تكن فكرة جيدة أن تأتي الى ترودوس , ومع ذلك كانت سعيدة لأنها استعادت سوارها, أن رحلة العودة ستكون مملة وبطيئة لكنها حالما تعود سالمة الى المستشفى لن تشعر بأي ندم على قرارها المتهور بالذهاب الى الفيللا. وبدأت تركض , ولكن على مسافة قصيرة من الفيللا ارتطمت قدمها بصخرة كبيرة , وفي محاولة لأستعادة توازنها اقتربت من الحافة, وفي ثوان اندفعت الى أسفل على جانب الجبل وضاعت صرختها التي بددها الثلج , وأحاط بها الظلام من كل جانب. وعندما استعادت وعيها تسللت الى أنفها روائح المستشفى وسمعت الأصوات المألوفة أيضا... المألوفة في غموض... الرئيسة... الطبيب... مونيكومو... ومن بعيد وصل اليها صوت زوجها. -"شاني" -وتوقف , ثم أضاف: -" أيتها الرئيسة, هلا تفضلت بالخروج؟". واختفى الشبح المتشح باللون الأبيض من خلال الباب... الألم... الأحساس بالضياع... وحدقت عيناها الجامدتان في هاتين العينين اللتين كانتا تنظران اليها... وبرغم كونها لا تزال تشعر بالدوار , زال التعب عنهما, تماماً مثلما زال التجهم عن فم زوجها ... ولم تلاحظ التجاعيد الصغيرة البيضاء القريبة من فكه, أو الحركة التي لم يستطع السيطرة عليها في حنجرته, وقالت بصوت أضعفه الألم: -" هل أجريت العملية يا أندرياس؟". -" أجل يا شاني! اضطررت الى ذلك. اذ لم يكن هنا أحد غيري". -" أذن فلا بد أن تكون راضياً الآن, اذ سلبتني كل ما كنت أملك". وجفل من تأثير نبرتها التي تعبر عن المرارة والأتهام, ولكنها لم تستطع مرة أخرى أن ترى هذا وأردفت: -" آمل أن تكون حصلت على المقابل كاملا لأية اساءة ربما تسببت لك فيها". لأول مرة مرة في حياتها تحدثت بطريقة ظالمة, لكنها كانت لا تزال مريضة جداً لا تستطيع حتى أن تفكر في كيف أتى أندرياس الى هنا, أو كيف نقلت هي نفسها الى مونيكوكو . الواقع أن ألمها كان حاداً الى درجة أن أندرياس اضطر الى حقنها مرة أخرى, وبعد دقائق لم تعد تدري بأي شيء حولها. وفي المرة التالية فتحت عينيها كانت في مستشفى لوتراس, وكان باب جناحها الخاص مفتوحاً , ووصلت الى مسامعها أصوات من الخارج. -" الأخت ريفز هنا , أخبروني بذلك". هذا صوت ليديا , لا بد أنها وصلت للتو. -" أجل , كانت الشوارع خالية من العقبات , ولذلك أحضروها في سيارة اسعاف صباح اليوم". -" أندرياس , هل ما سمعته صحيح؟ سمعت أثنين من الممرضات تتحدثان عن طفل". -" لسوء الحظ ! أنها فقدت الطفل". -" لسوء الحظ! أعتقد أنها سعيدة جداً . يا له من أمر مثير للأشمئزاز لكنني كنت دائماً أعتقد أنها من ذلك الصنف". وجاءت المقاطعة ناعمة: -" شاني هي زوجتي , والطفل كان ابني". وهتفت ليديا: -" زوجتك؟". -" أجل يا ليديا زوجتي, والآن , عن أذنك , يجب أن أذهب اليها فقد بدأت تستفيق". وأغلق أندرياس الباب, وتقدم ببطء نحو الفراش, وشعرت شاني بيده الباردة فوق جبينها قبل أن يسحب كرسياً ويجلس , وكان وجهه مرهقاً لكنه ليس كئيباً ولا منهكاً كما كان في آخر مرة. -" كيف تشعرين الآن؟". -" أفضل كثيراً, زال الألم". ومرت لحظة صمت شابها الأرتباك , ثم أضافت: -" شكرا لك يا أندرياس , أنقذت حياتي على ما أعتقد , ثم لم أكن أقصد تلك الأشياء الفظيعة التي قلتها هناك . سامحني". -" ليس هناك ما يدعو للغفران يا عزيزتي, كنت ضعيفة جداً في الواقع ساعات بعد العملية". وسرت في جسمه رعشة لكنه أضاف مبتسماً: -" ومع ذلك ستتقدمين تقدماً طيباً الآن, وسنجعلك تستردين صحتك في وقت قصير جداً". كان صوته منخفضاً , ورقيقاً , وأخذ بيدها وهو متردد وكأنه خائفاً من توجيه السؤال الذي كان يتأرجح على شفتيه, لكنه سألها في الحال , وكانت لهجته , للغرابة تتسم بالثقة: -" أتحبينني يا شاني؟". -" أجل يا أندرياس , أحبك, هل عرفت أنت ذلك؟". -" أعتقدت أنني عرفت منذ فترة , أثناء تلك النوبة القصيرة من الغضب التي انتابتك في غرفة العمليات , اذ كان في امكاني أن أقسم بأنك تشعرين بالغيرة من ليديا , لكنك بددت ذلك الوهم عندما أجبت على سؤالي عن براين ... لماذا كذبت؟". -" كنت خائفة جداً أن تشك بوجود طفل في أحشائي , ولم أكن أريد أن تأخذه مني ... أقصد تشاركني اياه , اذ لم يكن من مصلحة الطفل أن ينشأ وهو يدين بالولاء لأثنين متباعدين". كانت على وشك أن تسأل كيف عثروا عليها لكن أندرياس مضى في حديثه: -" وهكذا تركتني أعتقد أنك ما زلت تحبين براين... لماذا يا عزيزتي لم تكن لديك الشجاعة لتخبريني؟". أمتلأ قلب شاني بفرح جديد برغم فقدها الطفل , وشرحت له الأمر فظهر على وجهه تعبير الندم, ثم قال: -" كانت كبرياء حمقاء تلك التي جعلتني أقول أنني فقدت اهتمامي بك, شعرت بمرارة , اعتقاداً بأنك وافقت على تهديدات براين , وماذا زلت تفضلينه , بعد اجازتنا الرائعة في كوز, لو أنك أخبرتني عن الطفل, لماذا لم تفعلي؟". -" أعتقدت أن البديل الذي ستقدمه لي هو الحياة معك من أجل الطفل فقط". ونظرت اليه وقد أمتلأت عيناها بالدموع: -" لم يكن في استطاعتي أن أفعل ذلك بعدما أحببتك كما أحببتك , وأعتقدت أنني لو رفضت العيش معك فستصر على أن تأخذ الطفل مني ... بعض الوقت". وفرت دمعة من عينيها وأضافت: -" أكدت أنك فقدت الأهتمام بي , و ... قلت أنك لا تريد أن تراني ثانية ... أعتقدت أنك تعني هذا , وأعتقدت أنني أكتشفت مشاعري بعد فوات الأوان". -" لا تبكي يا حبيبتي الصغيرة , هل أنت متعبة؟ أتريدين أن تستريحي؟". وهزت رأسها , وانحنى لكي يقبلها , ثم جفف دموعها ومضى يقول: -"كان خطأ مني أن أقول ذلك, لكنني ظننت في ذلك الوقت أنني لم أعد أحتمل أكثر مما تحملته وشعرت بأنني لن أرغب اطلاقاً في رؤيتك ثانية, لأنه بهذه الطريقة فقط يمكنني أن أبدأ بالنسيان , لكنني عرفت أنني لن أستطيع أن أنساك, ومع ذلك تفوهت بتلك الكلمات القاسية , ثم واصلت محاولاتي لأن أثير غيرتك معتقداً أنني سأنجح في النهاية , وبذلت محاولة لأتحدث اليك في حفل الوداع لكن لم تكن لدي فرصة". وقاطعته قائلة: -" أعتقدت أنك تريد أن تقول لي شيئاً ... لماذا لم تفعل؟". -" كان هناك عدد كبير من الناس , وخيل الي أننا سنتحدث في اليوم التالي , لكنني ستدعيت الى نيقوسيا , وعقب عودتي مبكراً عما توقعت أرسلت في طلبك , وقالت الرئيسة أنك لا بد أن تكوني رحلت مبكرة لأن آخر مرة رأتك فيها كانت عندما طلبت منك أن تضعي بعض التقارير على مكتبي , ولم أشعر بالأنزعاج حتى افتقدت المفاتيح فجأة ... كان هناك سبب واحد لذهابك الى الفيللا وهو استعادة سوارك , وكانت مشاعري مضطربة جداً حينئذ , وشعرت بأن ذلك يعني أنك تهتمين بي ولكن من ناحية أخرى كنت قلقاً للغاية من فكرة ذهابك وحدك الى ترودوس في ذلك الطقس, ثم علمت أن الأوتوبيسات توقفت عن السير وقررت أن أستقل سيارتي الى الفيللا". -" في تلك العاصفة الثلجية؟". -" أعتقدت أني لن أجد اسوأ من وجودك حبيسة هناك , دون طعام , ولكن...". وتوقف وهو عاجز عن الأستمرار في الكلام لحظة , ثم أردف: -" لم تكوني في الفيللا, وكنت خائفاً... لأول مرة في حياتي, وعندما رأيتك على ضوء المصابيح الأمامية للسيارة هناك الى جانب تلك الشجرة التي أنقذت حياتك , اذ منعت سقوطك... كان من الممكن أن تدفني وسط الثلوج, لكن الشجرة أنقذتك مرة أخرى , ونقلتك الى مونيكومو , هناك تلقيت صدمة أخرى". ونظر اليها في حزن ومضى يقول: -" اضطررت لأجراء العملية يا شاني العزيزة... تفهمين بالطبع". وأمتلأت نفسها ندماً على الكلمات التي تفوهت بها حالما استعادت وعيها, كم عانى زوجها وهو يجري العملية فقط لأنه ليس هناك غيره, وناضل من أجل أنقاذ حياتها كما ناضل من أنقاذ حياة الكثيرين, كم كان رقيقاً! لم يكن على الأطلاق مثل الوحش الذي بدا ليلة هربت منه, ولا الرجل الذي أخافها كثيراً بتصرفاته المعبرة عن الرغبة في التملك, وهمست: -" كن حمقاء منذ البداية , والآن أتمنى من كل قلبي لو بقيت ". -" كانت غلطتي , بدأت بداية خاطئة تماماً, لكنني قصدت أن أكون رقيقاً معك, محباً حتى تدركي مشاعري ازاءك , ومتى شعرت بذلك ستكونين كريمة , وستبقين معي, برغم أنك لا تحبينني". -" كان هذا ما قصدته عندما قلت أنني لو بقيت معك ليلة واحدة فسأبقى للأبد ... ولكن حينئذ...". -" كنت صغيرة جداً يا حبيبتي , كان ينبغي أن أفهم بوصفي طبيباً". وجلسا برهة في صمت, ثم قالت شاني: -" أندرياس , أنا لم أوافق على ما فعله براين , في الواقع لم تكن لدي فكرة عن نواياه , وكنت قد قررت بالفعل أن أنفصل عنه قبل أن يهددك وأدركت بعد الأجازة أنني لا أستطيع اطلاقاً أن أتزوج براين, ولو أنني حتى في ذلك الوقت كنت مضطربة للغاية بشأن مشاعري أزاءك , لكنني سرعان ما عرفت بصدق , وبعد ذلك كنت قلقة بشأن الطفل...". وقاطعها وهو ينظر اليها بلهفة: -" ألم تشعري بالأستياء مما فعلت؟". -" لا لأنني كنت أعرف حينئذ أنك أنت هو الشخص الذي أريده ... ليس بالعقل الواعي, ولكن ذلك كان مترسباً بداخلي دائماً". -" وجئت لتخبريني... عندما قلت لك أنني لا أريد أن أراك ثانية أبداً؟". وأومأت وهي تواقة الى التغاضي عن ذلك الموقف , لكنه أضاف وقد ازدادت عيناه سوادا من الندم: -" يؤلمني أن أتصور أنني تسببت في ألمك , بينما كان كل ما أريده هو أن أحبك وأعنى بك". ثم أطلق تنهيدة عميقة وقال: -" كما قلت ظللت أحاول, وفي حفل الأخت غلوفر تلك الليلة , اقتنعت بأنك تغارين من ليديا , ولذلك أظهرت لها قدراً من الأهتمام أكبر من المعتاد". -" أظهرت لها الأهتمام قبل فترة طويلة من حفل الأخت غلوفر, وفعلاً كنت غيورة برغم أنني أنا نفسي لم أكن أعرف ذلك , كانت دائماً في بيتك , وكنت لطيفاً معها في ذلك اليوم في غرفة العمليات , وصدمتني بطلبك أن أخرج, بل أنك اقترحت حينئذ أن أعتذر لها!". وضحكت لكنها مضت تقول أنه بدا وكأنه يهتم بليديا فرد قائلاً: -" لم يكن هناك شيء من هذا , كانت تؤدي بعض الأعمال لي , على آلتي الكاتبة , ولذلك جاءت مرات الى بيتي , كما تناولت أنا طعام العشاء في منزلها لأنني وجدت أبويها جذابين , وفي يوم الحفل طلبت مني أن أوصلها ووافقت لأنه كان من عدم اللياقة أن أرفض". وابتسم لها في رقة ثم قال: -"كنت أنت دائماً فتاتي منذ ارتطمت بي ووقعت بين ذراعي وتطلعت الي بهاتين العينين الجميلتين ... أحببتك منذ النظرة الآولى". -" أبي وقع في حب أمي من النظرة الأولى , وكان يقول أن الشيء نفسه سيحدث معي...". ثم أضافت في نبرة أسف: -" كنت حمقاء للغاية منذ البداية". -" لا , كنت أنا أنانياً , أنني أدرك ذلك الآن ... لكنني ليلة هربت مني أدركت أنني يجب أن أتركك حتى تنضجي وتستمتعي بحياة العزوبية قبل أن تستقري في الحياة الزوجية , وقررت البحث عنك فيما بعد عندما تصبحين أكثر نضجاً... جئت الى هنا بنية التود اليك , كما تحب الفتيات الأنكليزيات أن يتودد اليهن الشبان , ولهذا قبلت هذا المنصب لمدة عام الا أنك طلبت حريتك على الفور حتى يمكنك أن تتزوجي شخصاً آخر, وتحطمت آمالي لأن فكرة تعلقك بشخص آخر لم تطرأ على بالي اطلاقاً ... وأعتقد أن هذا كان غروراً ". -" لا يا أندرياس, كان طبيعياً أن تتوقع أنني سأظل وحدي لأنك أنت نفسك لم تفكر اطلاقاً في الأرتباط بأنسانة أخرى ". -" لست ملومة في أي شيء يا شاني , كان ينبغي أن أخبرك عندما كنا سعيدين في كوز , بأنني أحببتك ... كان هذا سيوفر علينا قدراً كبيراً من الألم ". -" لكنك لم تفعل بسبب براين, أعتقدت أنني ما زلت أهتم به". ما زالت شاني تعتقد أن اللوم يقع عليها ... كان ينبغي لها أن تعرف , عندما لمست رقة زوجها ورعايته, أن دافعه هو الحب وليس مجرد الرغبة , وكانت تلك الأجازة فرصة لها لتكتشف حقيقة أندرياس , ولم تنتهزها , وأضافت : -" في وقت من الأوقات شعرت بأنك تدبر شيئا...". -" أدبر شيئاً". -" شعرت بأنك تود الوصول الى طريقة لمنع الغاء الزواج , حتى لو كان المحامي على حق . هل ... أقصد...؟". ولم تستطع أن تصوغ سؤالها فساعدها أندرياس : -" تساءلت اذا كنت قصدت من البداية أن أجعل الغاء الزواج مستحيلاً؟ أتتني الفكرة مبكراً لكن كما قلت لم تكن تلك الطريقة التي أردتها , اذ كان الأمل يراودني في أن أتي الي بمحض أرادتك , ولك بعد تلك التهديدات , قررت وضع حد لفكرة أنهاء زواجنا". وارتعشت شفتاها, ولاحظ زوجها وتفهم الأمر وأضاف: -" أنك متعبة ... والآن يمكنك أن تنعمي بفترة راحة طويلة". ثم وضع ذراعها تحت الأغطية التي جذبها تحت ذقنها وقال: -" هل ستنامين أم أعطيك شيئاً؟". -" سأنام ... وأنت يا عزيزي هل نمت على الأطلاق منذ ليلة أمس؟". وأخبرها بأنها ظلت غائبة عن الوعي أربعاً وعشرين ساعة, وبعد ذلك بدأ بأعطائها الأدوية المهدئة. -" لم أكن أريد أن أحضرك بعد, لكن التنبؤات الجوية ساعدتني في اتخاذ القرار ... اذ كانت الثلوج ستسد الطريق". -" مررت بوقت طويل قلق وسأعوضك عن كل ما عانيته يا أندرياس". -" عوضتني فعلا بأنك أحببتني". وانحنى ليقبلها قبلة اتسمت بالأجلال الى حد كبير, وعندما اعتدل سألته: -" متى سأغادر الفراش؟". -" قريباً جداً ... سنقضي معاً ميلاداً رائعاً". -" كيف تبدو كوز في هذا الوقت؟". -" لن تسافري يا حبيبتي". -" ألم تقل أنه مكان رائع لقضاء شهر العسل". -" لن يكون هناك شهر عسل حتى يسمح طبيبك لك بذلك".
* * *
كان الربيع قد هبت نسائمه على جزيرة كوز الجميلة عندما وقفا معا فوق مرتفعات أسكلبيون , وقد توردت وجنتا شاني بالصحة, وبرقت عيناها بوميض متلألىء , ومن كل مكان حولهما كانت تهب النسمات محملة برائحة الأزهار بينما أشجار السرو تتمايل برشاقة , والشمس تسطع في سماء ايجة الخالية من السحب. ورفعت شاني عينيها الوالهتين الى وجه زوجها , فأخذ بيدها بين يديه مبتسماً.
تــمت
للكاتبة : آن هامبسون
الملخص
الحب كالأمواج لا يمكن أن نخفيه مهما كان القلب عميقاً واسعاً, قادرا ً على الإحتواء كالبحر الكبير ففي النهاية لا بد أن يتدفق حاراً, جارفاً, كالنار
***
هكذا هي قصة شاني التي رفضت أن تكون رهينة حبيب يوناني أرادها زوجة بالقوة, وفي ليلة دخلتها هربت وتوارت عن الأنظار, غادرت بريطانيا الى قبرص حيث قابلت براين, الفتى الانكليزي الذي لا حد لجاذبيته... لكن الدكتور مانو, زوجها اليوناني عاد فظهر بعد خمس سنوات في المستشفى حيث كانت تعمل... ماذا تفعل الآن؟ على أي صدر تتكئ ولا أحد من حولها يعرف أنها متزوجة؟
الفصل الأول
في المستشفى
جاءت مكالمة هاتفية لشاني, وقبل أن تتاح لها الفرصة للرد دخلت الأخت غلوفر الى الغرفة وهمست: -" الرئيسة تريد أن تراك". -" الآن؟". وتحدثت شاني الى براين واعدة أن تتصل به بعد دقائق. -" هل ستقرع أجراس الزفاف قريبًا؟". ولاحت تقطيبة على جفن شاني وقالت: -" ما حان الوقت بعد يا جيني". -" لكنك ستتزوجينه؟". -" لم يطلب مني الزواج حتى الآن ولكن...". وظهرت الأبتسامة على وجه شاني مرة أخرى وأكملت عبارتها بنبرة الثقة: -" بالطبع سأتزوجه". ورمقت جيني صديقتها بفضول . ولاحظت التغيير في لون وجهها , ثم واصلت كلامها قائلة: -" أهذا لأنك لا تستطيعين تحمل فكرة رحيلك عن هذا المكان؟". -" ينبغي أن أعترف بأن الفكرة تضايقني"؟ اعترفت شاني بذلك وهي تتمسك بالسؤال الثاني كوسيلة لتجنب الرد على السؤال الأول. المستشفى تطل على خليج لوتراس ولأنها أكبر المستشفيات في قبرص, وأكثرها كفاءة, كان المستوطنون البريطانيون يفضلونها على سواها كما تمكنت ممرضة أو أكثر من الممرضات الأنكليزيات الحصول على عمل فيها , وكانت رئيسة الممرضات انكليزية أيضا , كذلك اثنان من الأطباء. ألقت الرئيسة نظرة على شاني وابتسمت لها وقالت: -" تفضلي". ونهضت الرئيسة وأغلقت أحد مصاريع النافذة , فحرارة الشمس أصبحت لا تحتمل , ثم أضافت قائلة: -" أرسلت في طلبك لأخبرك بأنك ستنقلين الى غرفة العمليات حسب ارادتك". شكرتها شاني , لأن العمل في غرفة العمليات كان دائماً يجذبها, وعندما جاءت الى مستشفى لوتراس كانت تتمنى أن تعمل مع الدكتور روجرز كبير الأخصائيين في وحدة جراحة الأعصاب, لكن الدكتور روجرز اضطر الآن للأعتزال بسبب صحته, وأجمع كل من في قسم جراحة الأعصاب على أن المستشار الجديد لن يكون لطيفاً مثل الدكتور روجرز مهما كانت شخصيته. ومضت الرئيسة قائلة: " الجراح الجديد سيصل بعد ظهر الغد , وأريد أن تستعدي لمقابلته فهو غريب الأطوار على ما سمعت , ويحتمل أن يطلب مقابلة أعضاء الفريق الذي يعمل معه حالما يصل". وعدت شاني الرئيسة قائلة: -" سأبقى ... متى سيكون هنا؟". -" بعد نحو ساعة". ثم مضت الرئيسة تتحدث عن عملية الآنسة فورستر المقبلة التي سيجريها الجراح الجديد. -" حسبما سمعت عنه فأن الدكتور مانو لن يصبر كثيراً على عصبيتها". وغاض الدم من وجه شاني وهي تقول: -" مانو ؟ أندرياس مانو؟". -" هل تعرفينه؟". نظرت اليها الرئيسة بقلق, اذ كان واضحاً أن الأخت ريفز اهتزت اهتزازاً شديداً. -" أعتقدت ... أعتقدت أن اسم الجراح الجديد مانوليس". -" يبدو أنها كانت غلطة, هل تعرفينه؟". كررت الرئيسة سؤالها. -" كان ... أحد.... زملاء أبي". وبذلت شاني جهدا لتستعيد رباطة جأشها ونجحت ظاهرياً , لكن خفقات قلبها كانت خارجاً عن ارادتها. -" منذ متى توفي أبوك؟". -" منذ خمس سنوات...". هل مرت كل هذه المدة الطويلة؟ كم يمضى الوقت سريعاً! -" الدكتور مانو لا يزال يعمل في مستشفى لندن ... أو على الأقل كان هناك حتى الأمس . سيبقى هنا في لوتراس حوالي سنة.". وتوقفت الرئيسة عن الكلام, وفي تلك اللحظة رن الهاتف وكان كل ما قالته الرئيسة: -" لا تنسي أيتها الأخت أن تكوني مستعدة لمقابلته". عندما وصلت شاني الى غرفتها شعرت أنها ضعيفة. منذ أدركت حقيقة شعورها اتجاه براين أرادت أن تتصل بأندرياس , لكنها لم تفكر على الأطلاق في مقابلته. وهبطت درجات السلم واتصلت ببراين تلفونياً . كان همه أن يؤكد موعد تناولهما العشاء في تلك الأمسية. وبعد اثنتي عشرة ساعة كانا يتناولان العشاء بالقرب من البحر, والهلال يسطع عاكساً نوره على مياه البحر كالقوس الفضي في السماء المتلألئة. تناولا سمك البوري الطازج المزين بالبطاطا والسلطة, واختتما الوجبة بثمار التين الطازجة والقهوة التركية, ورقصا على أنغام البوزوكي قبل أن يتجها الى السلالم المؤدية الى الشاطىء وضع براين ذراعه حول كتفيها كمن يريد امتلاكها , كانت الليلة ساحرة , ولم يكن الوقت أكثر ملائمة منه الآن. وبعدما سارا في صمت لحظة أو اثنتين , همس براين : -" أريد أن أطلب منك شيئاً يا شاني..... وأنا واثق أنك تعرفين ما هو؟". -------------------------------------------------------------------------------- وكان هذا ما توقعته وما رغبت فيه أيضاً , وأجابت: -" أعتقد ذلك...". كان صوتها خجولاً ومتردداً ... وشد براين قبضة ذراعه حولها وقرَبها منه قائلاً: -" أنني أحبك ... أحبك يا عزيزتي ... أتقبلين الزواج مني؟" ورفعت عينيها , وقد شعت النسمة الباردة شعره , كم كان جذاباً, وكم يحسدها الجميع ! لكن عقلها كان مضطرباً وهي تناضل بلا جدوى لتجد الكلمات المناسبة . وتملصت , ثم استدارت وعيناها الجميلتان تبحثان عن مهرب من عينيه, وبصوت خال من الأحساس قالت: -" أنا في الواقع متزوجة". وفي فترة الصمت التي أعقبت ذلك بدأت تتساءل اذا أخفق في التقاط كلماتها, فقد كانت أقرب الى الهمس .. وأخيراً وجد براين صوته لكنه كان متقطعاً وفظاً وقال: -" ماذا قلت؟". -" أنها الحقيقة.... أنا ... أنا متزوجة منذ خمس سنوات". -" خمس سنوات ؟ لكنك في الثالثة والعشرين من عمرك فقط الآن؟". وبخشونة أدارها لتواجهه ثم أضاف: -" متزوجة ؟ أي هراء هذا!". -" ليس هراء... أرغمت على الزواج ... بنوع من التهديد". ومرة أخرى تخيلت شاني أمامها ذلك الرجل الغليظ الأسمر الذي لم يرها الا مرة واحدة ومع ذلك تسلطت عليه رغبة لا يمكن قمعها وقالت: -"هجرته". وسادت فترة صمت أخرى لم تقطعها الا همهمة الأمواج وهي تتكسر برقة على الشاطىء . وأخيراً قال براين: -" لا أصدق هذا ... وأرغموك ؟ وهددوك؟ عم تتحدثين , انك تكذبين!". ولكن سرعان ما فقدت نبرة صوته قوتها , اذ كان يعرف أنه لا يمكن أن يشك أن شاني تكذب . ثم قال: -" يا الهي , كيف أمكنك أن تضلليني يا شاني ؟ لماذا لم تخبريني من قبل؟". ثم أطلقها وابتعدت , وقد أجفلت من نبرة اليأس التي شابت صوته وقالت بسرعة: -" سيكون كل شيء على ما يرام يا براين, يمكنني أن أحصل على الغاء لهذا الزواج لأنني هربت قبل ... قبل... هربت قبل أن يأخذ وجهي". وتألق أمله لكنه ظل حائراً , وفي هذه اللحظة اكتفى بسؤالها بلهجة اللوم: -" لماذا لم تخبريني ؟ منذ أسابيع عرفت مدى شعوري نحوك!". ونفت برقة: -" ليس منذ أسابيع , كان تخميني منذ أسبوعين بالضبط". قاطعها بغضب: -" نحن نخرج معاً منذ ثلاثة أشهر ..... ثلاثة أشهر!". -" كان لقاؤنا تلبية لدعوتك اياي للعشاء من وقت لأخر". -" وفي الحفل الذي أقامته الأخت سمولمان أدركت أنك تفكر فيَ أكثر من أي واحدة أخرى". قبل أن بدأ يخرج معها , كان براين دافيز الشاب الوسيم الضابط في السلاح الجوي الملكي البريطاني بالفرقة الموجودة قرب ليماسول مشهوراً بمغازلته للفتيات . وأضافت بسرعة أذ بدا متوتراً: -" أقصد أنه منذ أسبوعين فقط بدأت أعتقد أنك جاد... وأنك ستطلب مني الزواج , وحينئذ قررت أن أكتب الى أندرياس أطلب منه فسخ الزواج". وأجابها مشتت الفكر: -" أندرياس ؟ أليس أنكليزياً؟". كانا يسيران على طول الشاطىء , ثم اتجها بطريقة تلقائية الى جدار منخفض وجلسا, وأضاف: -"لا يمكن أن يكون يونانياً , بالتأكيد؟". -" زوجي هو أندرياس مانو , جراح الدماغ". -" أندرياس مانو؟ سمعت عنه , فقد أجرى جراحات عديدة كانت بمثابة الأمل . أليس صحيحاً؟". وأومأت بالأيجاب: -" كان أبي كما أخبرتك طبيباً, وكان أندرياس يعمل في المستشفى نفسه". وتوقفت عن الكلام ثم أضافت بصعوبة كبيرة: -" أنه .. أندرياس أخصائي الدماغ الجديد في مستشفى لوتراس". وأعقب ذلك صمت يشوبه الذهول , ولم يبد براين عاجزاً عن الكلام فحسن, ولكنه بدا عاجزاً عن فهم هذا الجزء الأخير من الأنباء , وحاولت شاني أن تتكلم لتضع حدا للصمت المخيف لكنها لم تستطع , وأخيرا قال براين , بنبرات خشنة جعلتها تجفل: -" زوجك... قادم الى هنا! يا اإلهي , يا له من موقف معقد!". كانت تحتاج الى التعاطف , الى الفهم , الى كلمة رقيقة تعيد اليها الثقة والأمل , ولكنها لم تلق منه الا غضباً شديداً, ونظرة لا يمكن وصفها الا أنها مهلكة. -" براين...". -" من الأفضل لي أن أخبرك بالقصة كلها". -" من الأفضل أن تفعلي". عند لقائها ببراين لم يكن زواجها يبدو شيئاً هاماً , فلم تكن ترى أن هناك أية عقبة في طريق فسخ الزواج بسرعة, وسيفهم براين الموقف وسينتظر في صبر حتى تحصل عليه, ولكن الآن لم تعد شاني واثقة على الأطلاق من ذلك؟ -" على الأقل أنت مدينة لي بذلك , لأنك خدعتيني". -" لا , لا, لا تقل هذا . تلك الحادثة في حياتي مسألة تخصني وحدي , وكانت السبب في تركي أنكلترا حتى أبدأ حياتي من جديد, وكان هذا طبيعياً , ومنذ البداية احتفظت باسمي الخاص , أعني منذ اللحظة التي هجرته فيها, والواقع أنني لم أستخدم اسمه ولا مرة واحدة". ونظرت اليه في توسل لكنه أدار وجهه ولم تر الا التقاطيع القاسية لجانب وجهه وفمه المقطب ثم قالت: -" لا يمكنك أن تلومني لأنني لم أخبرك حتى أصبحت واثقة من حبك". -" حسنا ... وبما أنك أصبحت واثقة فلتعرفي الحقيقة، انني أحبك وأريد أن أتزوجك , فلا تحجبي عني أي شيء لو سمحت". ولم يكن هذا هو الموقف الذي توقعته على الأطلاق, لم تتلق دليلاً على الحنان , ولا تصريحاً مخلصاً بأنها لا تلام . كانت شاني خائفة من فقدان براين في هذا الوقت. -"بدأ كل شيء عندما توفيت أمي , فقد لجأ أبي الى الشراب. كان الأسلوب الهادىء الخالي من الأنفعال الذي بدأت به سرد قصتها مثار دهشة شاني , لكنها لم تبد وكأنها تروي القصة على الأطلاق , بل كأنها تعيشها مرة أخرى. ظهر في أفق حياتهم ذات يوم من أيام سبتمبر / أيلول المشمسة الجميلة ذلك اليوناني الداكن الشرير الذي يتطاير الشرر من عينيه .. ولم تكن شاني تتوقع, وهي تراقب اقترابه منها , شيئاً عن الأنقلاب الذي سيحدثه أندرياس مانو في حياتها كلها. كانا في الحديقة يتناولان الشاي, شخصان عاديان يعيشان حياتهما الهادئة الخالية من أية أحداث كبيرة, أبوها الدكتور ريفز البدين الشائب , ظهره مصاب بانحناءة بسيطة وساقه بها عرج نتيجة حادث أثناء الحرب اذ اخترقت قطعة معدنية جسمه واستقرت بالقرب من عموده الفقري , فقد زوجته منذ سنة وأصبح مدمناً على الشراب , مما أثار استياء شاني. حذرته مراراً, ورغم أنه كان يعرف مخاوفها لم يستطع السيطرة على تلك العادة , كانت زوجته مثل شاني ذات شعر باهت, عيناها زرقاوان واسعتان , وحتى النهاية احتفظت ملامحها بالخطوط الدقيقة والثنيات الخلابة التي امتلكت قلبه منذ لقائهما الأول , جاءت شاني شبيهة بأمها في كل شيء حتى قوامها الفارع المتكامل رغم أنه في حالة شاني, لم يكن مكتملاً تماماً لأنها لم تكن تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها, مع أنها اجتذبت عدداً من القلوب. كانت أول من قابل الرجل حين هرع عبر المرج الأخضر , حيث ترك سيارته , وتجهمت بعض الشيء لأنه ذكرها بحيوان خطير نشب مخالبه استعداداً لتمزيق ضحيته . -" أندرياس , كيف جئت الى هنا؟". ونهض دكتور ريفز وهو يمد يده شاحب الوجه ازاء التعيير المرتسم على وجه زائره وتساءل : -" هل هناك شيء ما". ورغما عنها نظرت شاني الى السماء , وبدا كأن سحابة داكنة حجبت الشمس. تغير الجو بوجود هذا الرجل تغيراً كبيراً , وشعرت شاني بقشعريرة باردة تخترق ببطء عمودها الفقري. -" أود أن أتحدث معك على انفراد , فوراً". ولم يلق الرجل اليوناني نظره الى شاني على الأطلاق , واتجه الرجلان نحو البيت تبعتهما شاني بعينيها . كان واضحاً أن اليوناني يعاني توتراً عنيفاً , وجهه داكن غاضب مما أبرز التجاعيد التي امتدت من أنفه الى فكه, تلك التجاعيد التي ألقت مسحة الشر على وجه يحمل بالفعل ملامح القسوة المتمثلة في عينين حادتين وشفتين رفيعتين مزمومتين بقوة.. أندرياس مانو جراح الدماغ البارز الذي ذكره أبوها مرات, لأنهما كانا يعملان بالمستشفى نفسه . وأجرى أندرياس أخيراً جراحة اعتبرت حدثاً, وأبرزتها الصحف في عناوينها الرئيسية , وكان المريض لا يزال في المستشفى وحالته تتحسن بصورة مرضية. ما الذي يمكن أن يريده رجل مثل أندرياس مانو من أبيها؟ لا بد أنها مسألة خطيرة للغاية, لا يمكن أن تنتظر حتى الصباح, أو حتى عن طريق الهاتف, ولسبب مبهم تسارعت دقات قلب شاني, وتسللت القشعريرة الباردة عبر عمودها الفقري مرة أخرى ولم تعد تشعر بالراحة, فتركت الشاي واتجهت الى البيت من باب آخر ووقفت بلا خجل خارج الغرفة التي كان أندرياس وأبوها يتحدثان فيها. -" كنت ثملاً". -" لا يا أندرياس , ينبغي ألا تقول أنني كنت ثملاً". -" هل كنت ستصف ذلك الدواء اذا لم تكن ثملاً؟". -" أنني ... أنني..". وعندما تداعى صوت أبيها بذلت شاني جهداً للسيطرة على نفسها, اذ كانت ترغب في الذهاب اليه والوقوف بجانبه , لكن الوقت لم يكن مناسباً. -" هل مات؟ بعد جراحتك المدهشة؟". ووصل صوت اليوناني الى شاني مهدداً مثل التقطيبة الحادة التي سبقت الهجوم. -" لو كان مات يا ريفز كنت أنت الذي قتلته , بأي حق تصف دواء للمريض؟". -" كنت أزور أحد المرضى, ولم يكن الرجل قادراً على النوم , ولم تكن أنت هناك ولذلك أعطيته الدواء". " كانت أوامري أن يستدعوني عندما يحتاجون الي , ولحسن الحظ أنني استيقظت وذهبت لألقي نظرة على الرجل, أما أنت فكنت ذهبت حينذاك. أعتقد أنك كنت ثملاً لدرجة أنك لم تستطع البقاء". وصرخ دكتور ريفز مما أفزع الفتاة حتى قفزت من مكانها : -" لا ... لم أكن ثملا ... لا تستطيع أن تثبت ذلك". -" أستطيع ... وأثبت أن الدواء أعطي بناء على تعليماتك , ولو لم أستيقظ لكان المريض قد لقي حتفه". وتوقف عن الكلام وبدا لشاني أن غضبه اختلط بالغرور, ولكن مهارته الفائقة كانت تغفر له ذلك – ثم أضاف: -" كيف سترد على التهمة..؟". -" الممرضة... يمكن أن تكون غلطتها". وقاطعه اليوناني بزمجرة: -" أيها الجبان! لكن يجب أن تتأكد من أنك أنت الذي ستدفع ثمن الغلطة ... انك لست مؤهلاً لتكون أرواح الناس بين يديك". وازدادت رعشة شاني . كان واضحاً أن والده اقترف خطأ. ويمكن أن تكون العواقب مدمرة, ولا عجب في أن السيد مانو كان غاضباً بشدة, فربما يلقى المريض حتفه كما قال , وقمعت أفكارها لأنها أفزعتها. وظل الرجلان يتناقشان , أحدهما يتهم واللآخر ينفي. وبينما كانت شاني تتنصت ساورها الشك في أن أباها يبكي, واندفعت الدموع الى عينيها ... كانت معاناته شديدة, وغالباً ما كان يجلس ويستعيد الذكريات بينما كانت شاني تنصت في صبر. ورغم أنه كان يذكر شاني بطريقة عابرة فأنه لم يكن معها . كان وحده مع المرأة التي أحبها , وفي أحد الأيام أدرك وجود أبنته ونظر اليها وقال: -" سيجيء رجل ذات يوم رائع ويراك ويدرك أنك له". ولم تعلق شاني . لم تكن تؤمن بأن الحب من أول نظرة يمكن أن يحدث كثيراً, وأخيراً قالت وهي تمنحه ابتسامة رقيقة: -" لا أريد أن أتزوج الا بعد مرور فترة طويلة , فأن مستقبلي ما زال في بدايته ". -" أجل أعرف , وهو المستقبل الذي كنت أريد أن تختاريه , لكن لا تصبحي متفانية فيه الى درجة أن يفوتك قطار الزواج الرائع". -" أن ما أشعر به في الوقت الحالي هو أنني أريد قضاء عدة سنوات في التمريض , فالزواج لا يروق لي". وتجهم والدها أولاً , لكنه عاد وابتسم بفتور وهو يقول أنه عندما يأتي الرجل المناسب ويحبها من أول نظرة فأنها لن تقوى على مقاومته. وعادت شاني الى الحاضر برعشة عنيفة عندما أدركت أن الأصوات توقفت , وأن اليوناني يسير نحو الباب وأسرعت بغية الوصول الى كرسيها في الحديقة, ولكن لحظة وصلت الى الباب الخارجي كادت تسقط بين ذراعي الغريب الطويل وهو يسرع الخطى خارجاً من المنزل في غضب عارم. وجفلت من ألم قبضته على ذراعيها , وزفرت قائلة: -" آسفة". جعلها التصادم تلهث قليلاً, وعندما رفعت رأسها لفحت أنفاسها وجهه , ناعمة دافئة , وعيناها الجافلتان اللتان تحدقان في عينيه أصبح لونهما بلون سماء الشرق عند الظهيرة. وفي علو لا يصدق نظر اليها وعيناه الداكنتان تشعان ببريق ناعم من الدهشة وعدم التصديق. -" لا بد أنك شاني؟". وغمغمت قائلة: -" أجل, أنا شاني". -" شاني ! يا للفتنة!". نطق اسمها بنبرة تأكيد , ولم تكن تدري هل يقصد الأسم أم الفتاة لأن القسوة عادت الى وجهه عندما ظهر أبوها من الغرفة المجاورة. -" أندرياس , بحق الله, أليس هناك شيء أستطيع أن أفعله حتى تغير رأيك؟ أنني لم أذق الشراب الا بعد وفاة زوجتي عندما شعرت بأنني محطم تماماً". وتلاشى صوته عندما رأى المنظر الذي أمامه . -" شاني, ماذا تفعلين؟". واحمر وجهها بشدة وثنت جسمها قليلاً لتحرر نفسها عندما خف الضغط على ذراعيها وقالت: -" اصطدمت بالسيد مانو". وتوسل أبوها. -" أنت آدمي بالتأكيد ؟ لن تبلغ عني". -" أدمي؟". وظل أندرياس يركز عينيه على وجه شاني وكأنه لن يحولهما عنها اطلاقاً , وظهر أغرب تغير في نبرة صوته وهو يغمغم وكأنه يحدث نفسه: -" أجل , انني آدمي". وأضافت شاني وهي تعترف: " سمعت عفواً كثيراً مما قلته لأبي , وما قاله الآن صحيح فهو لم يذق الشراب اطلاقاً حتى عام مضى , عندما توفيت أمي". وكانت لا تزال تقف قريبة جداً من أندرياس , وعندما رفعت عينيها المليئتين بعبارات التوسل الى عينيه لم تكن تدري الى أي حد أصبح يرغب فيها, بطريقته هو: -" أرجوك أن تلزم الصمت يا سيد مانو, فهو لن يشرب ثانية على الأطلاق". وقال دكتور ريفز بحماسة: -"أقسم على ذلك ! أعطني فرصة , أتوسل اليك , لا تبلغ عني". كان أندرياس مشغولاً بالمنظر الذي أمامه , ورغم ارتباك شاني من شدة تحديقه فيها , دققت في وجهه , عن عمد, وهي تشعر بالدهشة لأن الأنطباع الأول بقسوة ملامحه بدأ يتلاشى بعض الشيء.. هل ينوي حقيقة أن يفضح أباها , أم أن الأحتمال الأكبر أنه يقصد اخافته , كان واضحاً أنه نجح في ذلك, وبدأ يخالج شاني احساس بالأمتنان عندما تسبب اليوناني الأسمر في ارتباكها وهو يقول: -" سألتني للتو ما يمكنك أن تفعل يا ريفز, يمكتك أن تعطيني ابنتك". وغرد طير على الشجرة المنعزلة عند نهاية الحديقة. وكان هذا هو الصوت الوحيد وأخذ كل واحد من الثلاثة ينظر الى الآخر , كانت السحب تكاثفت وحجبت الشمس تماماً , ونظرت شاني الى فوق وهي متجهمة: -" لا أعتقد أنني أفهمك". أخيراً تكلم الطبيب وأخذ لسانه يلعق شفتيه اللتين أصبحتا شاحبتين: -" أريد الزواج من ابنتك , ليس هناك شيء غير عادي في ذلك". وقال الطبيب بعد لحظة توقف : " أندرياس . قد يكون المتبع في بلادكم أن يختار الرجل فتاة ويعرض الزواج منها , لكنك لست في اليونان الآن". وابتسم أندرياس وهو يلقي نظرة في اتجاهه قائلاً: -" أنا يوناني مع ذلك, ومن الطبيعي أن أدير شؤوني وفقاً لعاداتي , سآخذ شاني منك , وأعدك بأنها ستلقى مني كل راعية و ... اعتبار". وهز الرجل الأكبر سناً رأسه وقد أصابه الدوار , أما شاني فشعرت بغشاوة غطت عينيها وتعجبت من التردد الذي سبق نطقه بكلمة اعتبار. وقال أبوها: -" في البلد لا نعطي فتياتنا ... ان شاني ستقع في الحب يوماً ما, وسيكون زوجها رجلاً اختارته بمحض رغبتها, لأن مستقبلها بين يديها تماماً". -" ومستقبلك بين يدي!". تحدث بنعومة بالغة ولكنه ذكَر شاني مرة أخرى بحيوان شبيه بالنمر مستعد لأن ينقض على فريسته , وأبيضَ وجه أبيها عندما اتضح له المغزى الكامل لكلمات زميله. " أنا لا أستطيع أن أصدق أنك كنت جاداً عندما طلبت الزواج من شاني". قال هذا بضعف وهو يمد يديه, وفهمت شاني المعنى الذي يقصده وهي تلاحظ التجاعيد الحادة التي أضافت في الحال سنوات عديدة الى عمره, وأدركت شاني وهي ترتعش أن أباها يعرف أن اليوناني الضخم كان جاداً في عرضه , وأثبتت كلمات أندرياس التالية صحة استنتاجاتها. -" أنا لا أضيع وقتي في قول أشياء لا أقصدها . أرغب في الزواج من ابنتك , وأطلب يدها منك". ولم يرد الطبيب وأضاف أندرياس في هدوء , ولكن كلماته كانت تحمل تهديداً خسيساً: -" ابنتك مقابل سكوتي". وبعدها ظلت شاني تتخذ موقف المتفرج , تحدثت أخيراً وهي ترفع ذقنها في أباء: -" ذكَرتنا للتو بأنك يوناني, وأنك تتولى شؤونك طبقاً للعادات السائدة في بلدك, ولكن أبي ذكر أنك لست في اليونان الآن , هذه أنكلترا , وتقاليدك تبدو مضحكة في نظر الأنسان الغربي". ولم تكن تقصد الأستخفاف به , لكن شاني لسوء الحظ , لم تعرف كيف تختار عباراتها , واقترب حاجبا اليوناني المستقيمان الأسودان بعضهما من بعض بطريقة تنذر بالشر وهو يقول في نبراته المألوفة الناعمة التي تحمل في طياتها لهجة التهديد: -" هل يمكنني القول أن غطرستك تبدو لي مضحكة , في ظل الملابسات القائمة , تلحظين أن أباك في موقف خطر للغاية, ومستقبله وسمعته الطيبة بين يديَ تماماً , وطبقاً لما قررته فأنه أما يحتفظ بمركزه واحترام مرضاه وأصدقائة , وأما أن يتقاعد في اعتزال شائن". وصرخت وهي تشعر بالندم لما أبدته من غطرسة: -" عمله هو حياته ... لا يمكنك أن تبلَغ عنه". وبلا وعي عصرت يديها بطريق مخبولة, واتضح تماماً أنهما أصبحا في قبضة الرجل ... ليته لم يرها ... لكنهه رآها . -" لا يمكنك أن تفعل هذا ! وعي أبي درسه من دون أن يقع ضرر خطير , أرجوك أن تدع هذا الأمر يمر , لن يمس أبي الشراب مرة أخرى". وأعلن الدكتور ريفز : -" سأقدم عهداً مقدساً على ذلك". وكان صوته متوتراً , واعتقدت شاني أنه سيمس وتراً رقيقاً في هيكل هذا الرجل , ولكن كانت هناك رغبة جامحة تتملكه ختى اختفت أية شهامة لديه, ووجه حديثه الى دكتور ريفز متجاهلا شاني تماما , وقال: -" أوضحت شروطي , وعليك أن تختار : أما ابنتك وأما التشهير بك , تستطيع أن تخبرني بقرارك غداً ". وكان على وشك أن يسير خارجاً عندما أوقفه صوت دكتور ريفز : -" يمكنني أن أخبرك بقراري الآن ... اذهب وبلَغ عني ". -" أبي ! لا ! ". واقتربت منه شاني شاحبة الوجه , ووضعت يدها على ذراعه وهي تحاول أن تسري عنه وأضافت : -" لا يمكنك أن تقرر بدون أن تفكر ملياً في النتائج ". -" فكرت فيها ملياً". -" انتظر حتى الغد يا عزيزي , لا تستطيع أن تفكر بوضوح في الوقت الحالي ". ولم تنظر الى الرجل المسؤول عن كل هذه المعاناة , لكنها أدركت أن الحقد الأسود يشتعل في عينيها لأول مرة في حياتها , وقال أبوها بخشونة : -" أتخذت قراري". ثم أشار بيده نحو البوابة في ايماءة بالطرد , ووقف أندرياس في مكانه وهو يراقب شاني وقال بصوت مليء بثقة لا يخطئها أحد: -" سأمنحك فرصة حتى الغد". وبصورة غير متوقعة وضع أندرياس يديه الداكنيتن القويتين على كتفي شاني , ثم أدارها لتواجهه , ونظر الى عينيها في عمق , ورغم أنه لم يكن بأمكانه أن يخطىء نظرة الكراهية فيهما رأى شيئاً آخر أيضاً , شيئاً كان يتوقع أن يجده , لأنه قال وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة النصر : -" انني أتعجب يا ريفز , أتعجب!". وكان حفل الزواج رائعاً , فكان لأندرياس أصدقاء من اليونانيين والأنكليز , كذلك كان لشاني أصدقاء , وعندما رأوا أندرياس لأول مرة في الحفل همسوا جميعا بعلامات تعجب: -" أين قابلته ؟ أنه رائع!". -" أظن أنه عن طريق أبيها , أندرياس مانو الشهير ". -" لكن يجب أن تعترفوا أن شاني ( شيء آخر) ". -" هه ... ها هما قادمان ... هل رأيتم من قبل اثنين من قبل بمثل هذه الروعة ؟ وذلك الثوب ... يقولون أنه أحضره اليها بالطائرة من اليونان , حيث صنعت كل غرزة فيه باليد , وكان خاصاً بجدة أندرياس الكبرى". -" كل هذه الزخرفة والتطريز .... صنعت باليد؟". -" هكذا قالت الصحف , أن النساء اليونانيات يقضين أعمارهن في الحياكة والتطريز". -" ذلك العقد , الفصوص من الأحجار الكريمة ! يحتمل أن يكون من أرث الأسرة ". -" أنها تبدو مثل الأميرة , أراهن أن كل رجل في الكنيسة يحسد زوجها !". لكن حينما تقدمت شاني نحوهم , واستقرت يدها بجمود على ذراع عريسها , بينما كانت شفتاها مزمومتين وعيناها لا تتحركان , اتخذت التعليقات الهامسة مسارا آخر: -" عيناها , كم هما حزينتان". كانت شاحبة للغاية, ومع ذلك كانت أجمل عروس, وفيما بعد , في حفل الأستقبال , وقفت مع زوجها وهي تتعجب .... ترى هل شعرت أية عروس بمثل ما تشعر به من بؤس وتعاسة. والتقت عينا أبيها بعينيها , وفيهما أيضا استقرت أعمق مشاعر الأسى . لقد أراد أن يتحمل نتائج غلطته ولا يضحي بها , لكن شاني هي التي اتخذت القرار , كان أبوها لا يزال يعاني من فقد زوجته لكنه أحب عمله الذي يشغله تماماً بحيث لا يجد وقتاً للشعور بالأكتئاب ولو فضح ولحق به العار – وهو عار سيؤدي به حتماً الى حياة الكسل قهراً – كان بلا شك سيفقد الرغبة في الحياة, وكان هذا آخر ما تريده شاني ولذلك اتخذت قراراً ولم تتزحزح عنه . قررت أن تتزوج أندرياس لكنها ستجعله يندم على اليوم الذي وجه فيه ذلك الأنذار النهائي الى أبيها ؟ هذا ما كانت تحدث به نفسها مراراً وتكراراً دون أن تعرف بوضوح كيف ستجعل أندرياس يدفع الثمن , وبينما هي تختلس النظر اليه وهي تقف بجواره عندما كانا يصافحان الضيوف , شعرت بأن قلبها مات بين ضلوعها . لن تكون اطلاقاً شريكة حياته . ومع ذلك أدركت أنها لم تقدم اطلاقاً على أي عمل انتقامي بدون أن يقع عقابه على رأسها . كان رجلاً من الشرق حيث تخضع المرأة لأرادة الرجل بدون نقاش, ثم ألم يقل أندرياس وهو يقدم ( عرضه) بالزواج منها , أنه سيدبر شؤونه طبقاً لتقاليد بلاده؟ لفترة طويلة وقفت أمام منضدة الزينة , تمعن التفكير في أحداث الأسبوعين الماضيين : موت والدها المأساوي فور خروجه من حفل الأستقبال الذي أقيم بمناسبة الزواج ... هذه الوفاة لم تؤد فقط الى أثارة أعصابها , لكنها أدت أيضا الى زيادة استيائها من زوجها, فلو أنه لم يصر على أن يتم الزواج عندما رغب في ذلك , لما تزوجته على الأطلاق . ومن الطبيعي أن شهر العسل تأجل لأن شاني كانت تعاني من حزن عميق , لكن بعد مرور أسبوعين نفذ صبر زوجها وأخذ يلح عليها الحاحاً فسرته بأنه رغبة لا يستطيع السيطرة عليها مما أثار استياءها . -" سنسافر لبضعة أيام ". قال لها ذلك ورغم أنها كانت تدرك أن توسلها لن يجدي طلبت منه مزيداً من الوقت , ورفض بحزم , ولم يتأثر بدموعها , وقال : -" ستشعرين بتحسن أثر التغيير ". وصرخت قائلة وهي تعصر يديها : -" ربما كنت سأشعر بذلك لو لم أتزوج . ألا تستطيع الأنتظار فترة قصيرة أخرى؟". وعندما تمسك برأيه جمعت حاجياتها في خنوع , وصحبته الى ( فولكستون) حيث اقترح أن يقضيا شهر العسل , واختار أفضل الفنادق وحجز أفخم جناح لهما؟ وعندما رأته وهو يرتدي بيجامته أدركت كم من الوقت مر عليها وهي واقفة هناك , وارتفع حاجباه عندما رآها , وتقدم نحوها في بطء , ولم تقاوم عندما ضم يديها بين يديه , لكنها كانت شاحبة وخائفة. وقال مستفسراً بتهكم رقيق : -" هل تنوين أن تظلي مستيقظة طوال الليل ؟". ولم ترد , لكن الدم تصاعد الى وجنتيها الشاحبتين , وربت على خدها وقال: -" لا تخافي مني يا شاني , لن أؤذيك". يؤذيها ؟ ألم يؤذها بالفعل الى أقصى حد ممكن ؟ دمَر حياتها تماماً. " هلا أعطيتني فسحة من الوقت؟". كانت عيناها الجميلتان تتوسلان , ويداها تمتدان في استعطاف ومضت تقول: -" لا أزال أعاني من صدمة وفاة أبي , وأنت ... لا تزال غريباً عني!". ولم تتلق جواباً على توسلاتها , وأعتقدت أنها لمست صلابة وخشونة في عينيه أقنعتها بأنها تضييع وقتها , ومع ذلك حاولت مرة أخرى. -" مساء الغد يا أندرياس , أرجوك أجَل هذا الى مساء الغد". -" الغد؟". بدا أنه يفكر في ذلك ولكن تعبيراته كانت غامضة , وتعذر عليها أن تقرأ أفكاره , وبعد فترة وجيزة شعرت بأن جسمها انهار عندما هز رأسه في حزم وقال : -" الليلة يا عزيزتي .... ينبغي أن يكون الليلة ". وأدَت نبرة صوته الدالة على تصميمه النهائي الى أن ترفع رأسها بحدة ثم أضاف : -"لو بقيت معي الليلة فستبقين معي الى الأبد". وتجهمت. أنه يقول شيئاً غريباً ؟ وتصاعد الدم الى وجهها عندما اتض ما يقصده أو ما استنتجت أنه يقصده . واكتفت بأن قالت , وهي تلقي نظرة غير واعية على الباب: -" أتخشى أن أتركك؟ الآن بعدما رحل أبي ". " يمكنك أن تتركيني يا شاني , وان كنت لا أرغب في ذلك" . وارتفع رأسها الجميل عالياً في الهواء وقالت: -" رغبت فيَ بمجرد أن رأيتني . واستخدمت معرفتك للفوز بي , فتاة رأيتها ورغبت فيها على الفور , لكنك ستضطر الآن للحياة مع خوف أنها ستهجرك , وهو عقاب حقيقي لك". وقاطعها قائلاً في نبرات رقيقة: -" أنا لم أعرف الخوف اطلاقا في حياتي , قلت أنني لا أريد أن تتركيني ". -" أعتقد أن الزوجة في اليونان لا تجرؤ اطلاقاً على ترك زوجها؟". -" في اليونان نادراً ما تفكر الزوجة حتى في هجر زوجها ". واعترف قائلاً : -" أن زوجها هو السيد , أجل . لكن الخضوع؟". -" السيادة والخضوع . أي فارق هناك؟". ورد قائلاً: -" هناك فارق يا شاني . لأنني أمقت كلمة الخضوع بشدة بينما السيادة لا تزعجني على الأطلاق". -" هل في نيتك أن تسودني؟". وتجهم لكنه قال بحزم: -" سأرشدك وأنصحك . لن أدعك تقترفين أخطاء , يمكن أن تجعل أيامنا شقاء". -" يا لها من رقة بالغة". وأدت لهجة التهكم في صوتها الى أن يجفل في دهشة, لأنها كانت غريبة عن المخلوقة الرقيقة التي عرفها خلال مدة تعارفهما القصيرة, ومضت تقول: -" أن ما تخبرني به حقيقة هو أنك ستفرض قيوداً وأوامر , وستحد من ارادتي , وتحذرني أيضا من النظر الى أي رجل آخر". وظهر على وجهه تعبير شرير عندما ارتدت شفتاه الى الخلف, وأصبحت عيناه الداكنتان بطبيعتهما مثل عيون معظم اليونانيين , سوداوان تماما كجمرة الغيرة التي تضطرم في أعماقهما , وخطت شاني خطوة الى الوراء, لكن يده أمسكت برسغها وقربتها منه , لم تعرف مثل هذا الخوف من قبل اطلاقاً, لم تفكر في أن يكون لها زوج يطلق العنان لرغباته كما يفعل هذا الوحش. -" رجل آخر! أجل . يا شاني الجميلة. هذا بالضبط ما أعنيه , انظري الى رجل آخر وسأقتلك . أتفهمين؟ أنك ملكي , زوجتي للأبد ". وفي هذه اللحظة أثَرت فيه رقتها والدموع التي دفعها الخوف الى عينيها , وأخذت يداه تربتان برفق عليها , وفكرت فيه كجراح يستخدم يديه في خدمة مرضاه, حتى شفتاه أيضا أصبحتا رقيقتين . وعندما أبعدها عنه أخيرا همست وقد راودها الأمل في استجابته : -" مساء الغد!". لكنه رفض قائلاً: -" لو بقيت معي الليلة فلن تتركيني اطلاقاً, أنا واثق من هذا". وبدا في عينيها كل الأزدراء الذي تشعر به ازاءه , وقالت : -" هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكنك أن تتأكد بها من الأحتفاظ بي . أليس كذلك؟ أرغمتني على الزواج , الآن تلجأ الى هذه الوسيلة كي تتأكد من أنني سأبقى معك". وتساءل في نعومة: -" ما الذي تقولينه بالضبط؟". وفكرت شاني في فتاة عرفتها تزوجت يونانياً . واليونانيون يتحدثون بصراحة عن ( انجاب طفل) كررت شاني لأندرياس ما قاله هذا الزوج اليوناني لزوجته ليلة زواجهما , لكن شاني سرعان ما شعرت بالضآلة وارتدت في ذعر نتيجة الأحتقار التي رماها بها وقال لها ببرود: -"انني لا أتحدث بالأنكليزية غير السليمة, ولا ألجأ لأستخدام هذه الوسيلة التي تقترحينها للأحتفاظ بزوجتي الى جانبي , دون وسائل أخرى , ونكست شاني رأسها , في مواجهة هذا التوبيخ . وانتابها شعور بالذنب: -" هذا ما قصدته!". وقال أندرياس وقد نفذ صبره: -" أعتقد بأنك ستغيرين رأيك فيما بعد". وبعد فترة وجيزة سألها مرة أخرى أذا كانت ستبقى هناك طوال الليل , وبدا أنه ليست هناك وسيلة للهرب, فأخذت قميص النوم , واستدارت نحو الحمام, وهي تتوقع أن يلقي أندرياس ملحوظة ساخرة ازاء تصرفها , لكنه لم يقل شيئاً , وعند عودتها كان في غرفته الخاصة وقد أغلق الباب الفاصل بينهما , رغم أنه لم يغلق بالمزلاج, وتوهجت عينا شاني بضوء غريب عندما تملكها الخوف وهي تفكر في المحنة المنتظرة, وانتقلت نظراتها من الباب الفاصل الى الباب المؤدي الى الممر . هل لديها الوقت الكافي لأرتداء ملابسها مرة أخرى؟ أين يمكن أن تذهب؟ العمة لوسي؟ العانس التي تكره الرجال, أن العمة لوسي لن تتصل اطلاقا بأندرياس ولن تصر اطلاقاً على عودة شاني اليه ... أجل .... ستكون آمنة مع العمة لوسي , ولن يعثر عليها أندرياس أبدا حيث تكون مختفية هناك في نونتغها مشبر . أنها محظوظة لأنها لم تذكر أمامه اطلاقاً عمتها العجوز , محظوظة جداً في الواقع....
--------------------
2- بارد.... كالنار
تقابلا في غرفة رئيسة الممرضات, قالت الرئيسة: -" الأخت ريفز قالت لي أنك كنت زميلاً لوالدها في وقت من الأوقات". ورغم أن عيني أندرياس طرفتا, فانه لم يبد ما يدل على أنه يتأثر بأن شاني جعلت الرئيسة تفهم أنهما معارف فقط. -" الأخت ريفز". نطق أندرياس هذا الأسم وهو يؤكد على حروفه بشكل لا يخطئه أحد, بينما مد يده القوية رغم نحافتها واتجهت عيناه اليها بدون أن يبدو عليه أنه يعرفها رغم ما قالته الرئيسة للتو , وأدى ما بدا عليه من السكينة الكاملة وروح التعالي الى احساس شاني بضعف مركزها ازاءه , ورغم محاولتها أن تحافظ على هدوئها الخارجي, شعرت بالدماء تتصاعد الى وجهها غزيرة, وأحاط بها عالم من الزيف . وأحكم قبضته عليها , هذا الرجل الطويل النحيل , الذي يتمتع لدهشتها بوسامة لا يمكن وصفها , يصافحها بالطريقة التي كان يصافح بها الممرضة دستون أو الأخت لوزيدز بالضبط, لا دهشة ولا اتهام , لا غضب ولا كراهية وهو ينظر اليها عندما تقابلا . فقط حدق فيها لحظة قبل أن تخفض رأسها , لو كان متوقعاً هذا اللقاء ومستعداً له تماماً , لما أبدى احساسا أقل من هذا. -" أخبريني أيتها الأخت ريفز منذ متى وأنت هنا في لوتراس؟". -" منذ سنتين". كان توليها منصباً في الخارج لهدف واحد فقط هو الأبتعاد عن زوجها أبعد مسافة , وبدا عليه التفكير العميق , وسيطر على شاني انطباع أنه نافذ الصبر ازاء نفسه لسبب ما . -" سنتان في قبرص". قال ذلك وهو مستغرق في التفكير , وأعقب كلماته تنهيدة قصيرة, وتجهمت شاني, هل كان يبحث عنها ؟ لكن ألم تخبره في المذكرة التي كتبتها على عجل بأنه لا داع لمحاولة العثور عليها لأنها لا تنوي أن تعيش معه على الأطلاق؟ ولا أن تسمى باسمه؟ وكان يتجاذب أطراف الحديث مع الرئيسة في الوقت الذي وقفت هي بعيدة حرة تمعن النظر في الفكرة التي بدأت تزداد قوة... الفكرة التي أثارت قلقاً ما لبث أن وصل الى أبعاد الرعب الحقيقي قبل أن يسيطر على شاني هاجس أسود لم تستطع تهدئته . ظل يبحث عنها فهذا يمكن أن يكون معناه شيئاً واحداً فقط هو أن رغبته لم تخف طوال تلك السنوات , فكيف يكون رد فعله عندما تقترح عليه الغاء الزواج؟ لنفرض أنه لن يطلق سراحها ؟ لنفترض أنها لن تستطيع الزواج من براين وأضيفت الى هواجسها لمحة مفاجئة من الذكرى أعادتها الى المنظر المرعب عندما أقسم أندرياس على أن يقتلها لو نظرت الى رجل آخر. بالطبع لم يكن يعني ما يقوله فعلاً, لكن شاني شعرت أنه لا ينبغي الأستخفاف بتهديده. ودهشت من عدم اكتراثها بمسألة ابطال الزواج , لكنها اعتقدت حينئذ أن أندرياس سيرحب بحريته لأن الوقت لا بد سيحين عندما يرغب في وجود زوجة وأطفال في بيته. وقررت أن تراه في أول فرصة وهي لا تفكر في موقفها مع براين لو أن المقابلة مع أندرياس لم تؤد الى النتيجة المرغوبة . كانت في أي حال لا تستطيع رؤيته على الفور, لأنها ستقوم باجازة لمدة أسبوع وسترحل في تلك ارحلة لزيارة بعض الأصدقاء الأنكليز الذين يقضون اجازة في غاماغوستا, وبعد ثلاثة أيام ستأخذ جيني اجازة وتلحق بشاني وأصدقائها في الشاليه الجميل الذي استأجروه على شاطىء البحر. -" ليديا موراي تتعامل بصورة طيبة مع جراحنا الجديد, هذا ما سمعته شاني من صديقتها في محطة الأوتوبيس , حيث أضافت: -" أنه صارم بطريقة مرعبة مع الجميع فيما عداها . وهو جذاب للغاية لكنني أتصور أن العمل معه مثل التعرض الى الجحيم" وتوقفت فترة قصيرة ثم أضافت: -"هناك شائعة بأنه تزوج , وانفصل عن زوجته". وقالت شاني بسرعة , متجاهلة عبارة صديقتها الأخيرة : -" ليديا موراي , هل أصبحا صديقين بهذه السرعة ؟". وردت جيني بتكشيرة : " السيد مانو يبدو ودوداً معها , أو يمكن أن أقول أنه أقل صرامة معها منه مع أي شخص آخر في المستشفى. -" انه صارم بطبعه". اعترفت شاني بذلك وهي لا تزال شاردة الذهن بينما كانت جيني تنظر اليها بحدة , ثم أضافت : -" أكره أن أكون في مكانك مضطرة الى العمل معه طوال الوقت". وألقت جيني ملحوظة أخرى عن ليديا , وأبعدت شاني أندرياس بحزم عن تفكيرها وركزت على ما تقوله صديقتها. -" اعتقدت أن ليديا تعمل ؟ هل تركت العمل؟". -" تعمل نصف الوقت في مكتب ما, لكنها كما تعلمين تساعد الدكتور غوردون في كتابه, هكذا تجيء الى المستشفى مراراً, وتقول ايلي انها قابلت السيد مانو في غرفة الطعام, وفي الحال أثَرت عليه , وتناولا طعام الغداء معا اليوم. وتقول ايلي أنها رأت ليديا وهي تذهب الى بيت السيد مانو في الليلة الماضية". هل سيصبحان أكثر من صديقين؟ تعجبت شاني وهي تشعر بلمحة تفاؤل , هل سيقع أندرياس في حب ليديا ويريد أن يتزوجها ؟ وتساءلت في شغف : -" هل تعتقدين أنهما يخرجان أحيانا لقضاء الأمسية معا؟". ورفعت جيني حاجبيها ثم قالت: -" لم يمض الوقت الكافي لذلك, وحتى ليديا لا تعمل بمثل هذه السرعة!". -" السيد مانو يعمل معنا منذ أربعة أيام فقط , لكن ...". وأضافت وهي غائبة الوعي: -" ليديا جذابة للغاية , وقد يقع في حبها فوراً". أمنية بالتأكيد , ومع ذلك فان ليديا موراي كانت أكثر من انسانة جذابة بالطريقة العادية , والواقع أنها وأندرياس سيشكلان زوجين مميزين للغاية. -" لو أنهما نجحا في الوصول بعلاقتهما الى النهاية المطلوبة لأسعد هذا كثيرين في لوتراس ؟ اذ أن ليديا أصبحت مصدر ازعاج ". -" ليست لها أية سلطة حقيقية , كيف تعتقد أن بأمكانها أن تأتي الى المستشفى وتصدر أوامر؟". -" لا يوجد سبب الا أن والدها أحد المساهمين في الأعتماات المالية للمستشفى , أنها تشعر بالملل , وهذا يوفر لها شيئاً تقوم به". وعندما وصلت الى أحد المقاهي توقفت تلقائياً لتناول شراي , وكانت المناضد موضوعة في الخارج وقد حجبت أشعة الشمس ووهجها أغصان كرمة ملتفة حول الأعمدة , وقالت جيني : -" لو تزوجت ورزقت بطفل لأسعد هذا الجميع , عندئذ لن يتبقى لديها الوقت الكافي للتجول في أنحاء المستشفى كما تفعل الآن حيث تلقي الأوامر". -" لا أظن أنها ستضطر لرعاية طفلها . ستتزوج شخصاً يمكنه أن يتحمل نفقات مربية". -" أتوقع أن يتمكن السيد مانو من تحمل نفقات مربية , لنأمل أن يحدث شيء في هذا المجال". وضحكت شاني وذكرت صديقتها: -" راودتنا مثل هذه الآمال من قبل , هل تذكرين دكتور غريسون!". -" لم يكن وسيماً بما يكفي بالنسبة اليها . ولم يكن ثرياُ بما يكفي أيضا .أنها لطماعة تلك الفتاة وبعد ذلك بأربعة أيام طرقت شاني باب غرفة أندرياس , لم تكن المستشفى المكان الملائم لمناقشة أمر خاص كهذا , لكن ينبغي أن تتحدث مع أندرياس قبل أن تقابل براين يوم الجمعة , اذ كان براين سيأتي لقضاء عطلة نهاية الأسبوع , وراود شاني الأمل في أن تستطيع التأكيد له بأن الغاء الزواج يجب أن يتم دون تأخير , ولدهشتها كانت ليديا هي التي فتحت الباب ثم وقفت تنتظر شاني لأن تتحدث: -" أريد أن أقابل السيد مانو". قالت شاني ذلك وهي تختلس النظر من خلف ليديا حين لاحظت الغرفة خالية , أضافت: -" أريد أن أتحدث معه على انفراد لكنني أرى أنه ليس..". ورمقتها ليديا بنظرات متغطرسة من رأسها الى قدميها وقالت: -" على انفراد ؟ انه ليس هنا". وردت شاني بلهجة لاذعة غير معتادة: -" كنت على وشك أن أقول ذلك , هل سيتغيب طويلاً؟". وتعجبت لماذا كانت ليديا في غرفته؟ وذلك رغم أنها لم تبد اهتماماً خاصاً: -" لا أستطيع أن أقول متى سيعود, لكنه في أي حال لن يرغب أن يزعجه أحد, هل أستطيع أن أنقل اليه رسالة؟". -"أخبريه بأنني سأذهب اليه في منزله مساء اليوم , سأكون هناك في السابعة". -" في منزله؟". -" أجل يا آنسة موراي , سأذهب اليه في منزله". -" لن يكون هناك في السابعة, لأنه سيتناول العشاء في بيتي". -" يتناول العشاء في السابعة؟". لم تستطع شاني الا أن تحدق لحظة أو أثنتين , فالناس هنا لا يتناولون عشاء في السابعة بل في التاسعة أو بعد ذلك أيضا. -" لن يكون هناك في السابعة". ردت ليديا بذلك ثم أغلقت الباب, ابتعدت شاني وهي تعض على شفتيها , لن يكون الحديث مع زوجها لطيفاً, ورغبتها الوحيدة هي أن تنتهي من هذه المسألة بأسرع ما يمكن. وفي اليوم التالي تقابلت هي وأندرياس في غرفة العمليات, وعندما عرفت الآنسة فورستر من هو الرجل الذي سيجري لها العملية زال عنها الخوف , وكانت أعصاب شاني هي التي ترتجف عندما سار أندرياس وألقى عليها تحية الصباح بطريقة مقتضبة جافة. -"صباح الخير ." وغمغمت: -" صباح الخير يا سيد مانو". وراقبته شاني وهو يرتدي معطف العمليات والقلنسوة تساعده في ذلك ممرضة غرفة العمليات الصغيرة, والتقت عيناه بعيني شاني وهو يرتدي قفازيه , ثم تحولت عيونهما نحو جسم المريضة , وأخيراً نحو طبيب التخدير الجالس بجوارها. ولمست يدها يده وهي تناوله الأدوات المطلوبة , وسمعته يأخذ نفساً عميقاً مكتوماً وشعرت بأنه يدرك عصبيتها البسيطة التي لا يستريح لها . هل يزدريها من أجل ذلك؟ أن هذا محتمل الى حد كبير وأدركت لدهشتها أن الفكرة تؤذيها في الواقع. كانت درجة الحرارة عالية مما أدى الى تصبب عرقه غزيراً . أن وزنه سينقص وحينئذ يجب أن يعوض هذا فمن الضروري أن يظل الجراح في حالة لياقة بدنية, وبلفتة منه جففت الممرضة الصغيرة جبهته , والتقت عيناه بعيني شاني , وفي تلك اللحظة الخاطفة قبل أن يحول نظره عنها مرة أخرى شعرت شاني بأن عاطفة مراوغة غير مفهومة تحركها. وأخيراً انتهت العملية بعد عدة ساعات, وأخرجت الآنسة فورستر على عربة, وبدا أندرياس متعباً لكنه ليس مرهقاً, بينما كانت شاني تغرق في النوم وهي تقف , وخلعت قناعها , ونظر أندرياس نظرة نافذة بدون ابتسام , بينما التوى فكه , وقال بطريقة باردة وهما يغادران غرفة العمليات معاً: -" الأفضل أن تأتي لنتناول شيئاً من الشاي . سنشربه في غرفتي". وأعتقدت أن الوقت حان لمناقشة موضوع الغاء الزواج , لكنها لم تستطع صياغة الكلمات المناسبة. وألقى أندرياس ملاحظة وهو يتفحص وجهها بدقة وقال: -" كان الأمر مرهقاً بالنسبة اليك , من الطبيعي أن يكون صعبا على الأعصاب لأول مرة". -" هل عرفت أن هذه أول مرة بالنسبة الي؟". -" الرئيسة أخبرتني بمسألة انتقالك , لكنني كنت سأعرف على أية حال, لقد استسلمت للأنفعال عشر مرات". وتضرج وجهها بحمرة الخجل , كانت متعبة للغاية وبدأت شفتاها ترتعشان , وضحك بفتور قائلاً انه ليس هناك شيء يستحق البكاء , وردت وقد توهجت عيناها بسخط: -" انني لا أبكي , أنا فقط متعبة قليلاً , هذا هو كل شيء". وجيء بالشاي , وصب لها فنجانها وقدمه لها , واحتسياه في صمت , وحاولت شاني عدة مرات أن تثير مسألة ابطال الزواج , لكنها أخفقت لأن الوقت لم يكن مناسباً , فقد كان كلاهما مرهقاً, بينما انشغل تفكيرهما بالحديث الأخير , وقررت أن تزوره في بيته بعد ظهر اليوم التالي. وعندما همت بطرق الباب , تساءلت اذا كانت اختارت وقتاً غير مناسب , وعلى كل فأن طرقتها الثالثة لقيت استجابة , لكنها لفزعها , رأت أن أندرياس كان نائماً , يرتدي رداء النوم وشعره أشعث , وبادرته بالكلام: -" آسفة , سأعود في وقت آخر , آسفة لأنني أزعجتك". -" ما الأمر يا شاني؟". -" أردت أن أتحدث اليك". وترددت لحظة ثم قالت: -" ليتك تتيح لي فسحة قصيرة من الوقت, أعني ما سأقوله لن يستغرق لحظة". ونظر اليها متسائلاً , ولمحت القسوة في عينيه ثم قال: -" أهي مسألة شخصية؟". -" أجل , أنها مسألة شخصية". وفتح أندرياس الباب أكثر وانتحى جانباً ليسمح لشاني بالدخول ودخلت الى غرفة الجلوس , وقال: -" اجلسي يا شاني , أيمكنني أن أحضر لك شراباً ؟". -" لا , شكراً". وتسارعت دقات قلبها بجنون , تماماً مثلما حدث في تلك الليلة الى درجة أنها فكرت في الهروب ونفذت فكرتها فعلاً , وجلست فوق أحد المقاعد وهي تحاول عبثا أن تسترخي. وجلس أندرياس على ذراع المقعد المواجه لها واضعاً يديه في جيبي رداء النوم ثم قال: -" ما الذي تريدين قوله لي؟". بادرت بالكلام مندهشة لأن صوتها ظل واضحاً ثابتاً : -" أريد الغاء الزواج". وأعقب العبارة القصيرة الأخيرة صمت ثقيل , بينما كان أندرياس جالساً هناك ينتظر , في موقف المتسائل وكأنه يتوقع سماع المزيد , وابتلعت شاني ريقها وأضافت أنه ليس صعباً التوصل الى الغاء الزواج في حالة مثل حالتهما , واستمر الصمت , وأصبحت شاني الآن هي التي تنتظر وأندرياس يجلس هناك بدون أن يحركه شيء, وحبست أنفاسها وتسلل الشحوب الى بشرته , لكن ومضة الصلابة المتينة في عينيه هي التي جعلت كل عصب في جسمها يرتجف. -" تقولين أنه ليس أمراً صعباً؟". كانت نبراته خالية من أي تعبير , مع ذلك كانت حادة اذ أضاف: -"والآن أتساءل , ما الذي أعطاك هذه الفكرة؟". وسرت البرودة في جسم شاني , واستعادت ذكرى هواجسها السابقة وانطباعها بأن أندرياس كان يبحث عنها, فرغم شهرته ومهارته ترك واحدة من أضخم مستشفيات لندن ليحضر الى لوتراس, وهو قرار لم يدهش جميع أفراد هيئة مستشفى لوتراس فقط, ولن مستشفى لندن أيضا. -" أننا لم نعش مع بعضنا البعض على الأطلاق". لم تجرؤ على أن تذكر براين , ليس بعد, ولكنها أدركت أن أندرياس لا بد أن يسأل بالتأكيد عن سبب طلبها وأضافت: -" اعتقدت بأنك قد تتضايق من هذا, أعني أن تكون مقيداً". -" لو تضايقت لفعلت شيئاً من أجل استعادة حريتي قبل الآن". وتحرك نحو الخزانة وسكب لنفسه شراباً, وأكد في عناد: -"تزوجنا يا شاني وسنبقى هكذا". وهزت رأسها علامة عدم التصديق وقالت: -" أتبقى متزوجاً من امرأة لا تريدك؟ لا يمكننا أن نستمر هكذا بقية حياتنا". وسيطر عليها الفزع تماماً عندما فكرت في براين, فعندما سمع قصتها أخذ يهدىء من روعها وأخبرها بمشروعاته لمستقلبهما , سيظل يعمل في الجزيرة لمدة سنة أخرى, واذا أمكن الغاء الزواج قريباً فسيقضيان شهر عسل طويلاً رائعاً فوق هذه الجنة قبل العودة الى أنكلترا ومواجهة الواقع المحتمل في شراء منزل وتجهيزه والبدء في تكوين أسرة, وكان هذا ما أرادته شاني وهذا ما صممت عليه , ومضت تقول في غضب: -" لو بقيت على عنادك سأوكل محاميا يتولى مهمة الغاء الزواج!". -"حقا؟". وأضاف بلهجة ساخرة: -" يا لضآلة الأهمية التي يعلقها الأنكليز على رباط الزوجية؟". -" يبدو أنك نسيت أنني ارتبطت بك رغماً عني". " رغماً عنك؟ عزيزتي شاني , أيمكنك أن تقولي هذا بأمانة؟". -" لا تدعنا نجادل في أمور تافة , الواقع لم يكن أمامي مجال للأختيار , أليس كذلك؟". -" كان أمامك مجال للأختيار , لا يمكن لأي شخص أن يرغم آخر على الزواج, وخاصة في بلادكم . وافقت على الزواج مني , كما وافق أبوك ولذلك لا أعرف كيف يمكنك الحصول على بطلانه". -" أنت مقيَد أيضاً!". وسأل أندرياس برقة: -" لماذا تتوقين هكذا للحصول على حريتك؟". وابتلعت ريقها وبدأت تقول: -"قابلت شخصاً.... ونريد أن نتزوج...". وماتت بقية الكلمات على شفتيها , واختفى ما بقي من اللون الأحمر في خديها , ولم تستطع أن تحول عينيها عن أندرياس , لأنه نزع عنه القناع , ورأت الهمجي يخرج ببطء من طيات الرقة المزيفة والدماثة المصطنعة واتقدت عيناه بلهيب الغيرة وهو يقول: -" تتزوجين! تريدين الزواج من شخص آخر! أنك متزوجة, أنت زوجتي! زوجتي للأبد كما أخبرتك منذ مدة طويلة. وحذرتك أيضاً بأنك لو نسيت هذا فسيكون فيه ضياعك , لذلك لا تتجرأين على النسيان". وشحبت تماماً , ونهضت من فوق مقعدها تترنح, وتبذل جهداً للتحرك بعيداً حتى لا تقترب كثيراً من ذلك الرجل الذي يمكن أن يكون طبيباً مثقفاً في لحظة ورجلاً همجياً في اللحظة التالية. -" الأف... ضل أن أذ... هب". تعثرت الكلمات بين شفتيها وهي تخطو خطوة الى الوراء في اتجاه الباب: -" آسفة لأنني جئت". ولم تكمل فقد أطبق بيده على رسغها ولم تعد قادرة على التحرك, واقترب منها بوجهه الداكن وتسلل الخوف الى عينيها. انه وحش قادر على اقتراف أي تعذيب , هذا الرجل الذي حطمت رغبته فيها الهدوء الذي كانت هي ووالدها يستمتعان به حتى اليوم المشؤوم الذي دخل حياتهما: -" دعني أذهب!". ولم تكن هناك جدوى من المقاومة ومع ذلك تحولت غرائزها الطبيعية الى المقاومة وأضافت: -" ليس لك حق". -" حق؟ أن لي الحق في أن أفعل معك ما يحلو لي! لي حقوق الزوج سأستخدمها عن طريق... ولم يكمل عبارته , بل جذبها في عناق مؤلم الى درجة أنها أحست بنفسها سجينة بين يدين من الصلب, كم هي حمقاء اذ جاءت الى هنا ووضعت نفسها تحت سيطرة قوته ! لكنها لم تكن تعتقد أن رغبته ستكون قوية كما كانت , ليس بعد فترة خمس سنوات طويلة. وأخيرا بعدما أبعدها عنه ونظر بعمق في عينيها وقال: -" لم تتغيري يا زوجتي الصغيرة, أعتقد أنك أصبحت أكثر فتنة وجاذبية". وأصبح مرة أخرى الرجل المثقف المهذب ( الجنتلمان) الزوج الذي يبدي الرقة في المعاملة, الذين يمكن أن ترغب فيهما أي زوجة: -" شاني , يا فتاتي الصغيرة, ألا يمكننا أن نحاول ؟ لن تعرفي اطلاقاً كيف كنت أريدك . كيف بحثت عنك وبحثت ولم يخطر في بالي أنك في الخارج يا عزيزتي... ألا يمكننا أن نعيش معاً ونكون سعيدين, لماذا تركتني؟". -" كان صوته ضعيفاً بالنسبة الى رجل في قوته, قال: -" ألم أقل لك يا عزيزتي؟ أتذكرين؟ أخبرتك بأنك لو بقيت معي ليلة واحدة لبقيت الى الأبد, هيا عيشي معي, وأنا أعرف أننا يمكن أن نكون سعيدين". اذن كانت شكوكها صحيحة, كان يبحث عنها. وارتجفت من اللمسة التي أصبحت رقيقة للغاية, وتسلل الى أعماقها انفعال لم تستطع أن تغيره, ومع ذلك فان اشمئزازها كله كان حاضراً , اشمئزازها من رغبته البدائية عندما صمم من اللحظة الأولى التي سقطت فيها عيناه عليها , على أن تكون ملكاً له بغض النظر عن تعكر صفو حياة ما زالت في بدايتها . وصرخت وهي لا تزال تشعر بالأذى والألم في فمها وبدنها: -" أعيش معك؟ كيف يمكنك أن تقترح شيئاً كهذا؟ والى جانب ذلك فأنك فيما يبدو , نسيت أنني أحب شخصاً آخر ". غلطة أدركتها بعد فوات الأوان , فالأشارة القاتلة الى رجل آخر اشعلت النيران التي خمدت مؤقتاً , وعرفت شاني مرة أخرى مدى عواطفه المتأججة بلا ضابط, وحينئذ دفعها بقوة حتى كادت تسقط مترنحة فوق الأريكة وقال ساخراً وقد ابيضت شفتاه: -" تحبين! أين هذا الرجل ؟ هل يعرف أنك متزوجة؟". وأشار الى الأريكة خلفها قائلاً: -" اجلسي وسنتحدث بالأمر , ينبغي أن أقابل هذا الرجل الذي يتوهم أنه يستطيع أن يسرق مني زوجتي!". وبقيت شاني واقفة بجانب الأريكة وهي تحاول ببسالة أن تستجمع شيئاً من تماسكها , لكنها كانت مضطربة للغاية وقد ابيض وجهها , وبدا من غير المعقول أن تعاني بهذه الطريقة لمجرد أنها تتمتع بجاذبية معينة قاتلة في عيني هذا الغريب الأسمر. -" براين يعلم أنني متزوجة". قالت ذلك وجسدها يرتجف , والتقت عيناها الجميلتان بعيني زوجها رغم خوفها منه ومما قرأته في تعبيرات وجهه . -" وعدته بأنني سأحصل على الغاء الزواج". وتملكها اليأس , كانت واثقة أنها ستحصل على حريتها في النهاية, لكن هل سينتظر براين؟ عرف عنه أنه ينجذب نحو أي وجه فاتن , كما كانت له علاقات عديدة عابرة قبل أن يكتشف أخيراً أنه يمكنه أن يحيا حياة مستقرة مع شاني, وغضب عندما اكتشف أنها متزوجة , وشعرت شاني بأنها لا تستطيع أن تخبره بأن الغاء الزواج سيتأخر. -" اجلسي". أشار أندرياس مرة أخرى الى الأريكة , وهذه المرة أطاعت شاني , ومضى يقول: -" اذن وعدته بأنك ستحصلين على ابطال الزواج, أليس كذلك؟ كان ذلك طيشاً منك , ألا تظنين ذلك؟". وجلس على المقعد وسيطر عليه هدوء وتمالك نفسه وكأن شيئاً لم يحدث على الأطلاق: -" ما الذي أعطاك الفكرة بأنني سأوافق على فسخ زواجنا؟". وهمست بنبرة متوسلة: -" أندرياس ... أننا لم نتزوج حقيقة على الأطلاق". واغتمت عيناه , وحبست أنفاسها , ما الذي يفكر فيه؟ أخذت تتساءل في فزع: -"اننا لم نتبادل الحب على الأطلاق". رد بصراحة اليوناني المميزة والتي أدت الى تصاعد الدماء الى خديها ثم أردف: -" أنك حتى لم تسمحي لزواجنا بأن يمر بتجربة". -" كنت خائفة منك". قالت ذلك بقوة حتى تذكره بظلمه لوالده في ذلك الوقت : -" كما كنت في الثامنة عشرة فقط... يبدو أنك نسيت ذلك ". وتحدث برقة الى درجة أنها حدقت فيه مندهشة: -" هكذا كنت يا شاني , في الثامنة عشرة ... أدركت أخيراً جداً أنني لم أدخل في حسابي شبابك وحياءك أو خوفك الطبيعي مني أنا الغريب, ولذا لم أبحث عنك على الفور, بل انتظرت حتى أدع الفرصة لتنضجي خلال فترة تدريبك, ثم بدأت أبحث عنك , وخلال ذلك الوقت لا بد أنك رحلت الى الخارج, وبالمصادفة اكتشفت مكانك , عندما نقل مريض من هنا الى مستشفى لندن , وتحدث عن لوتراس , وكان هذا طبيعياً وذكر الأخت شاني ريفز". وخفت صوته حتى كادت لا تسمعه , وقالت شاني: -" الواضح أنك جئت الى هنا لهدف واحد فقط هو مطالبتي بأن أعيش معك , لكن لم يكن من الضروري أن تترك لندن . وتأتي للعمل هنا , كان يمكنك ببساطة أن تزورني". وحدق في كأسه وهو يديرها بين أصابعه , ثم قال بلهجة غامضة: -" كنت أحتاج الى فسحة من الوقت , لأنني كنت أفكر في شيء لا يمكن انجازه بسرعة". وتجهمت شاني , وهمت بأن تسأله لكنه منعها مواصلاً حديثة: -" هذا ليس هاماً الآن , لأن الأحوال ليست كما توقعت". ما الذي يعنيه بالأحوال التي ليست كما توقع؟ هل كان يعتقد أن قلبها ما زال خالياً؟ اذا كان الأمر كذلك فما هي نواياه التي لا يمكن انجازها بسرعة؟ -" أنني لا أفهم". -" لا يهم , ليس الأمر هاماً الآن كما قلت". وحدقت فيه وظهرت ابتسامة ندم على وجهه بددت كل ملامح القسوة , وأضاف : -" ذكرتني فقط بأنك كنت صغيرة السن وقت زواجنا , وخائفة مني, لكنك الآن يا عزيزتي أصبحت أكبر سناً وصرت تعرفين كل شيء , اننا مرتبطان معاً بطريقة لا يمكن فسخها , وألأفضل أن نحاول لأن أماماً طريقاً طويلاً يمكن أن تشوبه الوحدة". أدهشتها طبيعة كلماته والأسلوب الذي صاغها به , كذلك كانت رقة نبراته والطريقة التي نظر بها اليها على النقيض من الطريقة الخبيثة السابقة , فلم تستطع الا أن تجلس هناك وهي تنظر اليه في دهشة دون أن تنبس بكلمة, وقال موضحاً: -" فكري فيما قلته , فكري بعمق يا عزيزتي وضعي في اعتبارك أن زواجنا شيء دائم مهما كان قرارك". واختلس نظرة الى الساعة ثم قال معتذراً: -"ستعذرينني لو طلبت منك الأنصراف , فأن هناك صديقاً سيأتي من أثينا اليوم , وينبغي لي أن أرتدي ملابسي لأنني سأقابله في المطار ". ونظر بثبات في عينيها وأردف: -" فكري في اقتراحي يا شاني , فكري فيه بجدية". ونهضت نابذة عرضه ومركزة تفكيرها , بدلاً من ذلك , على الطريقة التي ستنقل بها النبأ الى براين.
-------------------------
3- اليوناني الأسمر الغامض
كان براين غاضباً جداً وأخذ يهذي وأخيراً استسلم لخيبة أمل مريرة, وأنصتت شاني اليه وأصيبت بصدمة حادة, فقد كان طبيعياً أن تتفهم احساسه بالأحباط , كما كانت ستغفر لمحة الأتهام المؤلمة التي شعرت بها في كلماته لكن ثلاثة أشهر لم تكن بلا شك , كافية لمعرفة رجل له حساسية براين الخاصة. ولفترة قصيرة انصتت , وبعد اللحظات الأولى اضطرت للرد, لم يكن عليها فقط أن تعاني من أندرياس بل أن تتحمل أيضا هجوم براين المرير بدون أن تقول شيئاً ! كانت شاني رقيقة لا تحب الشجار , وشعرت بأنها لقيت من الرجال ما يكفي في الوقت الحالي , ولا شيء مما أغضب أيا من الرجلين يمكن أن يقع على عاتقها وأخبرت براين بأنها لا يمكن أن تلام أبداً في هذه المسألة. واشتعلت عيناه وقال في نبرات هائجة: -" لا يمكن أن تلامي؟ تقولين هذا بعد أن خدعتيني بهذه الطريقة؟". -" لم أخدعك ! حالما أحسست بأنك جاد معي قررت أن أكتب الى أندرياس , وتطورت صداقتنا في النهاية بصورة أسرع مما توقعت , اذ تقدمت لطلب يدي قبل أن أتصل به". وتوقفت عن الحديث وهي تشعر بوخز في قلبها , ومضت تقول: -" لو كنت تحمل لي أي مشاعر لتعاطفت معي و واقترحت الطرق والوسائل لمساعدتي في استعادة حريتي". ومرت بيدها فوق عينيها لكن براين كان مشغولاً بالأسى على نفسه الى درجة أنه لم يلاحظ شيئاً , وقال بخشونة: -" لا يبدو أنك ستستعيدين حريتك على الأطلاق , انه يريدك ولا يحتمل أنه سيتنازل عن ممتلكاته لشخص آخر". ونهضت شاني في الحال وقالت في صوت مختنق: -" أعدني الى البيت , لا أريد أن أراك مرة أخرى اطلاقاً". -" تناولي عشاءك ولا تكوني كمن تقوم بدور في مأساة هكذا ". وومضت عيناها وارتفع ذقنها الصغير وهي تقول: -" اذا لم توصلني الى البيت سأستدعي سيارة أجرة". وكانت تقصد ما تقوله , واحمر وجهه خجلاً من النظرات المحدقة التي أحاطه بها الجالسون حول المائدة المجاورة فنهض واقفاً. وعندما أنزل شاني بعد ذلك بعشرين دقيقة أمام مدخل المستشفى صرخ قائلاً: -" طابت ليلتك يا سيدة مانو". وابتعد بسيارته وسط سحابة من التراب. السيدة مانو ... لم يدعها أحد اطلاقاً بذلك من قبل فيما عدا أحد الضيوف بالطبع بعد حفل الزواج. السيدة مانو ! أن يقول لها براين ذلك وبمثل هذا التأكيد المرير, شيء لن تغفر له اطلاقاً. وجلست على فراشها وحدقت في الوسادة, وللحظة قصيرة كادت تطلق العنان لدموعها , لكن لا ... لن تفعل! لو كان هذا هو عمق حب براين لها يمكنها أن تستغني عنه, أما بالنسبة الى أندرياس فأقل شيء يمكنه أن يفعله هو أن يصلح ما أفسده بمنحها حريتها التي ترغب بها رغبة يائسة. وظل استنكارها لتصرف الرجلين فترة قصيرة , لكن غضبها من براين بدأ يتضاءل تدريجياً , وبمرور الأيام وجدت نفسها بشوق لمكالمة تلفونية منه, بالتأكيد سيتصل بها , لا يمكن أن تكون هذه هي النهاية, ألم يخترها هي . ألم يفضلها على أية من الفتيات الأخريات ؟ ألم يحبها بما يكفي ليريدها زوجة له؟ لكن عندما طالت الأيام وامتدت الى اسابيع , وما زال الصمت مخيماً من جانب براين بدأت شاني تشعر باليأس حتى من رؤيته مرة أخرى. قررت هي وجيني تناول الطعام في الخارج, وتناولتا العشاء في الحي التركي في نيقوسيا , ولم يكن هناك الا آخران يجلسان في المطعم : براين وحبيبة قديمة كان قد نبذها بعدما قابل شاني , وألقت هي على شاني نظرة متعالية لا تخلو من الشعور بالأنتصار, أما نظرة براين لها فكانت جفلة , واحمر وجهه وأصبح اهتمامه منصباً على محتويات صحنه وجمدت نظرات جيني , وقادت صديقتها الى مائدة على الطرف الآخر من الغرفة. ولم تستطع جيني أن تظل صامتة وهي تحدق في براين فقالت: -"الوحش! انك أفضل حالاً من دونه , أنه أكبر عابث في الجزيرة! ". -" أجل أنا أفضل حالاً بدونه". قالت شاني ذلك وهي تنظر الى صديقتها مدركة تماما مدى حيرة جيني, اذ قالت لها شاني أنها تشاجرت فقط مع براين , وكان طبيعياً أن تشعر جيني بالفضول ازاء سبب الشجار , وهذا ما يكن باستطاعة شاني الأفصاح عنه , شعرت شاني بالراحة لأن جيني لم تلح عليها بالأسئلة. كان براين وديبي يضحكان , كم كان شفاؤه من الحب سريعاً! كيف يمكن لحب قوي مخلص أن يخبو بمثل هذه السرعة ؟ حب قوي مخلص ... وتحولت أفكارها فجأة بطريقة غير ارادية ووجدت نفسها تستعيد ما قاله أندرياس حول البحث عنها , لا شك أنها تألمت وهي تراه يجلس هناك مع فتاة أخرى , ارتجف فمها لكنها احتفظت برأسها مرفوعا في أباء , وطوال الوجبة ظلت تتجاذب أطراف الحديث مع صديقتها , وهي تتخذ موقف اللامبالاة . ولكن كيف كان قلبها يئن ! وهن بين طيات الألم الحاد الناتج عن الغيرة بزغ تقدير مفاجىء لمشاعر زوجها . ان غيرته بالطبع كانت نابعة من مجرد رغبته في الأمتلاك , وهو شيء بعيد تماماً عن الحب الروحي الذي شعرت به شاني ازاء براين , في الوقت الحالي لم يكن يخطر ببالها أنها تشعر بقسوة الهجر , كل ما عرفته أن ألم الغيرة الثقيل المسيطر عليها استبعد كل شيء آخر عدا المستقبل الكئيب الذي ستعيش فيه. وامتدت نظرتها الى الركن الذي يجلس فيه الأثنان الآخران حيث كان براين لا يزال يضحك , ومع ذلك شعرت شاني بأن مرحه مفتعل , ولدى ذهابه أومأ بطريقة عشوائية,لكن شاني بطريقة ما , أحست بأن لا مبالاته لم تمنحه الا شعوراً ضئيلاً بالرضا. وفي اليوم التالي اتصل بها تلفونياً واعتذر كثيراً وطلب مقابلتها . -"دعيني أصحبك للخارج؟ أما زلت مشغولة طوال اليوم!". وغمغمت بالموافقة ومضى يقول: -" سنقوم برحلة الى كيرينيا حيث نسبح ثم نتناول العشاء في الخارج". ولم تعلق بشيء واستحثها بلهجة الندم: -"أرجوك يا شاني... تعالي ودعينا نتحدث عن هذه المسألة اللعينة دون حقد من جانب أي منا". لم تكن تحمل أي حقد, على الأقل ليس في البدء , وكان في امكانها أن تذكره بذلك لكنها أحجمت... وتاقت الى المصالحة وها هو يعرضها عليها , فليس من الصواب معاداة براين مرة أخرى, وقبلت دعوته , وأتى اليها في سيارته , بعدما أخذ اجازة ثلاثة أيام ورتب أموره للبقاء مع بعض الأصدقاء في قرية صغيرة غير بعيدة عن لوتراس. وبدأ براين يتحدث وهو مصمم على اصلاح السلوك الجاف الذي اتخذه يوم لقائهما الأخير, وسرعان ما غفرت له شاني لكن أين فرصة تسوية الخلافات ودياً؟ أين الأثارة الناجمة عن استعادة حبه ؟ يبدو أن هناك شيئاً مفقوداً , شيئاً لاحظته شاني ويبدو أن براين لم يلاحظه, اذ أنه كان في أفضل حالاته المعنوية. وفيما بعد عقب استحمامهما , استلقيا فوق الرمال ونظرت اليه شاني وهي تمعن في التفكير وتتعجب من الفراغ الذي تشعر به داخلها , كان العفو بمحض ارادتها لكن الذكرى... لن تستطيع اطلاقاً أن تنسى استنكار براين وعدم تفهمه لموقفها. ما الذي تشعر به نحوه بالضبط ؟ سألت نفسها هذا السؤال , لو غفر المرء فينبغي أن يكون هذا التسامح مقروناً بالرغبة في النسيان, والا بقيت الضغينة المريرة, وكانت شاني تعتقد أن الكمال ضروري في علاقتها مع الرجل الذي ستتزوجه , سواء كان براين أم رجلاً آخر ستقابله في المستقبل ... رجل آخر, ألم يسيطر براين على كل أفكارها منذ شهر واحد فقط؟ ضاقت بهذه الهواجس المزعجة واستبعدتها واستسلمت للسعادة المتاحة لها الآن , وغطست في الماء فوجدته دافئاً وهادئاً يشع بلون فيروزي قرب الشاطىء بينما يتغير على مسافة بعيدة الى الأزرق الفاتح, تقطعه قنوات متعرجة من اللجج الفضية. وخرج براين وجفف نفسه , ثم فرش المنشفة على الرمال واستلقى فوقها وفعلت شاني مثله , ثم قال: -" البحر رائع هنا". ومرت لحظات , وكان الصوت الوحيد الذي يسمعانه هو صوت همهمة الأمواج تلمس الشاطىء , وصياح طائر يحوم حول الساحل . وسأل براين وفي عينيه الداكنتين تعبير الندم: -" هل يمكننا ان نتحدث الآن؟ آسف حقيقة, وبخصوص ذلك المساء". قال العبارة الأخيرة بسرعة, وقد بدأ وجهه يحمر خجلاً ثم أضاف: -" لم أستمتع على الأطلاق , كنت أفضل كثيراً لو كنت برفقتك, مر شهر طويل, ينبغي أن ننسى , بذل جهداً ليساعدها على ذلك". -" لم أفعل شيئاً ازاء الغاء الزواج". واعترف براين وهو يبحث عن يدها: -" أنها غلطتي , كان طبيعياً أن تشعري أنه ليس هناك عجلة ". وضغط على يدها بحنان ولم تستطع شاني أن تستجيب له, لماذا تحولت الآن أفكارها الى زوجها؟. أما براين فأضاف: -" هل ستعيدين العلاقات الى سابق عهدها؟". -" لو كنت تريدني". أجابت بغموض وظهرت على جبينها تقطيبة مفاجئة: -" بالتأكيد أريدك". كان مستلقياً على جنبه , واستند على أحد مرفقيه, وهو ينظر اليها برقة, وبدأت شكوكها تتبدد , وشعرت بأنها أكثر سعادة لأن براين يريدها وهذا هو ما يهم. -" لدي اجازة أخرى يوم الأثنين , وسأذهب الى نقوسيا وأوكل محامياً". -" انك فتاة طيبة ! وكما قلت ينبغي ألا تكون هناك أية صعوبة". -" سيحدث تأخير بسبب وجودي في الخارج". -" الى متى؟". وعندما هزت رأسها أضاف: -" لا ... بالطبع لا يمكنك أن تعرفي". -" أتوقع أن يستغرق ذلك بضعة أشهر". غامرت بهذا القول وأعاد اليها الأطمئنان فوراً في ابتسامته وقال: -" يمكنني أن أنتظر , رغم أن هذا لن يكون سهلاً , وعلى أي حال سنرى بعضنا بعضا أبان تلك الفترة". واقتربت منه , وغمغمت وهي ترفع وجهها : -" ستكون أمامنا فترة خطوبة أطول". -" كنت أحمق يا شاني , فسامحيني يا عزيزتي". وكانت قد سامحته , لكنها عبرت عن عفوها بعينيها فقط, اذ فجأة أصبح الكلام عسيراً, واعترض علاقتها ببراين شعور واضح بالتوتر أقلقها كثيراً. وفي الوقت نفسه كان أندرياس يعاملها في المستشفى بفتور, أما ليديا , من ناحية أخرى , فكانت كما قالت عنها جيني بطريقة فجة , ماضية في طريقها وثباًً وقفزاً. -" انها ستفوز به". أكدت جيني ذلك يوماً عندما كانت هي وشاني تجلسان أمام نافذة غرفتها , تراقبان ليديا وهي في طريقها الى الفيلا التي يقيم فيها أندرياس , وفتح الباب لحظة طرقته , وأعلنت جيني أنه كان ينتظر زائرته بلهفة. -" انني أتعجب ماذا تفعل هناك". قالت شاني ذلك وهي مسغرقة في التفكير, وارتفع حاجبا جيني وأضافت شاني بسرعة: -" أعني من الممكن أن ليديا تقوم ببعض الأعمال الكتابية للسيد مان , كما فعلت مع دكتور سكوفيلد". ووافقت جيني ضاحكة: -" من الممكن أنها ستنجح , هذا أمر يسهل ادراكه". وهزت شاني كتفيها بلا مبالاة ولم تعلق, لو أن أندرياس وقع في الحب فان هذا يبسط الأمور , اذ سيكون حينئذ تواقاً مثلها الى الغاء الزواج. وجاءت جيني الى صديقتها قبل أن تبدأ العملية الجراحية مباشرة وقالت لها: -" السيد مانو في حالة عصبية حادة... ما الذي يعاني منه؟". -" أعتقد أنه متأكد , حتى قبل أن يبدأ , من أن الشاب سيصبح أبله". سمعته يتحدث مع الرئيسة عن هذا , ويبدو أن هذا هو سبب اكتئابه, فالشاب له زوجة وطفلان كما تعرفين, ولا عجب أنه في هذه الحالة المزاجية الغاضبة. ولم تكن جيني تبالغ, فعندما دخل أندرياس غرفة العمليات ألقى تحية الصباح جافة على شاني بدون أن ينظر اليها , واغتسل وبدا الأنفعال والتوتر على وجهه , وبينما كانت كريستالا الممرضة الصغيرة لغرفة العمليات تساعده على ارتداء معطف العمليات, غامرت بالأبتسام له, فتلقت تقطيبة أقلقتها. وألقى أوامره بحدة, وحملق بشدة في شاني بدون سبب على الأطلاق, وعندما أخطأت تحت وطأة أعصابها المشدودة فناولته الآداة غير المناسبة ألقى بها على الأرض. ومرت ساعات مشحونة بالتوتر, وظهرت على جبين أندرياس حبات كبيرة من العرق وأخذت كريستالا الواقفة بجواره تجففها. وفجأة شد انتباه شاني تعبير الخطورة على وجه طبيب التخدير وهو يقيس نبضات قلب المريض , وتحدث الى أندرياس بصورة عاجلة, وأدركت شاني أن أندرياس في بدء العملية راوده الأمل أن تحدث معجزة , وعليه الآن الأعتراف بأن دماغ المريض لن يعمل اطلاقاً بطريقة طبيعية, وأنه سيصير عالة على زوجته وأسرته بقية حياته. وأخيراً انتهت الجراحة, وراقبت شاني تعبيراته التي كانت خليطاً من الغضب والأحباط , فكانت الهزيمة شيئاً لا يمكن أن يتحمله أندرياس مانو. وأسرعت شاني تتجاوزه لكن أندرياس ناداها هذه المرة: واستدارت وهي تلقي نظرة خاطفة على طرف الممر حيث كانت الرئيسة تتحدث مع دكتور شارا لابيدز, وكان لا بد لشاني أن تبدي الأحترام لرئيسها فقالت: -" نعم يا سيدي؟". -" أريدك في منزلي هذا المساء, لدي شيء أريد مناقشته معك". كانت لهجته رقيقة ناعمة لكنها فاحصة وهو يضيف: -" كوني هناك في السابعة تماماً". ووصلت شاني في السابعة الا خمس دقائق , وكان الباب نصف مفتوح, ودعاها للدخول , تسارعت دقات قلبها , وشعرت بساقيها ترتعشان أيضا, عندما دخلت غرفة الجلوس , هل تلقى رسالة من محاميها؟ يبدو الأمر كذلك, ومن سوء الحظ أنها جاءت في هذا الوقت وهو يشعر بالأحباط نتيجة للعملية, وأشار بيده الى مقعد وهو يقول: -" اجلسي". وغاصت في المقعد. -" ما كل هذا الذي يجري بشأن الغاء الزواج؟". سألها وكأن الأمر لم يناقش من قبل على الأطلاق. -" هل سمعت شيئاً من المحامي؟". -" سألتك سؤالا؟". قال ذلك بحدة في صوته, وأحست شاني بضيق واضح من موقفه وتمتمت بلهجة تنم عن الحرج: -" أخبرتك قبلاً أنني أريد حريتي". قال وهو يؤكد كلماته: -" وأنا أخبرتك أننا سنظل متزوجين". وتوقف وظهره لجهة النافذة , شبحاً داكناً ملامحه خالية من التعبير. -" الواضح أنك لم تفكري في اقتراحي بأن نحاول العيش معاً". وحدقت فيه مشدوهة وصرخت: -" نحن غريبان , كيف تتوقع مني أن أعيش معك؟". -" اننا زوج وزوجة يا شاني". كان صوته ناعماً ومع ذلك أحست شاني بقدر من القسوة في هذا الغريب المهيب الذي يثير أعصابها , وذكرها مرة أخرى, بعد كل هذه السنين بحيوان على وشك أن ينقض , حيوان يحسب حساب كل خطوة, ويتربص للقضاء على أية محاولة للدفاع عن النفس: -" أنت وأنا مرتبطان ارتباطاً لا ينفصم , أخبرتك بذلك . اننا مرتبطان حتى يموت أحدنا". وهزت رأسها, لا ارادياً كما لو كانت الفكرة تؤلمها , وجف حلقها وسعلت كي تعيد اليه شيئاً من الليونة , وفاجأها بمقدرته على الفهم حين قال: -" هل أحضر لك شراباً؟". -" أجل , أرجوك". تملكها احساس بالزيف , شخصية هذا الرجل القوية, شخصيته الهادئة , تصميمه على البقاء متزوجاً منها , وجوده لم يجلب الا المصائب, لماذا دخل حياتها؟ لماذا لمحته عيناها على الأطلاق, ورغب فيها من اللحظة الأولى؟ وبعدما رآها لم تفتر حرارة عواطفه الملتهبة بعد كل هذه السنين؟ ونظرت في وجهه , انه نحيل داكن , ينم عن الكبرياء , وقوي ووسيم أيضا , وفي داخلها تحركت عاطفة سريعة أثارت أحاسيسها بطريقة أبهجتها وأفزعتها في الوقت نفسه". صدمها هذا الأحساس الجديد, فحولت رأسها وهي تتعجب من القوة الغريبة التي يمتلكها هذا اليوناني الأسمر الغامض. وبعث الشراب النشاط في قلبها , ومنها الشجاعة لتستفسر مرة أخرى اذا تلقى رسالة من محاميها. -" تلقيت رسالة بعد ظهر اليوم, ولهذا أنت هنا". وتناول شرابه بلهفة , ثم وقف وهو يحدق في الكأس لحظة وقال: -" أنك تضيعين وقتك ومالك". وتوقف منتظراً أن تنظر اليه ثم أضاف: -" نحن متزوجان , وكلما أسرعت بتعويد نفسك على هذه الحقيقة , كلما كان ذلك أفضل". وازداد نبضها سرعة , كان أندرياس واثقاً من نفسه للغاية, وفاتراً جداً ازاء المسألة كلها , ومع ذلك ما الذي يستطيع أن يفعله؟ -" قال المحامي أن الغاء الزواج سيكون شيئاً بسيطاً". واتسعت عيناها وهما تحملان نظرات التوسل , اذ أضافت: -"أريد حريتي يا أندرياس , أجبرتني على هذا الزواج ولا يمكنك أن تتوقع أن أبقى معك , بدون حب...". وتجهمت وهي تقول كلمتها الأخيرة, وتعجبت من الغضون العميقة التي ظهرت على وجه زوجها , هل هذا نتيجة احباط الأمس؟ لكن لا, ليس هذا احباطاً, انه ألم مبرح وكرب عميق وهذا شيء مضحك بالطبع لأن أندرياس مانو أكثر رجل يمكنه أن يعاني من الألم والكرب, وسأل متجاهلاً كلماتها: -"ما الذي أخبرت به محاميك بالضبط؟". -" كل شيء ... اضطررت الى ذلك". -" ما هو كل شيء؟". -" قلت أنك جعلتني أتزوجك بتهديد أبي بالأبلاغ عنه , وطبعاً قلت أننا لم نعش معاً على الأطلاق, وهذه هي حجتي القوية في محاولتي الحصول على الغاء الزواج". -" وهل الأمر كذلك الآن؟ ما أقل ما تعرفينه يا عزيزتي , هل أخبرت ذلك الرجل من أكون؟". -" لم يكن باستطاعتي أن أفعل شيئاً آخر , انني آسفة اذ أفعل ذلك , لكن يجب أن أحصل على حريتي". كان أندرياس جراحاً معروفاً ذائع الصيت , ومن الطبيعي أنه لا يرغب أن يمس اسمه أي شيء لا يتفق مع المبادىء الخلقية السليمة, لكن كان عليه أن يفكر في ذلك عندما أرغمها على ارتباط لم يكن أمامه أية فرصة للنجاح. -" وهل أخبرك محاميك بأن الألغاء سيكون سهلاً ". ووضع أندرياس الكأس على المنضدة , وتقدم نحو مقعدها ووقف هناك , يطل عليها بقامته الفارة المسيطرة ونظرت اليه تحركها قوة لا تقاوم لمقابلة تلك النظرة الفاحصة, وبينما يحملقان أحدهما في الآخر أدركت شاني مرة أخرى تلك العاطفة القوية التي اجتاحتها وبدأت حمرة الخجل تتسلل الى وجنتيها , ورفرف الأعجاب لحظة لكن القسوة بقيت ... لا ... ليست هناك دلائل هزيمة في هاتين العينين الداكنتين الواسعتين , بل هناك حزم وتصميم وثقة بالنفس أثارت اضطرابها الى حد كبير , ومضى يقول: -" الواضح أنك جاهلة بحقيقة أن المحامين هنا مشهورون بضآلة معرفتهم للقوانين الأنكليزية ؟ هذا الرجل الذي استخدمته لا يعرف عما يتحدث". -" بالتأكيد يعرف". -" أعتقد أنك تدركين السهولة التي يمكن بها للقبارصة أن يفسخوا زواجاً؟". وتجهمت ... الى أي شيء يؤدي هذا؟. -" انهم يحصلون أحياناً على الطلاق بالموافقة المتبادلة".. وأكمل بابتسامة فاترة: -" ما أريد أن أشير اليه حقاً أن محاميك هذا يعتقد الغاء الزواج أمراً سهلاً, هل أخبرته بأننا تزوجنا في أنكلترا؟". وبدأت شجاعتها تنهار, رغم أنها كانت ترفض بعناد أن تعترف بأن أندرياس يستطيع أن يبقي على ارتباطها به. -" ومع ذلك يعتقد أنه يمكنه الحصول لك على الغائ الزواج, أنا فقط يمكنني أن ألغي الزواج , ولست في وضع يمكنك من هذا سواء أنت أم محاميك من يعتقد العكس". وحدقت فيه وتساءلت: -" أنت؟ لكنني أنا الطرف المتضرر لأنني أرغمت على الزواج تحت التهديد". -" لا تقولي هراء! تزوجتني بارادتك . وبالنسبة لكونك الطرف الذي أضير ... لا أرجوك انتظري حتى أكمل كلامي , هيأت لك بيتاً ورفضت أن تعيشي معي, ومن وجهة نظر القانون أنا المظلوم , ونتيجة لذلك فأنني وحدي الذي أستطيع أن ألغي الزواج". ووضعت كأسها فوق المنضدة, وجلست وقد تشابكت يداها تحدق في الهواء, هل هذا حقيقي؟ سيطر عليها تماماً القلق الذي تسلل اليها, هل هي مقيدة الى هذا الرجل طوال الحياة؟ ورفعت عينيها وهي تتوسل في صمت ولكن كان كل ما قاله : -" أعرف أنك أعطيتني ردك بالنسبة الى مستقبلنا , لكن هل هذه هي كلمتك الأخيرة؟". -" بالتأكيد هي كلمتي الأخيرة , لن أعيش معك اطلاقاً, والى جانب ذلك فانك- فيما يبدو- تغاضيت عن حقيقة أنني...". وخفت صوتها حتى أصبح صمتاً عندما لاحظت تعبيره المتغير بسرعة , ثم رد بنعومة: -" أجل ... أنت؟". وخشيت أن يسد الخوف حلقها وتحدثت بسرعة قبل أن تخونها شجاعتها: -"انني أحب شخصا آخر , وانت تعرف ذلك". وأعقب ذلك صمت متوتر, وعندما قررت أخيراً أن تنظر اليه أدركت أنها لو تطلعت قبل ذلك لرأت شيئاً مختلفاً تماماً عن النظرة الباردة التي تواجهها الآن. -" أريد أن أتزوجه يا أندرياس. واذا كان لديك كرامة على الأطلاق فانك لن تقف في طريق حصولي على الغاء الزواج". -" قلت للتو أنك لا تستطيعين الغاء الزواج, وقلت أيضاً أنني يجب أن أرى الرجل الذي يعتقد أنه يستطيع سرقة زوجتي مني ... من هو؟". -" براين ... انه ضابط في السلاح الجوي الملكي". -" انكليزي ... ايه؟". -" من الطبيعي أن أرغب في الزواج من رجل من بلدي". ونهضت وأخذت حقيبة يدها من فوق المنضدة , ثم قالت: -"ليس هناك شيء بيننا نناقشه , حذرني المحامي بألا أكون معك وحدي". -" ينبغي ألا تكوني وحدك مع زوجك؟". مرة أخرى كان أسلوبه مختلفاً تماماً عما توقعت: -" ماذا قال غير ذلك؟". الصوت الهادىء , والأفتقار التام للأنفعال كانا ينبغي أن يكونا مصدراً لقلقها أكثر كثيراً من مظاهر عنفه, ولكن بدلاً من ذلك بعث هذا المظهر الطمأنينة في نفسها حيث وجدت الشجاعة لترد عليه بطريقة لم تكن تجرؤ عليها من قبل اطلاقاً: -" قال أنه ليس لديك حجة كافية, وأنا أثق في حكمه رغم ما تقوله!". وكان كل ما رد به أندرياس حركة في حلقه واهتزازة من كتفيه قبل أن يستدير ويفتح الباب ويقف جانباً ليسمح لها بالمرور عبره الى الردهة , وكان الباب الأمامي مفتوحاً على مصراعيه وحول الأضواء في الفناء تحوم عشرات الفراشات الضخمة , ومن هناك يأتي الصوت المكتوم للأمواج وهي تلمس الشاطىء برفق, واستدارت شاني لتغلق البوابة خلفها فرأت أن أندرياس دخل البيت وأصبح الباب الأمامي مغلقاً الآن , وكانت على وشك أن تمضي في طريقها عندما وجدت أن عينيها منجذبتان بطريقة لا تقاوم نحو النافذة المضاءة لغرفة الجلوس , والظل الساطع على الجدار, فتجهمت وابتلعت شيئاً يؤلمها في حلقها : كان أندرياس جالساً ورأسه بين يديه.
-----------------------
4- العطلة البريئة
ما هذا الشك الذي يعتريها, ذلك الأضطراب المعذب في تفكيرها ؟ لم تعد ترغب في شيء سوى التحرر من أندرياس . بالـتأكيد أرادت أن تتحرر منه!. مر أسبوع على زيارتها الأخيرة لمنزل زوجها . ناضلت خلاله لتستعيد وضوح الرؤية , وكان براين مسافراً يقوم بمهمة لمدة شهر في أنكلترا , مما أثار ضيقه أما شاني فشعرت بموجة راحة تجتاحها لغيابه, فعندما يحين وقت عودته لا بد أن تكون خرجت من سحابة الشك المحيرة التي تحيط بها. ومع ذلك كان كل يوم يمر يزيد من اضطرابها , وفي النهاية اضطرت الى الأعتراف بأن السبب يرجع الى أن أندرياس يقتحم أفكارها الى مدى أبعد مما يريح ذهنها , وكان الشيء الغريب هو أنه مع هذا الأقتحام يأتي الأعتراف التدريجي بنفسها كأمرأة متزوجة , اذ منذ بضعة أشهر كان زواجها يعتبر حالة زائفة سيتولى الوقت مهمة حلها, لكن الآن بدأت تتقبل هذه الحالة , والواقع أنها في احدى المناسبات أخرجت خاتم زواجها من علبته ونظرت اليه مفتونة , وخافت من وضعه في أصبعها ... السيدة مانو... ولم يفعل المحامي شيئاً أكثر, وعندما اتصلت به هاتفياً آخر مرة قال لها أن هذه الأمور تستغرق بعض الوقت, لكنه مضى يؤكد لها أن الدعوى القضائية سائرة في طريقها , ولا ينبغي أن تقلق مطلقاً. وعندما سمع براين بتفاؤل المحامي أصر على احتفال سابق لأوانه وصحب شاني الى فندق هيلتون , وأثناء العشاء بذلت محاولات عديدة لأخباره بنبأ استدعائها الى منزل زوجها , لكنها لم تستطع , وهكذا سافر براين الى أنكلتراوهو يجهل تماماً تأكيد أندرياس بأنه هو وحده الذي يملك السلطة لألغاء الزواج. -" أعتقد أنه بات الآن مستسلماً الى حد ما". قال براين ذلك بارتياح ينم عن الفوز وهو يجلس مع شاني في السيارة لحظة قبل أن يلقي عليها تحية المساء , وأضاف: -" لا يمكن أن يحدث شيء آخر على ضوء تفاؤل المحامي الى هذا الحد". وقالت شاني وهي تتجنب الرد المباشر: -" قد يكون مخطئاً ... أقصد المحامي, ربما يعتقد أنه من السهل أن يتم هذا كما يجري هنا , فالطلاق في قبرص أمر سهل". -" للأسف أن هذا لا يحدث في أنكلترا". رد براين بذلك وقد أخطأ فهم ما تقصده, مما أدى الى تقطيبة حادة على جبينها , اذن فهو يرى أن الطلاق ينبغي أن يكون سهلاً ... وعندما لم تتحدث كرر براين سؤاله: -" يبدو أنه مستسلم قليلاً ومع ذلك...". وقال براين بحدة: -" قليلاً ؟ ماذا تقصدين؟". -" يجب أن أكون صريحة : أندرياس لا يريد أن يطلقني". وتجهم براين فجأة وهو يقول: -" يا له من غبي ! لكنك تصرفت كما لو كان سلم بالأمر". وبقي ترددها في مناقشة أمر أندرياس, وكادت شاني تطلب من براين أن يعنى بشؤونه الخاصة, لكنها سرعان ما أدركت أن هذا غير منطقي الى حد كبير من جانبها , ومضت تشرح له أن أندرياس يبدو من ناحية مسلما بالأمر الواقع ومن ناحية أخرى , أصبح يبدو كثيراً مستغرقاً في التفكير ومن يدري لعله يدبر خطة ما. وقال براين: -" أنك خيالية جداً ... ما الذي يعد له؟". -" لا شيء ... انني خيالية كما تقول". -" حسناً ... سواء كان مستسلماً أم لا فأنه سيضطر لأطلاقك , فالمسألة خرجت من بين يديه تماماً". وفكرت شاني , كم هو قليل المعرفة! وتمنت لو كانت لديها الشجاعة لأخباره بالحقيقة, اخباره بتأكيد أندرياس الحاسم أنها لا تملك أسساً تستند عليها في الحصول على الغاء الزواج. وبعد رحيل براين بأسبوع أقامت هيئة المستشفى حفل وداع لممرضة يونانية كانت ستتزوج يوم الأحد التالي , حضر جميع الأطباء كذلك الممرضات اللواتي ليست لديهن نوبات عمل, ومن بينهن شاني وجيني, كانت شاني تحظى بشعبية لدى الجميع, ليس فقط بسبب جمالها الفاتن ولكن أيضا لأحساسها العميق بالأمانة والتعاطف , وحظيت بقدر كبير من اهتمام الأطباء , وفي المرات العديدة التي لاحظت فيها نظرة زوجها اليها رأت ومضة التصلب في عينيه , وأخذت ليديا تحوم حوله في ثقة, ومن حين لآخر كانت الهمسات تتردد حولهما. وأكد دكتور شارالا مبيدز وفمه قريب من أذن شاني : -" انهما صديقان فقط... لن يتزوجها اذا كان هذا ما تتوقعه ". ودفع هذا شاني الى الأستغراق في التفكير وضحكت ضحكة رنانة أثارت اهتمام أندرياس بها مرة أخرى. واعترفت بأنه وسيم والتقت عيناها بعينيه وأصبح الأحساس بالقلق قوياً في أعماقها الى درجة أنها تحركت مبتعدة عن المجموعة الصغيرة التي أحاطت بها ووقفت وحدها تنظر من الفناء نحو البحر ثم الى جبال تركيا التي تكتنفها الحرارة ومع ذلك ما زالت مغطاة بالثلوج. كان ذهنها مضطرباً , لماذا تستاء فجأة من موقف ليديا الذي ينم عن الرغبة في امتلاك أندرياس ؟ أنها تستاء منه رغم أنها ضحكت من ملاحظة دكتور شارالا مبيدز, وفكرت في براين , الذي رحل منذ أسبوع , ولم تفتقده اطلاقاً, وساور شاني احساس بالذنب ازاء ذلك خاصة أنها الآن أصبحت عاجزة عن تصور مستقبلها كزوجة له. -" ألا تشربين؟". كان الصوت خفيضاً مهتزاً ومع ذلك كان رقيقاً بشكل ما, واستدارت شاني وقد تسللت الى وجنتيها حمرة الخجل الناعمة: -" تركت كأسي فوق المنضدة". وحملها أندرياس اليها وأخذتها منه, يسيطر عليها شعور بالخجل وهي تتطلع الى وجهه , شكرته واحتست الشراب بطريقة آلية وهي واعية لعيني ليديا الداكنتين تنظران اليها. -" سنفتقد أندرولا". كانت كلماتها عادية مضطربة : -" الواقع أنها ... ممتازة". وتوقف أندرياس عن الكلام وكان فاتراً هادئاً ثم أضاف: -" ألا نجلس؟". وجلست شاني على المقعد الذي قدمه اليها , ثم قالت متلعثمة: -" ستأخذ اجازتك قريباً, هل ستقضيها في بيتك؟". -" ليس لي بيت يا شاني". كانت العبارة هادئة تماماً ولكنها تحوي لمحة لوم ولا تخلو من الحنين, وشعرت بالذنب, وفكرت بتجهم سريع, لماذا يثير الرجلان اللذان دخلا حياتها هذا الشعور بالذنب؟". -" انني ذاهب الى جزيرة كوز أتعرفينها؟". وفقدت لامبالاتها , وبرق في عينيها وميض الشغف وقالت: -"الجزيرة اليونانية؟ بالطبع أعرفها, كوز , مسقط رأس أبو قراط , أبو الطب". -" هل زرت الجزيرة؟". وهزت رأسها وهي تقول: -" آمل أن أزورها في وقت ما , ينبغي في الواقع أن أذهب الى هناك". وسأل بابتسامة قاتمة: -" لأي سبب؟". وابتسمت رداً على ابتسامته ثم قالت: -" لمشاهدة الأسكلبيون (1) هذا طبيعي , أعتقد أن كل من يعمل في الطب لديه رغبة في الذهاب الى هناك". -"الأسكلبيون مستشفى أبو قراط , أتعرفين أنه يجري بناء مركز هناك حيث يمكن للأطباء , من جميع أنحاء العالم أن يلتقوا ويتناقشوا؟". ولمعت عيناها: -" مدهش! لا يمكن أن يكون هناك مكان أكثر ملائمة من ذلك في العالم كله لأقامة مثل هذا المركز". -" بالتأكيد لا يمكن". وأعقب ذلك فترة صمت طويلة , وشعرت شاني ان احساساً بالتوتر بدأ يتسلل اليها , لكنها لم تكن مستعدة على الأطلاق لسماع كلمات زوجها التالية: -" لماذا لا تأتين معي يا شاني؟". وتنفست بسرعة وقفزت الى ذهنها صورة مفاجئة جزيرة كوور الصغيرة وأندرياس يرافقها. -" هذا مستحيل , وأنت تعرف ذلك". -" أيمكنك أن تعطيني سبباً واحداً وجيهاً، لماذا تجدينه مستحيلاً؟". ونظر أندرياس اليها نظرة ثابتة , وازدادت حمرة الخجل في وجنتيها , وطغى عليها اضطراب وتراجع عندما أدركت أن فكرة الذهاب مع زوجها لم تستبعد على الفور من ذهنها , وهمست: -"لن يكون هذا تصرفا سليماً يا أندرياس". -" أنك زوجتي يا شاني". وغمغم بذلك وهزت رأسها مؤكدة رأيها فأضاف عندما لاحظ ترددها: -" سنذهب كصديقين فقط". -" صديقين؟". وتذكرت وحشيته ورغبته الجامحة , ثم تمعنت في وجهه بدقة... أن ما رأته في ملامحه لا يمكن اساءة فهمه . كلمته هي شرفه , ولن ينقضها. -" انني ... انني...". واستمرت عيناها الجميلتان تنظران اليه يحولهما الشك الى لون داكن. -" اجازتي لا تتفق . لا تتفق مع اجازتك". كلمات ضعيفة وغير مقنعة على الأطلاق, ما الذي انتابها؟ -" أعتقد أن أجازتك تبدأ بعد اجازتي بثلاثة أيام , يمكنني أن أنتظرك". أيمكن أن تكون تحت تأثير الخيال أم أن هناك لمحة توسل في صوته حقيقة, واستعادت ذكرى اعترافه بأنه بحث عنها, وتعجبت من شخصية هذا اليوناني الأسمر الذي بدأ يقتحم أفكارها رغم جهودها لأبعاد صورته عنها , لكن هذا أصبح مستحيلا, فالواقع أنه كثيراً ما يحتل ذهنها مستبعدا كل شيء آخر , حتى براين, الذ ي كانت جميع أحلام مستقبلها تتركز حوله الى عهد قريب. -" لا يمكننا بسبب القيل والقال". -" ليس من الضروري أن يعرف أحد". قال هذه الكلمات في تردد, وتعجبت شاني لماذا يقيم علاقة مع ليديا اذا كان لا يزال يريد زوجته؟ لكن هل كانت هناك علاقة؟ ان العاملين في هيئة المستشفى يعتقدون ذلك. ولكن شاني لم تقتنع تماماً بذلك. -" سيعرف الناس, لأننا لا نستطيع أن نجعل هذا سراً مكتوماً , سيرغب كلانا في التحدث عنه عند عودتنا". ماذا بها؟ سألت نفسها مرة أخرى , أن فكرة قضاء اجازة مع أندرياس لا محل لها. -" من جانبي لن أهتم , لكنك أنت؟". وللحظة لمحت حقد الغيرة الأسود في عينيه قبل أن يواصل كلامه: -"لديك هذا الشاب , هذا (البراين) الذي تعتقدين أن بأمكانك الزواج منه, رغم تأكيدي الحاسم بأنك لن تحصلي على حريتك". أكمل حديثه بسرعة وكأنه يخشى أن تخونه كلماته: -" ينبغي لنا أن نحافظ على سرنا". وفي صمت احتست كأسها يسيطر عليها الشك والحيرة, هل تقضي اجازة مع رجل آخر بينما براين بعيد في الخارج؟". وهمست بقوة: -" لا , لا أستطيع الذهاب معك, أرجوك أن تنبذ الفكرة كلها!". وكان التوتر يملك نفسه , لكنه استرخى الآن واتكأ الى الخلف في مقعده, أشبه برجل غامر وخسر , وتسلل لون رمادي تحت بشرته مختلطاً باللون البرونزي الداكن العميق الذي ورث جزءاً منه واكتسب الجزء الآخر من تعرضه للشمس , وتنهد وهو ينهل من كأسه بعمق: -" كما ترغبين يا شاني". -" أنني آسفة". الشعور بالذنب مرة أخرى , كم تتمنى لو استطاعت أن تطير الى مكان ما بعيداً عن هذين الرجلين اللذين يمزقان روحها ارباً, وفجأة تجهمت , هل كان براين عنصراً هاماً حقيقة في هذه الرواية؟ تضاءل دوره تدريجياً في الوقت الذي أخذ الضوء يتركز على أندرياس بطريقة بطيئة, ولكن مؤكدة, وفي غمرة الصراع العنيف لعجزها عن اتخاذ قرار دفعت يداً مرتعشة بين طيات شعرها , وقالت مرة أخرى وهي تناضل بيأس من أجل اتخاذ ما تراه موقفا مشرفاً: -" أنني آسفة , انها فكرة مستبعدة أن نسافر معا الى الخارج". -" أوضحت ذلك بالفعل". قال ذلك بصوت كان يفتقر لدهشتها الى الخشونة التي توقعتها , واستدار مبتسماً بينما كانت ليديا تقترب منهما. -" هل أستطيع الأنضمام اليكما؟". كانت نظرتها الى شاني متكلفة لأن عينيها تركزتا على أندرياس وحده, لكنه نهض وهو يقول أنه ينبغي أن يتحدث مع رئيسة الممرضات , وترك شاني وحدها مع الفتاة, كان واضحاً أن الأمل يراودها في أن تصبح زوجة أندرياس , وساد بينهما الصمت حتى قالت ليديا أخيراً بطريقة مفاجئة: -" كنت أنت والسيد مانو مستغرقين في الحديث, هل كنتما تناقشان مسائل تتعلق بالعمل؟". كم هي حركة شفافة ! فكرت شاني في ذلك بقسوة غريبة عن طبيعتها الى حد ما , وردت بلا تحديد لمعاني كلماتها: -" لم يكن عملاً". وانتصبت ليديا وابتعدت وعبرت الغرفة للأنضمام الى أندرياس والرئيسة , وبقيت شاني حيثما كانت , لا تريد أن تكون في صحبة أحد وهي في مثل هذه الحالة من الأضطراب, ومع ذلك ابتسمت عندما جاءت اليها جيني بعد ذلك ببضع دقائق: -" لا تستطيع أن تتركه وحده!". قالت جيني ذلك وهي ترتمي فوق المقعد الذي خلا بذهاب أندرياس وتركزت عيناها على ليديا التي أصبحت الآن وحدها مع أندرياس. -" لا أحد يعتقد أنها تستطيع الفوز به, لكنني لست متأكدة الى هذا الحد". وغص حلق شاني بشيء غريب وهي تقول: -" لست متأكدة؟ ألديك سبب خاص لهذا القول؟". -" انها دائماً تحوم حوله, وعلاوة على ذلك اقترحت فعلاً الذهاب في اجازة معه, ما رأيك في هذه الوقاحة؟". وارتعشت رموش شاني , وقالت بهدوء: -" كيف عرفت أنها اقترحت الذهاب معه؟". -" سمعتها للتو". -" ماذا قالت؟". -" لكي أنقل كلماتها بالضبط قالت:" أندرياس كنت أفكر أنني أتوق الى زيارة كوز اذن لماذا لا نذهب معا؟". -" والسيد مانو ماذا قال عن ذلك؟". خرجت الكلمات بصعوبة نتيجة لجفاف في حلق شاني. -" لا أدري , لم أستطع الوقوف هناك لمجرد الأنصات الى حديثهما , لقد سمعت ما أخبرتك به وأنا مارة بهما". وأخذت شاني تفكر ! هل سيوافق أندرياس على اقتراح ليديا؟ ربما... فالذهاب بمفرده لن يسعده كثيراً, لكن لماذا تهتم اذا ذهبا معا؟ مضت أسابيع قليلة فقط منذ كانت تأمل أن يقع أندرياس في حبها ويوافق على الغاء الزواج. أسابيع قليلة, نعم, لكن يبدو أن أشياء قليلة حدثت لها في بحر تلك الفترة, وشعرت شاني بوخز غير واضح في قلبها , اذ ألقت نظرة الى حيث كان الأثنان واقفين, وهما مستغرقان في الحديث , ترى هل يخططان لأجازتهما؟ لماذا لا ينبغي لها الذهاب مع زوجها؟ خطر لها هذا السؤال مرة ومرات في اليوم التالي للحفل , واكتشفت تدريجياً , أنه لا يوجد له رد واحد فقط, لكن شاني ما زالت مترددة , وربما كانت تستطيع مقاومة رغبتها المتزايدة لولا أن ليديا جاءتها في مقهى القرية تلك الليلة , عندما ذهبت شاني لأحضار زجاجة شراب طلبتها جيني , ودعاها صاحب المقهى بالطبع الى فنجان قهوة. -" أيتها الأخت ريفز". بادرت ليديا بالكلام بدون مقدمات وهي تجلس على مقعد في مواجهة شاني , وأضافت: -" بشأن ليلة أمس, كان أسلوبك معي جافاً الى حد الوقاحة وأود أن تذكري أن لي قدراً معيناً من السلطة في المستشفى, ولذلك يجب أن تحترميني". وردت شاني في الحال, وقد بدأت تتوتر: -" والدك له سلطة , نعم, أما أنت...". وتوقفت عن الكلام وهزت كتفيها بلا مبالاة , وهي تنقل يدها من فوق المنضدة عندما وضعت القهوة أمامها. وقالت ليديا يلهجة لاذعة: -" أخشى أن تكوني أصبت بالغرور نتيجة الأهتمام الذي يبديه رئيسك نحوك, لكن لمصلحتك أنصحك بألا تنظري الى هذا الأهتمام بجدية, فهو أمر تقتضيه أصول المهنة فقط". وومضت عينا شاني وشعرت بدافع لا يقاوم في أن تكشف الحقيقة كلها, لمجرد الأستمتاع بمشاهدة دهشة ليديا وذعرها, لكنها بدلاً من ذلك قالت بطريقة عفوية: -" يبدو أن لديك أسساً لهذا التأكيد؟". وقالت ليديا في اندفاع: -" نعم لدي... السيد مانو وأنا مخطوبان". وأسبلت رموشها لأخفاء تعبيرها ثم أضافت: -" الواقع أننا سنعلن خطبتنا فور عودته من كوز". وفكرت شاني في احتقار الفتاة الغبية, كل هذا كان مجرد آمال تراودها , ربما يكون أندرياس مهتماً بليديا, لكنه ما زال مصمماً على التمسك بزواجه, ومرة أخرى شعرت شاني برغبة قوية لكشف الحقيقة لهذه الفتاة لكن, بدلاً من ذلك كان كل ما قلته: -" من هذا أستنتج أنكما ستسافران معاً؟". لأول مرة في حياتها كانت شاني تتصرف مثل قطة حاقدة تتوق للأغاظة , هكذا حدثت نفسها , لكن هذه المرأة أثارت بالفعل أسوأ ما فيها . وجاء الرد السريع من ليديا: -" من المحتمل أن نذهب معاً". لكن شاني كانت تعلم أنها قالت هذه الكلمات بلا تفكير , وأن ليديا ندمت عليها بالفعل, ومع ذلك فبينما يبدو , من ناحية, أن أندرياس لم يوافق بعد على اصطحاب ليديا فأن تلك الفتاة من ناحية أخرى, ما زالت تأمل أن يفعل ذلك. ليديا وأندرياس معا مدة أسبوعين. لا مجال لتفكير أو تردد بعد ذلك, وبدافع قوي أقوى من الحذر أو التعقل قامت شاني بزيارة زوجها وأخبرته بأنها غيرت رأيها, وأنها على استعداد لمرافقته وكان يجلس وحده, لكن هناك ما يدل على أنه كان يقرأ كتابا أو صحيفة, وعرفت شاني غريزياً أنه كان يفكر تفكيراً عميقاً, الا أنه عندما سمع كلماتها اللهثة وحتى قبل أن يدعوها للجلوس , أضاء وجهه بأعجوبة, واختفت الغضون المرهقة وأصبح وسيماً مرة أخرى. وسأل بعد ذلك ببضع دقائق وهو يقدم لها شراباً: -" ما الذي جعلك تغيرين رأيك؟". وكان طبيعياً أنها لم تستطع أن تخبره, ولكن شاني حتى وهي تفكر في ليديا بدأت تتعجب مما اذا كانت تأثرت تماماً بالحديث الذي جرى بينهما في المقهى, لعلها كانت ستذعن في النهاية لرغبتها الشديدة التي لا تنكر , ويسمح لضميرها أن يموت, وغمغمت وقد بدأت دماء الخجل تزحف عليها: -" أعجبتني فكرة زيارة كوز". وارتفع حاجباه دهشة: -" أهذا السبب الوحيد؟". وهمست: -" أندرياس ؟ أنك تعني ما قلته بأننا سنكون صديقين فقط؟". وضغطت على كأسها فأراحها منها , وبعدها وضعها فوق المنضدة, احتوى كلتي يديها بين يديه ونظر بثبات في عينيها وهو يقول: -" نعم يا عزيزتي... سوف أسعد برفقتك لمدة أسبوعين كاملين , وينبغي ألا أطلب المزيد". وعضت شفتيها , وهي مندهشة عندما اكتشفت انها تقاوم دموعها ... هل يمكن أن يكون قد أحبها؟ من الغريب أن تلك الفكرة لم تطرأ لها من قبل, فكرت في ذلك بامعان عندما ومضت ذكرى كلمات أبيها وهو يقول بعد أن وصف لها كيف وقع في حب والدتها من النظرة الأولى. وسيحدث الشيء نفسه لك يا شاني , فسيأتي رجل ذات يوم رائع ويراك ويعرف أنك له. ونظرت الى يديها وتلك الأصابع القوية السمراء تحتضنها بخفة, وأخذ قلبها يخفق بسرعة بالغة وهي تقاوم هذه الفكرة وتبعدها عنها, وترفض أن تتقبلها كرؤية جديدة , لم يكن حباً ذلك الذي حفزه الى توجيه ذلك الأنذار للأمتلاك؟ لو كان أحبها حينئذ لأخبرها بذلك, وتودد اليها بالطريقة العادية, ولم تكن هناك ضرورة الى ذلك الأكراه الخسيس, ولو كان يحبها الآن فيمكنها أن يخبرها أيضاً , لكن لا , لا يستطيع لأنه يعتقد أنها ترغب فقط استرداد حريتها لتتزوج بشخص آخر, اذن لماذا كل هذا التفكير؟ ومع ذلك كان واضحاً أن رغبته فترت , وعندما ردت مرة أخرى على نظرته بنظرة مماثلة كان الصراع الذي شب بداخلها قد انتهى وابتسمت له ابتسامة صافية وهي تقول: -" أنني أتطلع حقيقة الى ذلك, الآن بعدما اتخذت قراري". وقبل يديها ثم أطلقها وهو يقول: -" سنقضي وقتاً رائعاً نتذكره دائماً". كان الفندق يطل على البحر, يرتفع عالياً فوق شاطىء ذهبي مهجور, اذ كان الوقت متأخراً نسبة الى الموسم ولا يجذب السياح بأعداد كبيرة, وكانت حجرة شاني المجاورة لغرفة زوجها تواجه البحر, واجتاحتها موجة اثارة وهي تحدق عبر النافذة, هناك يرقد بحر ايجه الأزرق هادئاً جذاباً, بينما تلوح عن بعد جبال تركيا , يكاد يخفيها ضباب أرجواني , وتلمع هنا وهناك بيوت القرية الناصعة البياض وسط الجبال التي تغطيها الأشجار. وصلا هذا الصباح , ورغم أن الوقت أوائل أوكتوبر( تشرين أول) , كان البحر دافئاً ومغرياً, وأيدت شاني في لهفة اقتراح زوجها بأن يباشرا اجازتهما بقضاء اليوم الأول على الشاطىء , حتى تجد الفرصة للأسترخاء على حد قوله, جلس فوق الرمال على المسافة الممتدة من الفندق الى البحر, وعندما انضمت اليه قالت: -" لا يمكن أن تكون أفرغت حقائبك, فلم يكن لديك متسع من الوقت". -" تركت عامل الفندق يفعل ذلك, ألم تطلبي من الخادمة أن تفرغ حقائبك؟". كان يرقد على جانبه وهو يتطلع اليها , من خلف نظارة سوداء. -" كان رجلاً , ولم استطع أن أطلب منه افراغ حقائبي". - " بطبع لم تستطعي. ونهض... طويلاً ورشيقاً وداكن السمرة. والجراح لا بد أن يكون في كل صحته, ولا شك أن أندرياس يعطيها هذا الأنطباع, سألها: -" هل أنت مستعدة للسباحة؟". وأومأت بالأيجاب , وتركت روبها ينزلق على المنشفة الكبيرة التي بسطها أندرياس فوق الرمال, وبعد ذلك بثوان كانا في الماء. -" انه رائع". كانت تحلم, تعيش في عالم بعيد تماماً عن الواقع, لكن ألم تقرأ في مكان ما أن كوز قطعة صغيرة من الجنة ذاتها؟ سوف نقيم أسبوعين كاملين في هذه الجنة, وعقدت العزم على أن تستمتع بهما, أن تضحك وأن تسعد مع زوجها... الزوج الذي لم تعد تخشاه. وبعد الغداء عادا الى الشاطىء , وفي المساء تناولا العشاء ورقصا في الفندق, وكانت جميع النوافذ مفتوحة, ومن خلالها هبت نسمات كانت تكسب الدفء بمرورها فوق البحر, وتعبق برائحة ذكية من نباتات الدفلى والياسمين التي تنمو في حدائق الفندق. وكانت الساعة تجاوزت الثانية صباحاً عندما اعترفت شاني أخيراً , وفي تردد , بأنها متعبة. -" طابت ليلتك ... يا زوجتي الفاتنة". وقبلها أندرياس بخفة على جبينها, بدون أن ينبس بكلمة أخرى وتركها الى غرفته وأغلق الباب خلفه, وكانت شاني لا تزال عند باب غرفتها عندما أحكم الرتاج في مكانه. وفي اليوم التالي ذهبا الى الأسكلبيون بسيارة أجرة, لكن الزوار القلائل الذين حضروا هناك كما يبدو على دراجات , وعندما علقت شاني على ذلك أخبرها أندرياس بأن ركوب الدراجات شيء مألوف دائما لدى زوار الجزيرة وقال: -" الطرق جميعها ممهدة, كما ترين , تحف بها الأشجار المزهرة والشجيرات الجميلة مما يناسب ركوب الدراجات كما أتصور". وسألت: -" هل يستأجرونها؟". وأومأ بالأيجاب وبرقت عيناه بالسرور وهو ينتظر النتيجة وأردفت: -" هل يمكننا...". لكنها هزت رأسها ... أندرياس فوق دراجة! وأكملت: -" لن يعجبك هذا بالطبع". -" على العكس , سأستمتع به كثيراً, فالمرء لا تتاح له الفرصة كثيراً لمثل هذه الرياضة الصحية". وعندما وصلا الى المكان الأثري سأل سائق سيارة الأجرة: -" هل أنتظر؟". رد أندرياس: -" لا أعتقد ذلك , فسنبقى هنا فترة طويلة". ثم استدار الى شاني وهو يقول: -" هل أطلب منه أن يعود الينا أم سنعود سيراً على الأقدام؟ هذا أمر متروك لك". -" ليست المسافة بعيدة, كما أن الطريق منحدرة نحو سفخ التل , دعنا نسير؟". كم كان الأمر كله طبيعياً , أندرياس يشاورها , عفواً, وهي تعرب عما تفضله, مثل أي زوجين عاديين , فكرت في ذلك وبينما هي تبتسم لنفسها تصادف أن أندرياس لمحها فسأل : -" لماذا كانت هذه الأبتسامة؟". -" ماذا؟". -" الأبتسامة , تعرفين ما أتحدث عنه". وخفضت عينيها فجأة مراوغة , لكن يده الرقيقة تحت ذقنها رفعت رأسها ثانية , فقالت متلعثمة: -" كنت , كنت أفكر". -" في أي شيء؟". وضحكت ضحكة قصيرة تنم عن الخجل , ثم هزت كتفيها هزة الأستسلام وقالت: -" كنت أفكر في أننا نبدو وكأننا متزوجين حقيقة". واتسعت حدقتاه وهو يقول في رقة ولكن بحزم: -" اننا متزوجين حقيقة يا عزيزتي, قلت أن هذه الأجازة ستكون وقتاً سنذكره دائماً , وأنوي أن أجعلها كذلك تماماً, لكنها هدنة فقط, واذا كنت , بعد أن تنتهي , لا تزالين تريدين حريتك فسنعود من حيث بدأنا". وأطلق ذقنها , لكنها استمرت تنظر اليه, بعينين واسعتين مستديرتين , وقد انفرجت شفتاها وأخذتا ترتعشان بخفة, وأضاف: -" أنك زوجتي يا شاني , ولن أدعك تفلتين مني أبدا". اذن كانت النعومة ولمحات التدليل اللأهية التي لقيتها منذ غادرا قبرص مجرد جزء صغير من قناعه الخارجي , فهو أساساً , صلب وعنيد , رجل لن يمكن اطلاقاً اقناعه بالتنازل عن سيطرته , ويجب ألا تنسى ذلك اطلاقاً , كما أخبرها. وأخذ يدها في يده وضغط عليها بخفة وهو يقول: -" أي شيء يواجهنا في المستقبل يمكن معالجته في حينه , أما في الوقت الحاضر فينبغي ألا تعكر أية لمحة من الخلاف صفو لحظة واحدة من هذه الأجازة". أي شيء يواجهنا في المستقبل... أسرعت دقات قلب شاني لأنها أحست تحذيراً ماكراً في تلك الكلمات التي قيلت بسرعة: -" أندرياس ؟". -" عزيزتي؟". كانت أصابعه تلتف قوية حول أصابعها وهو يقودها بتؤدة نحو مستشفى أبو قراط, حيث أعيد بناء معظمه كما أعيدت اقامة بعض الأعمدة بعدما انهارت بسبب الهزات الطبيعية . ثم أردف: -" ماذا هناك؟". وابتسمت قائلة: -" لا شيء , لا شيء على الأطلاق". وبعد ذلك بفترة وجيزة وما يتجولان نحو حرم اسكابيوس, انه العلاج والطب اليوناني, سألت شاني بفضول فاتر اذا كن أندرياس ملماً بتاريخ المكان, فلم يكن هناك فيما يبدو , أي مرشد وأضافت: -" أنني أعرف القليل, لكنه لا يكفي لشرح كل شيء". -" أعتقد أنني أعرف معظم التاريخ, فيما بيننا يمكننا أن نلم بما حولنا, لأنني أرغب في أن أتجنب المرشدين لو أمكن فالمرء حيثم يجد المرشدين , آليا يجد السياح". وكما هو الحال بالنسبة الى جميع الأماكن المقدسة اليونانية كان هذا المكان مهيباً , بني في غابة أبوللو(2) المقدسة, قبل ميلاد المسيح بأربعة قرون, وتحف بلمكان كل أشجار السرو والنخيل وأدغال نباتات الدفلى وشجيرات الخبازي القرمزية, بينما على مسافة بعيدة يوجد السهل الذي تنتشر فيه الأشجار , يمتد نحو مضيق هاليكا رناسوس , وخلف ذلك يمكن رؤية سواحل آسيا الأرجوانية. وكان لا يزال ممسكاً بيدها, وبدا كأنه يساعدها برقة, برغم أن شاني لم تكن بحاجة الى المساعدة, وأدت درجات أعرض من الحجارة الى معبد اسكلبيروس سليل أبو قراط, الذي ينحدر هو نفسه من أبوللو , اله الشمس. قال أندرياس عندما أخذا يرتقيان درجات السلم: -"هناك ثلاثة مسطحات, الأعلى بني أولاً , ولذلك سنبدأ من هناك". وعلقت شاني: -" لا يمكنني أن أفرق بين الخيال والواقع , لو أن أسكليبوس كان اله وأبو قراط رجلاً، اذن كيف يمكن أن تكون بينهما صلة؟". وضحك أندرياس وهو يقول: -" لم تكن هناك صلة بينهما, لكن اليونانيين القدامى كانوا يحبون أن يعتقدوا أنهما كذلك, ووبما أن أحداً لم يجادل في هذا المجال فقد أصبح مقبولاً, بصفة عامة, أن أبو قراط ينحدر من سلالة العلاج, وتذكري أن أساليب أبو قراط كانت جديدة وثورية الى حد أن اليونانيين القدامى اعتقدوا آلياً, بوجود قوى خارقة للطبيعة فيه". -" أجل أظن ذلك, وما لا يمكن تصديقه تماماً لأن أفكاره التي ابتدعها منذ أكثر من ألفي عام لا تزال مقبولة اليوم". وهز رأسه وهو يقول: -" الهواء النقي والطعام البسيط , التمرينات الصحية والتمتع بقدر كاف من الراحة, أنت محقة تماماً، فأن أساليبه تتفق وما نسمعه في القرن العشرين". وسادهما الصمت وكل منهما يفكر في حياة الرجل الموقر الذي منح الطب المثالي للعالم, بذكائه ومهارته البديهية , أحد مكتشفي الحقيقة الأساسية, أكثر المبادىء الذي يقول أن في داخل الجسم الآدمي يوجد طبيب طبيعي منهمك في مهمة الوقاية , كان أبو قراط دائماً واعياً لحقيقة أن نجاح الطبيب يعتمد على مساعدة هذه الوقاية التي ترجع للطبيعة. -" كان أول رجل يتغلب على أعمال السحر والشعوذة". غمغمت شاني بأفكارها بصوت عال, لكن أندرياس بدا كأنه لم يسمعها والتزم الصمت ثانية, وهو يفكر في توسع المستشفى , وكيف سافر المرضى من جميع أنحاء العالم القديم للعلاج في هذه البقعة المنعزلة التي يسودها السلام, وقد درس أبو قراط نفسه في معبد أسكاليبوس وأصبح فيما بعد طبيباً متجولاً, وزاد من معلوماته ومهارته العلمية قبل أن يعود الى مسقط رأسه في جزيرة كوز. وهناك بنى معبداً هائلاً للطب, وسرعان ما عرف مستشفاه بوصف أول كلية طبية حيث يمكن للطلبة دراسة الطب بطريقة عملية, وتحت اشرافه أصبح معبد أسكاليبوس معبدا للفن, بالأضافة الى كونه مكاناً للعلاج والعبادة, وكانت نظرية الطبيب العظيم أن توازن العالم الداخلي للأنسان شيء أساسي لصحته . وهكذا بتوجيهات أبو قراط ابتكرت فنون خلاقة زادت الجمال الطبيعي للمكان , وصارت منسجمة معه تماماً , فانتثرت على الأرش تماثيل البرونز والمرمر, أجملها وأعظمها تمثالا أسكاليبوس وأبوللو ثم أفروديت (2) الجميلة ومن خلال تعاليمه ونظرياته الثورية وضع أبو قراط أسس التفكير العلمي الذي أثر على رجال الطب في جميع أنحاء العالم طوال ألفين وخمسمائة عام. وأخيراً جاء رد أندرياس على ملحوظة زوجته: -" كان رجلاً رائعاً بالتأكيد , حتى يمينه بقي , وأصبح كل خريج طب يقسم به". يمين أبو قراط... رددت شاني , بعض عباراته: النظام الذي سأتبعه سيكون لصالح مرضاي طبقاً لقدراتي وأحكامي , وليس لأذاهم أو الأضرار بهم , ولن ألحق اطلاقاً الأذى بأي شخص و ولن أصف أي دواء ضار ربما يتسبب في الوفاة حتى لو طلب مني ذلك, وسأحافظ على نقاء حياتي وفني , وألقت شاني نظرة على زوجها الذي ضاقت عيناه في مواجهة وهج الضوء وهو يلتقط ما تبقى من معبد أسكاليبوس الشهير, كم هو طويل ومستقيم , نظيف وتبدو عليه بوادر الصحة ذهنياً وجسدياً. أيمكن لرجل مثله أن ينغمس في علاقة حب؟ هل كانت ليديا حقاً من أولئك الأصدقاء الذين يمكن أن يرتبط بهم كما يعتقد بعض أفراد هيئة المستشفى في لوتراس؟ ساور شاني الشك في هذا , الآن... سأحافظ على نقاء حياتي ! قد يكون يونانياً ومفطورا على حب الطبيعة, لكن شاني . اذ كانت تراقبه وهو مستغرق ذهنياً في استعادة المنظر القديم , لم تستطع أن تصدق أنه من الممكن أن ينسى اليمين لحظة واحدة على الأطلاق. وأفلت يدها وهو يومىء قائلاً: -" أنظري فقط الى هذه الدرجات ... أنها من المرمر الأسود". -" أنها جميلة , لا بد أنهم نقلوا المرمر من مسافة بعيدة". هز أندرياس رأسه , وأخبرها بأن صخور سلسلة الجبال في الجزيرة تحوي كميات من هذا المرمر الجذاب ثم أضاف: -"كان حظهم سعيداً لأن المرمر كان هاماً للغاية في أيام أقامة هذا النوع من البناء المعماري". والى جانب هذه الدرجات كانت هناك آثار رواق أمامي وعدة أعمدة, ولم يبق شيء من معبد أسكاليبوس الدوري (4) العجيب, وتحدث أندرياس في أسى عن الهزات الأرضية العديدة التي تتعرض لها الجزيرة. وتجولا بين الأطلال ... كانت مجرد بقايا عظمة زالت منذ أمد طويل , وشاهدا أساسات لما يمكن أن يكون بيوت الأطباء وشقق الممرضات , وسألت شاني عندما أتتها الفكرة: -" هل كان المرضى يضطرون لدفع نفقات علاجهم؟". -" لا, لكن في معبد أسكاليبوس كان هناك مذبح للشكر, وكان الناس يضعون النقود في الصندوق المخصص لذلك, وكانت الأموال موهوبة, لكنها بالطبع أنفقت في صيانة المستشفى". وعلى المسطح التالي معبد صغير أيوني الطراز, وآثار فيللا رومانية قديمة , وجزء من معبد كبير آخر , وتوقفت شاني لتحدق في المنظر الأخاذ المحيط بها, وسبقها أندرياس , وعندما استدار وجدها تقف هناك , تبدو صغيرة وفاتنة حيال الأعمدة المرمرية الكورنتية (5) البيضاء الشاهقة, ستة أعمدة أخرى تقف شامخة واضحة تحت سماء اليونان الصافية , بينما تبدو من بينها عن قرب أشجار السرو الرشيقة الساكنة وسط هدوء الجو المعطر بأريج الأزهار. -" قفي دون حرك". قال أندرياس ذلك وهو يمسك بآلة التصوير ويلتقط لها صورة, ثم أذن لها بانتسامة , بأن تتحرك وتتقدم نحوه , وأغلق علبة آلة التصوير بعناية بدت غير ضرورية , ولسبب غامض غص حلق شاني , وحاولت قراءة أفكاره لكن وجهه كان يعلوه الجمود المعتاد اياه, واختفت عيناه تحت نظارتين سوداوين. وعلى المسطح المنخفض , حيث وصلا بعد نزول السلم الواسع , كانت نافورة الشفاء... لا تزال تندفع مياهها كما كانت أيام أبو قراط, وبما أن كليهما شعر بالعطش والحر في ذلك الوقت أخذا يشربان مياهها المتلألئة , وجفف أندرياس يديها ثم يديه , وفجأة شعرت بأنها قريبة منه الى درجة لم تكن تصدق اطلاقاً أنها ستحدث وقال: -" أخبريني عندما تشعرين بالتعب يا شاني, هلا فعلت؟". وكانا يقفان عند قاعدة بعض الدرجات القديمة الضعيفة , حيث توقفا غير متأكدين اذا كان ارتقاؤهما مسموحاً أم لا , كانت على مقربة من المباني الرئيسية , ويبدو أنها تؤدي فقط الى مكان مغلق, وأضاف: -" يمكنني أن أمضي لكن أنت, لا أريدك أن تتعبي". لمحة اهتمام في صوته لا يمكن أن يخطئها أحد, ورقة في عينيه وهو ينظر اليها في قلق, وهزت رأسها وقد فاضت نفسها بالسعادة... سعادة جعلتها تتساءل عما سيكون عليه نتيجة هذه الأجازة, وردت بضحكة صغيرة مرحة. -" فضول الأنثى يجتاحني , وينبغي أن أرى ماذا هناك في قمة هذه الدرجات". واستجاب أندرياس لحالتها المعنوية وقال موافقاً: -" أذن هيا بنا, ولو تجاوزنا الحدود وأمسكوا بنا فعلينا فقط أن نعترف بالجهل ونعتذر بتهذيب". وعندما وصلا الى قمة الدرجات قابلت نظرهما أرض خلاء تكثر فيها الشجرت, وخزنت فيها أكوام المباني المهدومة التي أخرجت من جميع أنحاء المناطق المحيطة بهذا المكان الأثري الرائع, السكون مطبق على المكان , وبينما كانا يخطوان بين قواعد الأعمدة والتماثيل المهدمة شعرت شاني بأنها أصبحت جزءاً من ذلك الفقر الكئيب الغريب , وهمست وهي تقترب بلا وعي الى جانبه: -" أنه ... مكان مروع... هل تشعر بهذا؟". وقال موافقاً وهو يلف ذراعه حول كتفيها: -" انه مكان موحش فعلاً, لكن ليس هناك ما يدعو الى الخوف, ان النباتات التي تنمو أعلاه تحجب الضوء وهذا هو كل ما في الأمر". وقالت وهي تتلفت حولها: -"قد يكون مقبرة؟ أعتقد أن بعض المرضى دفنوا هنا". -" ليس في المناطق المقدسة , لم يكن يسمح بأن يلقى أحد حتفه هنا". وحملقت مذهولة وهي تقول: -" لا بد أن تكون حدثت وفيات , حتى أبو قراط العظيم لم يكن في وسعه أن يشفي جميع الحالات". -" عندما كان يكتشف أن مريضاً مصاباً بمرض لا شفاء منه, كان أقاربه أو أقاربها يستدعون ويطلبون منهم أخذ المريض ". -" كانت هذه قسوة, أليس كذلك؟". -" حسب طريقة تفكيرنا نعم, لكن تذكري أن الأسكالبيون كان مكاناً مقدساً , ولم يكن يسمح بأن يلقى أحد حتفه داخل نطاق أي مكان مقدس". وظهر مبنى حديث الى حد ما من خلال أغصان الشجر, واتجها بخطواتهما نحوه, وكان الباب مفتوحاً على مصراعيه, ولهثت شاني قليلاً وهي تلقي نظرة حولها وقالت: -"ما هذه؟ انظر لوحات عجيبة, وجميعها مغطاة بالكتابة, لا بد أن عددها يتجاوز المئات". وكان هذا صحيحاً تماماً , فكانت جميع الجدران مغطاة بهذه اللوحات الى جانب أعداد أخرى مكدسة على الأرض , وكان معظمها من المرمر الأبيض, والكتابة واضحة عليها مثل ضوء النهار, حفرت في الحجر. وردد أندرياس: -" مدهشة! , لا بد أنها دفنت أثناء احدى الزلازل المبكرة, لأنها لم تتعرض للتآكل من أثر العوامل الجوية". -" ماذا تقول الكتابات؟". وبينما كان أندرياس يقرأ الكتابة اليونانية القديمة, كان يهز رأسه بين الحين والآخر ثم قال بايماءة أندهاش وهو يدق على احدى اللوحات: -" هذه رسائل شكر الى الأطباء والممرضات". وحدقت غير مصدقة: -"تماماً كما يحدث الآن, كثيراً ما أتلقى خطابات شكر, وأعتقد أنك تتلقى أيضاً". وأومأ بالأيجاب ثم قال: -" أن صنعها جميل للغاية, انظري الى هذه, وكيف نقشت الكتابة على أطرافها". -" ماذا تقول؟". -" أنها موجهة الى طبيب لشكره على العلاج الناجح وتقول(لأنك خففت عني المرض الذي عانيت منه سنوات)".يمضي الكاتب ليخبر الطبيب بأن قرباناً وضع على المذبح في عصر أسكاليبوس. وتفحص عدداً من اللوحات الأخرى وهي مندهشة قبل أن تقول في صوت ضعيف تشوبه الرهبة. -" تصور أننا نقرأ هذه الرسالة بعد ألفين وخمسمائة عام...". وتوقفت عن الكلام متجهمة ثم قالت: -" هذا يجعلك تدرك يا أندرياس , الى أي مدى حياة الأنسان قصيرة". وكان عند الطرف الآخر من القاعة , يطوف بعينيه حول لوحة نفذت بشكل جميل بصفة خاصة, لكن عند سماعه كلماتها استدار وعاد اليها, ووضع يدين رقيقتين على كتفيها ونظر بعمق في عينيها ثم قال: -" الحياة قصير يا عزيزتي, ولذلك فهي ثمينة للغاية , ويجب علينا ألا نضيع لحظة منها". كلمات وقورة قالها برقة بالغة, ولمسة رقيقة على ذراعيها , أثارت داخلها عاطفة لم تعرفها من قبل على الأطلاق, وفي ومضة ذكرى مرت أمام عينيها تلك السنوات الخمس, التي مرت منذ زواجها, خمس سنوات كان من الممكن أن تقضيها كزوجة لهذا الرجل الذي أثرت فيها حكمته ورقته بقوة الى حد أن القسوة التي أبداها نحوها بدأت تخبو , ولم يعد لها أهمية , وابتسم وهو يربت على خدها بمرح ويقول بخفة: -" كم نحن جادان , دعينا نوجه اهتمامنا الى الأشياء الطيبة في الحياة , هل أنت جائعة؟". -" أكاد أموت جوعاً". قالت ذلك وهي تضحك, وبحركة لا واعية تماماً دفعت ذراعها في ذراعه وهبطا معا درجات السلم واتجها نحو البوابة المؤدية الى الطريق عائدين الى المدينة.
---------------------------
5- عود على بدء
وكانا ينويان تناول الغداء في كوز, عاصمة الجزيرة, لكن موسيقى البوزوكي المفعمة بالحياة , انسابت اليهما من مقهى في طريقهما الى المدينة وجذبتهما اليها, وكان هناك رجلان يرقصان رقصة سوسكا , وتساءل أندرياس: - ما رأيك ؟ اللون المحلي أم الفندق الضخم؟". -" اللون المحلي". ودخلا, وسارا بجانب الراقصين, واختارا سمكتين كبيرتين حمراوين من سمك البريوني من بين المجموعة المختلفة من الأسماك الطازجة المعروضة تحت زجاج المنضدة الطويلة. وأخيراً جاءتهما الوجبة, حيث جلسا أمام مائدة تحت ظلال أشجار العنب, وشربا الزتزينا وهما يتناولان الطعام, وبعد ذلك تناولا القهوة التركية, وكان الآخرون يحملقون فيهما ويتحدثون عنهما, وقدمت رقصة أخرى خصيصاً لهما, حيث كان الرجل يردد أغنية حزينة , وهو يقع على الأرض ثم ينهض ثانية عدة مرات في حركات تدل على اليأس, لكنها رشيقة. وسألت شاني: -" ماذا يفعل؟". -" انه من كاليمونس , وهي جزيرة أخرى ليست بعيدة عن كوز, حيث يشتغل معظم الرجال بصيد الأسفنج وهي عملية خطيرة للغاية, وهذه الرقصة ترجع جذورها الى الحياة القائمة هناك, الأغنية حزينة جداً وتعبر عن أسى الرجل من عجزه عن آداء الرقصة التي كان في وقت من الأوقات , يستمد منها أقصى درجات النشوة". -" وهل الحركات تعبر عن الغطاس المشلول وهو يحاول أن يرقص كما كان يفعل من قبل؟". وأومأ أندرياس وهو يقول: -" أنه يظل يقع على الأرض , لكنه يصر على مواصلة الرقصة التي أحبها ذات مرة وكان يؤديها برشاقة". وانتهت الرقصة وسط تصفيق مدو, وبينما كان الراقص يهم بالجلوس أشار اليه أندرياس , ودعاه للأنضمام اليهما وقال له: -" الواضح أنك من كوليمونس , كيف جئت الى كوز؟". -" تزوجت فتاة من كوز , ولذلك أقيم هنا". -" هل كنت صائد اسفنج؟". وأمأ الشاب ثم قال: -" بدأته وأنا في السابعة عشرة, وظللت ست سنوات أقوم بهذا العمل, كنت سعيداً عندما وجدت هذه الفتاة التي تمتلك بيتاً وأرضاً واسعة ورثتها عن أبيها". وسألت شاني بلهفة: -" حدثني عن صيد الأسفنج , كان زوجي يشرح رقصتك لي...", وتوقفت عن الكلام وهي مندهشة من الطريقة الطبيعية التي أنزلقت بها كلمة ( زوجي) واحمرت وجنتاها وتعمدت تجنب نظرة أندرياس لكنها أدركت تلقائياً أن عينيه مركزتان عليها. وشرح الشاب كيف كانت السفن تخرج من الميناء في كاليمنوس في شهر ابريل (نيسان) من كل عام , وتبحر نحو ساحل أفريقيا الشمالي حيث يوجد اسفنج من نوع ممتاز بصفة خاصة وأضاف: -" جميع السفن تبحر معاً وهو منظر رائع, لكن المرء يلوح بيده مودعاً أقاربه وهو يعلم أنه لن يراهم لمدة خمسة أشهر , وأن بعضهم يعود مشوها , وأن البعض الآخر قد لن يعود على الأطلاق". ومضى يصف الأحتفال الذي يقام في الميناء قبل ابحار الأسطول وأضاف: -" الأحتفال الذي يقام في موسم الفصح يكون حزيناً كئيباً , لكن ذلك الذي يقام في سبتمر ( أيلول) يكون أكثر مرحاً وابتهاجاً , في موسم العودة". وقالت شاني وقد تسللت الى صوتها لهجة سخط: -" وأعتقد أنكم لا تحصلون على أجر مناسب لهذا العمل؟". -" أجل نفعل, أننا نحصل على أجور عالية جداً تدفع لنا مقدماً، لأنه يجب أن نترك لأسرنا ما يكفيها". وأومأ أندرياس وهو مستغرق في التفكير: -" أيدفع قبطان السفينة هذه الأموال لكم؟". -" هذا صحيح , وهو يحصل على قرض من الحكومة". -" وعند عودتكم يتم بيع الأسفنج للتجار على ما أعتقد؟". -" أجل , يباع بالوزن, لكن يجب أن يجف أولاً". وتعجبت شاني لماذا لم تفكر من قبل في الأسفنج الذي تستخدمه في حمامها ولذلك سألت: -" هل يتحرك الأسفنج في جميع أنحاء البحر؟". -" لا, أنه يتشبث بالصخور, ولا بد من شده, وفي بعض الأحيان يكون التيار قوياً, ولذلك فان عملية جذبه من الصخور تكون شاقة جداً, كذلك فان المرء لا يكون لديه متسع كبير من الوقت اذا كان يعتمد على تنفسه الطبيعي". ونظر الى شاني قائلاً: -" أتعرفين ماذا يفعلون توفيراً للوقت وللنزول الى القاع بسرعة؟". وهزت رأسها فأضاف: -" أنهم يتمسكون بصخرة ضخمة تؤدي بهم الى القاع بسرعة كبيرة". وارتجفت , وهي مقتنعة بأنها في كل مرة تشتري فيها اسفنجة ستفكر في الأخطار التي يواجهها هؤلاء الرجال الشجعان في كاليمنوس. وقالت بعد فترة وجيزة وهما يغادران المقهى: -" ألم يكن مثيراً؟ أنني سعيدة للغاية لأنا قابلناه". -" وأنا أيضا". تطلعت شاني وهي تنظر الى أندرياس بصفته زوجها فقط, كان فتياً ومرحاً معظم الوقت, ليس على الأطلاق كالرئيس القاسي نافذ الصبر يصدر الأوامر اليها في غرفة العمليات, لكن كم هو مختلف في جميع النواحي, أنه الآن في اجازة, بعيداً عن هموم عمله وقلقه, وطوال سنوات الأنفصال تلك- كلما مرت صورته مثل حلم سريع عبر ذاكرتها كانت لا تشعر نحوه الا بالأشمئزاز , اذ كانت ترى غريباً أسمر في غرفتها , لا يتأثر بتوسلاتها الصبيانية , لكنه الآن يتصرف بطريقة مختلفة تماماً , وقطعت أفكارها عندما وصلا الى مدينة كوز. واستأجرا الدراجات كل يوم تقريباً بعد ذلك, وركبا الى عديد من القرى في أنحاء الجزيرة , لكنهما بقيا في العاصمة يومين كاملين وهما يرتادان الأماكن الأثرية. -" لم أر مثل هذا العدد الكبير في منطقة صغيرة كهذه!". هتفت شاني بذلك ذات يوم وهما يركبان دراجتيهما في طريقهما الى الملعب( الجمنيزيوم ) القديم, وكان الطريق الى هناك طويلاً تحف به على الجانبين شجيرات الدفلى , وقد امتلأت الحدائق بالأزهار تحمل عطرها الزكي نسمة باردة خفيفة تهب من ناحية البحر. وترجلا وأسندا دراجتيهما الى شجرة وسارا نحو المكان. -" من أين هذا العدد الكبير من الأماكن الأثرية؟ انها منتشرة في جميع أنحاء المدينة". -" تذكري أن آخر هزة أرضية وقعت عام 1933, ورغم أنها كانت مدمرة أدت الى كشف عدد هائل من الكنوز الأثرية التي كانت المباني قد قامت فوقها عبر العصور, وتفادوا في المدينة الجديدة اقامة المباني في هذه الأماكن كي يخرج علماء الآثار كل هذه الأشياء العجيبة التي نراها الآن". وأخيرا وصلا الى المدرج حيث جلسا يستريحان تحت أشعة الشمس الدافئة ويأكلان ثمار الرمان التي التقطها أندرياس من شجرة فوق رأسيهما. وفي اليوم الثالث من التجول للأستكشاف ابتعدا عن المدينة وهما يبحثان عن مكان خاص لتناول الطعام أوصاهما به موظف الأستقبال في الفندق, وفجأة قفزت شاني من فوق دراجتها وهتفت: -" مزيد من الآثار القديمة! وهنا في البراري! كان هذا صحيحاً , وامتدت أمامهما أميال لهما وحدهما, كانت الأعمدة المنهارة مغطاة بالنباتات الى حد كبير , وكانت هناك رؤوس ثلاثة تماثيل لأسود من المرمر. انحنت شاني وبدأت تنبش عن جذور الحشائش الخشنة وغيرها من الأعشاب البرية, أخيرا توسلت اليه وهي تشعر بالأثارة : -" ساعدني ... هناك شيء صلب هنا". -" أتدركين أنك تخرقين القانون؟". حذرها بذلك لكنه أذعن لطلبها. وكانت شاني منهمكة تماماً في مهمتها , وأزالا بعناية جذور النباتات ثم أزاحا التربة, وهنا شهقت شاني شهقة قصيرة وقالت: -" قطعة جميلة من الفيسفاء , أندرياس ينبغي أن نخبر أحداً". وابتسم وهو يقول: -" السلطات تعرف أن هذه هنا..." -" كيف يمكنها ذلك؟ عثرنا عليها للتو". " لكن بعدما عثر عليها شخص آخر , ثقي بذلك". -" لكن هذه النباتات ؟ الفسيفساء . كانت مدفونة تماماً حتى الآن". -" أعتقد أنه لا شك أن هذا المكان تم مسحه , أنظري الى الأعمدة . أننا لسنا الوحيدين اللذن لاحظناها". ورمقها بنظرة ابتهاج ونهض وهو ينفض التراب عن يديه ثم قال: -" لا يا شاني, اننا نتوصل الى اكتشاف عجيب, فالمكان بانتظار التنقيب فيه , وفي الوقت نفسه يرجى من السياح الفضوليين ألا يباشروا هم التنقيب". وقطع كلامه وهو يضحك من تعبير الأكتئاب الذي بدا عليها ثم قال: -" أو أزالة النباتات , فمن الواضح أنها تركت تنمو فوق المكان , هيا بنا ينبغي أن نغطية مرة أخرى". واعتراها الأحباط تماماً, وأشاحت ببصرها تحدق في الصورة الرائعة للطيور والأزهار , وقالت بابتهاج: -" أنها جزيرة رائعة". وبعد ذلك بأسبوع صاحت هذه الصيحة نفسها اذ كانا وحدهما في حديقة الفندق يتجولان تحت سماء ساحرة والهواء حولهما كله معطر بشذى الأزهار يهب رقيقاً دافئاً, وفجأة شعرت شاني بنفسها تنجذب نحو زوجها وسمعت همسته الرقيقة المقنعة في أذنها: -" انه مكان رائع يا عزيزتي شاني, مكان رائع لقضاء شهر العسل". وفي الحال تصلبت وابتعدت عنه وهي تشعر بالأضطراب , فقال بهدوء: -" أنني آسف". ثم أضاف عندما لاحظ ما اعتراها : -" قلت أنه لن يعكر صفو هذه الأجازة شيء وأنا أعني ذلك". ثم أخذ يدها في يده وسارا في صمت عائدين الى الفندق. -" أندرياس ... لا أستطيع أن..." لكنه قاطعها قائلاً: -" قلت لا تقلقي, لم يبق لنا الا أربعة أيام فقط, فلنسعد بها". وابتسم لها بدون بادرة غضب في عينيه ثم أضاف: -" ألم أقل منذ البداية أنها ستكون فترة تظل ذكراها معنا؟". وأشارت بالأيجاب ولما لم يتغير تعبيرها نظر اليها بصرامة وأمرها بأن تبتسم , فأطاعت , ومنذ ذلك اليوم أصبح مرحه مجرد مظهر خداع , وسرعان ما أحست شاني بهذا, اذ بدا وكأنه يحمل في أعماقه ثقلاً من الأسى, كان مثل رجل ناضل بيأس ولكن بشرف, وخسر المعركة, وحاولت الأقتراب منه وفي مناسبتين حاولت أن تدير الحديث بطريقة تجعلها تعبر له عن شكها المتزايد, وعن أنها تشعر شعوراً مختلفاً اتجاه زواجها وينبغي أن يكون صبوراً معها, فيتيح لها فسحة قصيرة أخرى من الوقت لتعرفه, فقد كانت أولاً وقبل كل شيء في بداية معرفتها اياه خلال هذه الأجازة , لكنه كل مرة كان يغير مجرى الحديث , وأدركت أنه يفعل ذلك اعتقاداً منه بأنها تضايقت من أقتراحه بأن يجعلا أيامهما القليلة الأخيرة بمثابة شهر عسل لهما, وهكذا لم تكن قد قدمت اعترافها عندما عادا الى لوتراس , حيث استأنفا علاقتهما القديمة بعدما قضيا معا أسبوعين. وتحدث أندرياس مع زملائه عن اجازته , ومن ناحية أخرى كان المفروض أن شاني قضت هذه الأجازة مع أصدقاء لها في كراكاس , كما فعلت عدة مرات من قبل, لذلك اكتفى أصدقاؤها بالسؤال اذا استمتعت باجازتها , ولم تكن شاني تعرف حقيقة مشاعرها أزاء أندرياس ولكن كلماته الرصينة تلح على أعماق ذهنها " فكري في الأمر يا شاني لأن أمامنا طرقاً طويلة علينا أن نقطعها , ويمكن أن تكون هذه الطرق مفعمة بالوحدة"". لكنه لم يحبها, ولذلك رفضت أن تفكر في احتمال العيش معه, في أية حال كانت واثقة من شيء واحد أنها الآن لا تستطيع قبول فكرة زواجها من براين, وكلما أسرعت بابلاغه كلما كان ذلك أفضل... ستكون أمينة معه تماماً, وتمنت ألا يثور ثورة غضب حادة, لكن قلبها بدأ يخفق بطريقة غير عادية عندما اتصل بها براين تلفونياً فور عودته الى قاعدة ليماسول. -" عزيزتي لقد عدت! متى يمكنني أن أراك؟ هل تستطيعين؟". -" أ... أجل...". وشعرت بأنها مرتبكة ومضت تقول: -" أجل انني غير مرتبطة يا براين, لكن شيئاً ما حدث". وقاطعها بحدة: -"هل حدث؟ الغاء الزواج؟". فتح بنفسه أمامها مجالاً للحديث فاستغلته وقالت: -" أندرياس واثق أنه وحده يستطيع الغاء الزواج, لأنني رفضت أن أعيش معه, فمن المحتمل ألا أستعيد حريتي أبداً, وفي أية حال فأنني سأخبرك بالأمر عندما أراك". وبدا براين كأنه لم يفهم كلماتها الأخيرة حيث قال لنفسه: -" يمكنه وحده أن يلغي الزواج... ايه؟". سألها في لهجة حادة غاضبة: -" هل كنت تعرفين ذلك قبل أن أرحل؟". -" أجل". -" أذن، لماذا لم تخبريني؟". -" لم أكن أرغب في ازعاجك في ذلك الوقت, لكن الآن...". -" لكن قلت أنه استسلم!". ونفت بسرعة: -" لا ... قلت أنه يبدو مستسلماً الى حد ما... لكنني قلت أيضاً، أنه لا يريد أن يطلقني". وسألها بعد فترة: -"هل يعني هذا أن هناك احتمالاً للتأخير؟". -" قد لا يكون هناك الغاء للزواج, لكن...". وقاطعها بصيحة غاضبة ثم قال: -" اتركي هذا الأمر لي! حان الوقت لأتدخل في هذه المسألة , أنه لن يفلت منها!". وقالت بالحاح: -" براين... لا ... هناك أمور أخرى... براين..". صرخت ملحة لكنه أنهى المكالمة , وطلبته مرة أخرى لكنه لن يفعل شيئاً قبل أن يراها في نهاية الأسبوع ... الواقع أنه لم يكن يستطيع أن يفعل شيئاً رغم تهديده الذي قاله في ثقة.
------------------------
6- فخ من حرير
كان مستشفى مونيكومو يحتل ربوة عالية في جبال ترودوس بين قريتي يدهولاس وبروروموس, وبعد وصول أندرياس الى لوتراس ببضعة أسابيع استدعى لأجراء جراحة هناك, وكان عدد أفراد طاقم المستشفى ناقصاً في ذلك الوقت فرافقته شاني, وراعها مثل أندرياس تماماً نقص الأمكانات في المستشفى الواقع في منطقة يمكن أن تكثر حوادثها , فلم يكن الطريق الجبلي ضيقاً ووعراً فحسب , مع وجود انحناءات خطيرة يفصل بين الواحدة والأخرى مئات قليلة من الياردات , ولكن المنطقة كانت أيضاً مكاناً معروفاً باجتذاب عشاق التزلج في الشتاء, ولم يشر أندرياس مرة أخرى الى قلة المعدات ولذلك دهشت شاني عندما استدعاها أندرياس الى غرفته في صباح اليوم التالي لمكالمة براين الهاتفية , وقال انه اتصل بالطبيب الشاب المسؤول في مونيكو ووافق بسرور على اقتراح أندرياس بأن يذهبا معاً ويعدا قائمة بالمعدات الضرورية , ثم يطلب الطبيب استكمالها عندئذ, وكانت شاني وأندرياس تقابلا في غرفة العمليات مرة واحدة منذ الأجازة , وفي تلك المرة كان الجراح الفاتر الجامد, وبالأضافة الى ذلك كان يبدو متوتراً, واجتاح شاني شعور بالقلق لسبب غامض , لكنها استطاعت أن تسيطر عليه في النهاية لأن أندرياس حدد خططه في نبرات هادئة وقال: -"أنه يريدها أن تذهب معه الى ترودوس فهل لديها بعض الأقتراحات؟ وزاد هذا الطلب دهشتها , وفكرت في غرابة الأمر, فلماذا يشغل نفسه بمثل هذا المستشفى الصغير؟ وقال كما لو كان يقرأ أفكارها: -" يحتمل أن أستدعى لأجراء جراحات في مونيكلومو في المناسبات المقبلة لذلك سأذهب لمعرفة ما اذا كان يمكن تزويدها بالمعدات بصورة أفضل". -" متى تنوي الذهاب؟". وقال انه ذاهب بعد ظهر اليوم نفسه, وعند ذاك نظرت اليه في شك وقالت: -" لن يكون أمامنا فسحة طويلة من الوقت, الا اذا كنت تفكر في العودة بسيارتك في الظلام". -" القيادة لن تزعجن, وسنبدأ رحلتنا حوالى الثانية عشرة وسنتناول شيئاص من الطعام ونحن في الطريق" وتوقفا عند قرية ليفكا لتناول الغداء, حيث أكلا الكباب والسلطة وشربا القهوة التركية, وكانت ثمار التين تتدلى من شجرة بجوار المطعم , ولما رأى أندرياس نظرات شاني متجهة اليها سألها اذا كانت ترغب في بعضها. -" نعم". قالت ذلك وهي تشعر شعوراً غريباً بالأضطراب لأن هذا ليس أندرياس الذي عرفته أثناء الأجازة , وكان التغيير فيه كبيراً حتى أن الأيام التي قضياها في كوز بدت وكأنها لم تحدث على الأطلاق وأضافت: -" ربما لا يريدون أن نقطعها". -" هل سمعت أبداً عن قبرصي يتردد في قطف شيء اذا ما أراده زائا؟ انهم يشعرون بالفخر عندما يرغب المرء في شيء يمتلكونه". وكان هذا صحيحاً , ولم تقدم أي أعتراض آخر, وبعد دقائق قدمت اليها ثمار التين نظيفة في سلطانية من الزجاج, وأكلت شاني منها , وسأل أندرياس بعد فترة وجيزة وهو يلقي نظرة على ساعته: -"هل أنت مستعدة؟". -" أجل...". وبعد ميل ونصف ميلاً الى نهاية المطاف , وفتح أندرياس الباب , وخرجت من السيارة الى صمت مطبق, الى عالم من الصخور وقمم التلال الحادة المهجورة عدا المبنى الصغير حيث أقيم المستشفى, وقال أندرياس وهما يدخلان: -" يمكنك أن تتحدثي مع رئيسة الممرضات بينما نقوم نحن بجولتنا , واستقبلتهما الرئيسة وطبيب يوناني قبرصي شاب مبتسم , وأضاف أندرياس: -" سأرسل في طلبك لو احتجت اليك". وتطلعت شاني بسرعة , لكن وجهه كان جامداً ... ( لو احتجت اليك) ... أي شيء غريب يقوله , اذا كان لا يتوقع أن يحتاج اليها فلماذا جاء بها الى هنا؟". وفي النهاية أرسل بطلبها , لتعد بعض المذكرات , وكان هذا كل ما فعلته , بل ان هذه المهمة الصغيرة كان يمكن أن تقوم بها احدى ممرضات المستشفى, وفي أية حال لم تعلق شاني أية أهمية. أخيراً عندما خرجا من المستشفى وجدا نفسيهما وسط جو مخيف من الظلام والأشباح الغامضة, وظهرت الحدود السوداء لجبل أوليمب وسط السماء القرمزية الداكنة وحذرهما الطبيب قائلاً: -" أنها طريق خطرة في الظلام. اذا كنتما تفضلان البقاء فان هناك فندقاً قريباً". ورد أندرياس: -" لا , شكراً لك". وأطلق الطبيب ضحكة قصيرة وهو يقول: -" خذا راحتكما اذن, فقد أحصى صديق لي يوماً ما مائة وتسعة وخمسين منحنى على طول الطريق الى أسفل, انها طريق وعرة". وكانت المنحيات رفيعة , ذات منعطف حاد الى درجة أن السيارة بدت كأنها تسير على عجلتين فقط, وبعدما قطعا نحو خمسة عشر ميلاً، أدركت شاني فجأة ما يحيط بها اذ أنها كانت تائهة وسط أفكارها وقالت: -" هل تسلك طريقاً مختلفاً؟". ولم تكن هناك طريق أخرى, وفي مكان ما تحول أندرياس الى ما لم يكن يزيد عن مسار جبلي وعر , وأضافت: -" ضللت طريقك, هل أخرج وأعيدك الى الطريق؟". وكز بصره على الضوء المنبعث من مصباح السيارة الأمامي وهو يقول: -" انني أمتلك فيللا صغيرة هنا. أجل... انني أراهاوأريد أن أصل الى هناك". -" لم أكن أعرف أنك تمتلك فيللا". وكان كثيرون يمتلكون فيللات في منطقة ترودوس , وقد اعتادوا الذهاب لقضاء شهرين وسط الجبال أثناء الصيف بسبب ارتفاع درجة الحرارة وأضافت شاني: -" هل تمتلكها منذ فترة طويلة؟". -" منذ نحو ستة أسابيع, لكنني لم أستخدمها بعد اطلاقاً". وتكسر الحصى الخشن تحت عجلات السيارة حين دخلا الى أرض خلاء في الغابة العميقة, في أجمل بقاع وادي مارا باسا . كانت الطريق ضيقة حتى أن الأغصان المنخفضة للأشجار لامست السيارة. توقفت السيارة, وأخيراً استطاعت شاني أن ترى ظل الفيللا. -" أنها بقعة رائعة". ووقفت شاني بجانب السيارة, وهي تمعن النظر وتفكر أنه كان الأفضل لو أن أندرياس زار الفيللا وهما في طريق الذهاب لأن رحلة العودة ستستغرق بعض الوقت, ثم أضافت: -"هل هناك شيء مهم تنوي أن تفعله؟". لم يجبها, وفتح قفل الباب وبعد ثوان أصبحت الصالة والفناء غارقين في الضوء, وسارت شاني الى الأمام وهي تنظر حولها نظرة اعجاب ثم قالت: -"انها لطيفة جداً, ستجدها مفيدة في الصيف المقبل, والناس يستخدمون الفيللات أيضا في الشتاء فلدينا نادي التزحلق على الجليد هنا... لا شك أنك تعرفه". -" ستكون فكرة جيدة أن يأتي المرء الى هنا لممارسة رياضة الشتاء, لا بد أن أفكر فيها". وكان هناك صوت قرقعة حادة, واستدارت شاني اذ أغلق أندرياس الباب خلفه ثم أدار القفل, وأمام نظراتها المندهشة أسقط المفتاح في جيبه وهو يقول: -" طوفي بباقي البيت , أن غرفة الجلوس جذابة للغاية". ووقفت بلا حراك , توقف قلبها عن الخفقان , وبدا الظلام الذي تركاه وراءهما في الخارج كما لو كان يطبق عليها من كل جانب, ولا يسمح الا بالرؤية الذهنية للحظات الفزع التي انتابتها قبل أن تهرب من ذلك الأجنبي الأسمر الذي لم يكن هدفه الا امتلاكها... وتمتمت وقد جف حلقها: -" المفتاح ... ماذا تفعل؟". -" هربت مني مرة يا شاني...". واتجهت يده النحيلة السمراء بحركة آلية الى جيبه , ومن خلال قماش سترته الخفيف تحسس المفتاح ثم أضاف: -" لن يحدث هذا الليلة". وكان أسلوبه رقيقاً , وانحسر خوف شاني مؤقتاً, وحلت الدهشة محله لماذا يفعل هذا بها؟ وفي هذا الوقت بالذات؟ طوال الأجازة كان هناك مجرد اقتراح , أعقبه تسليمه على مضض لقرارها, ولم يكن في امكانه آنذاك أن يستخدم القوة كما يمكنه الآن! لكنه لم يظهر لا الغضب ولا الحقد ازاء مراوغتها لطلبه بأن يجعلا تلك الأيام الأخيرة القليلة في كوز بمثابة شهر عسل؟ اذن لماذا يخطط وبحساب لأخضاعها لقوته؟ وهمست: -" أندرياس ... انك لا تستطيع...". وزاغت عيناها بين الباب المغلق بالمفتاح والمصاريع المغلقة للنوافذ لماذا تضيع الكلمات ,وحاول أن يمسك بيدها وقال: -" لا أستطيع ... ما الذي لا أستطيع أن أفعله؟". ما زالت الرقة باقية في أسلوبه , وتجهمت ... لأن تصرفه ما زال يحيرها, وسألت نفسها مرة أخرى,لماذا اختار هذا الوقت بالذات؟ زيارة مونيكومو , لا بد أنه رتب ذلك في هذا الصباح فقط. ولغرض واحد هو أن تكون هنا ... الليلة. وبدأ اليأس والخوف يختلطان في احساسها بالمرارة , لكنها حاولت أن تحتفظ بتماسكها , وقالت: -"لا يمكنك أن ترغمني على شيء ! انني لست زوجتك ولن أكون اطلاقاً! وهكذا يجب أن تفتح الباب وتعيدني الى لوتراس!". واتسعت حدقتاه وقال: -" لست زوجتي؟ أذكر أنه أقيم لنا حفل زواج رائع". وتحركت لتشد مقبض الباب ... تصرف لا جدوى منه لكن لا يمكنها أن تقف هناك دون أن تفعل شيئاً , وقالت: -" دعني أخرج!". واكتفى أندرياس بمجرد النظر اليها بشيء من التفكير , واذ ابتعدت عن الباب , قال لها: -" هذا أقرب الى التعقل يا شاني". -" أنك غشاش! خدعتني من قبل, وفعلت ذلك مرة أخرى, جئت الى هنا في براءة تامة معتقدة أنك تزور الفيللا لسبب حيوي!". ورد بضحكة: -" وأي سبب حيوي أكثر لدي؟ ستكون هذه يا زوجتي الفاتنة , ليلة شهر العسل بالنسبة الينا , تأخرت كثيراً لكن قد تكون أكثر متعة لهذا السبب". -" أتعتقد أنه لن يكون هناك الغاء للزواج لو أبقيتني هنا لكن...". -" متأكد". وابتسم صوته بزمجرة ناعمة, وفاجأها هذا التغيير ثم أضاف: -"بعد هذه الليلة لن يكون هناك جلبة أخرى حول الغاء الزواج , ولا تهديدات أخرى". تهديدات ؟ أي نعومة نطق هذه الكلمة, لكن شفتيه كانتا قد ارتختا الى الخلف فكشفتا عن أسنانه... عم يتحدث؟ انها لم توجه أية تهديدات أبداً,لكن لا جدوى من المجادلة معه, وبدلاً من ذلك ذكرته بأن رئيسة الممرضات وباقي طاقم المستشفى في لوتراس سينظرون شرراً الى هذا الهروب , ورد بلهجة مهذبة رقيقة: -" واجهتنا مشكلة نفاذ الوقود , فاضطررنا الى المبيت في فندق". -" فكرت في كل شيء!". كان يقف بجوار المدفأة العالية المبنية من حجر, وامتلأ موقدها بكتل جذوع الأشجار , ثم مضى يقول, كمن يقرر أمراً واقعاً: -" يمكننا أن نتناول وجبة... هناك سيدة من يدهولاس تأتي لتهوية البيت وتنظيفه, اتصلت تلفونيا بالعمدة هذا الصباح وطلبت منه أن يعطيها تعليمات بأن تملأ الثلاجة طعاماً". -" لا أريد أن أتناول شيئاً!". -" لا تكوني حمقاء , بالطبع يجب أن تأكلي". -" هذا شيء لا يمكنك أن ترغمني على عمله , عندما أقول لن آكل فأنني لن أفعل!". وتجمعت دموع الغضب في عينيها. وانحنى , وأشعل عود ثقاب في المدفأة , ثم اختفى داخل المطبخ, وتحركت شاني نحو النافذة , لكنها لم تحاول الهرب, اذ كانت شاني واثقة أن زوجها سيسمع أي صوت يصدر من غرفة الجلوس , وبدأ رأسها ينبض , وأرخت يديها , أن قرارها فيما يتعلق ببراين كان ملكاً لها وحدها أما مسألة الغاء الزواج فقد تقررت الآن ... كانت زوجة أندرياس , وينبغي أن تبقى على هذه الحالة بقية حياتها , ووصل الى مسامعها صوت زوجها: " شاني ... تعالي ساعديني, ليست لدي أية فكرة عن كيفية اعداد هذه الشرائح من اللحم". تحركت بطريقة آلية , ودخلت المطبخ , كانت في شبه غيبوبة , فهي كارهة زوجها , ومع ذلك واعية تماماً لأعترافها الأخير, بأن أندرياس يقتحم ذهنها باستمرار وأن هذا يثير القلق. وغمغمت وهي تلتقط طبق اللحم: -" أنه مجمد". " سنضطر الى الأنتظار حتى يذوب الثلج, أعتقد أن لدينا وقتاً كبيراً , لكن ألا يمكن وضعه في الفرن كما هو؟". -" أجل , سيمكن طهوه في النهاية". ورفعت عينيها في عينيه فلم تجد فيهما الا الرقة. -" تعالي اذن , وأعدي البصل والخضار". وفجأة ومضت عيناها: -" قلت أنني لست جائعة". -" ستشعرين بالجوع عندما تشمين رائحة الطعام, اليك الجزر , والآن دعيني أرى... نعم طلبت من أجني أن تحضر لي قرنبيطة , لا بد أنها في مكان ما". وردت بسخرية: -" أنت ماهر للغاية!". -" لا بد أن يتغذى المرء يا عزيزتي". وضحكت عيناه في عينيها , وأدار ظهرها اليه, لكنها أعدت الخضار , وسرعان ما كانت الكسرولة في الفرن, ووقفت بجوار الموقد, وهي مندهشة من طاعتها, ومع ذلك هل من الصواب أثارة غضب زوجها؟ لا بد أن تتحمل المحنة . لماذا تغضب أندرياس وتجر على نفسها المتاعب؟. وهكذا تناولت الوجبة, رغم أنها كانت تغص بالطعام أحياناً, وبعدما رفعت الأطباق وغسلتها أخذها أندرياس بين ذراعيه بلا مقاومة من جانبها , وقال بعد فترة: -" لم أكن اطلاقاً أنوي أن يكون الأمر بهذه الصورة يا عزيزتي , بحثت عنك والأمل يراودني أنني عندما أجدك أستطيع اقناعك بالمجيء الي برغبتك, لكنك طلبت منحك حريتك على الفور حتى يمكنك الزواج من شخص آخر, وفي أثناء هذه الأجازة ؟ كنت آمل...". وتوقف عن الكلام , وأبعدها عنه ونظر في حزن الى عينيها لكنه لم يكمل كلامه, ما الذي كان يوشك أن يضيفه؟ ووسط وميض من الذكرى سمعته يقول: -" وعندما تنتهي هذه الأجازة اذا كنت لا تزالين تريدين الغاء الزواج...". أذا ؟ اذن كان الأمل يراوده في ألا تصبح – عندما تنتهي الأجازة – راغبة في الحصول على حريتها , يا له من رجل غريب ! لو لم تكن واثقة أن هدفه الوحيد هو امتلاكها لأعتقدت أنه يهتم بها ... ونظرت اليه باحتقار وقالت: -" كنت تأمل في الواقع, أن أستسلم طائعة؟ وهذا ما لن تحققه أبداً , أرغمتني على الزواج بتهديد بغيض, وبخدعة حققت رغبتك , لكنني لن أكون لك اطلاقاً". ومن الغريب أنه رد على ذلك بلهجة هادئة رقيقة: -" ستكونين ل يا شاني ... في هذ ه الليلة الوحيدة ستكونين ملكي تماماً , أعرف بانك ستكرهينني , لكنني لن أدعك تحصلين على ذلك الألغاء". -" أذن فأنت تعترف أخيراً، بأنني أستطيع أن أحصل عليه , قلت أنك وحدك فقط من تستطيع الغاؤه , بينما كنت تعلم طوال الوقت أنه ليس علي الا أن أسرد ملابسات الزواج فأحصل على حكم بالغائه". -" لم أعترف بشيء من هذا, ما زلت أرى أنني وحدي الذي أستطيع الغاء الزواج وأنت تعرفين ذلك جيداً... لقد ناقشت الأمر مع...". وقطع كلامه وهو يصر على أسنانه ثم أضاف: -" لم كل هذا الكلام؟ كما قلت بعد الليلة لن يكون هناك مجال للتساؤل حول فصم زواجنا". كانت في الحديقة في الخارج عندما أتى أندرياس من المنزل, وكان هواء الجبال منعشاً ونقياً اكتسب الدفء من مروره عبر الوادي وامتلأ برائحة الصنوبر, ولمست معصمها بأصابعها بلا وعي, ثم تجهمت , ولسبب غامض قررت أن ترتدي سوارها , هدية أندرياس لها بمناسبة الزواج, وكانت فوق طاولة الزينة وينبغي لها أن تستعيده , وحلق طائر عبر الوادي وأخذت تراقبه , وقد امتلأ عقلها طبيعياً بالأحداث المثيرة الأخيرة. قال لها زوجها بنبرة تتسم بالحزن( مجرد ليلة واحدة وتصبحين ملكي تماماً) وتوقعت أن تكتشف حقيقة كلماته الأخيرة تلك, لكن هل تكرهه؟ واضطربت عندما تذكرت مرة أخرى شكوكها وحيرتها حينما تقتحم صورة زوجها عقلها. وتقدم نحوها واستدارت وهي تتعجب لأنه يبدو كما هو, وجهه قاس عنيد , عيناه باردتان وحادتان كالصلب, كيف تبدو هي نفسها؟ مشطت شعرها حتى دون القاء نظرة على المرآة , انها تدرك أن وجهها تشوبه حمرة الخجل , وعينيها تلمعان بادراك جديد , وشعرت أيضاً أن القلب الذي كان ينبغي له أن يكون بارداً بسبب الكراهية أخذ يخفق بسرعة بالغة, ونظر اليها زوجها لحظة, فلاحظ احمرار وجهها وحركة يديها بشكل عصبي , لكنه لم يعلق بشيء على هذه الأشياء حينما قال بنبرة عتاب فاترة: -" توقعت أن يكون افطاري معداً فوق المائدة عندما خرجت من الحمام, وبدلاً من ذلك أجدك واقفة في الشرفة هنا .... تحلمين". -" سأحضر لك شيئاً ... هل تريد افطاراً مطهواً؟ رأيت بعض اللحومات والبيض في الثلاجة". -" مجرد قهوة وخبز مقدد ... مع قليل من المربى... وتناولي أنت ما تشائين". وابتعدت مندهشة أنه يمكن أن يكون موضوعياً ومتباعداً هكذا , في لهجته يتصرف كأنها لم تكن بالنسبة اليه أكثر من مجرد شخص تعرف عليه بالمصادفة. وتناولا الوجبة في الشرفة, لم يتفوه أي منهما بكلمة واحدة وتساءلت شاني عما يفكر به . هل تخبره بحيرتها؟ هل تعترف بأن الكراهية التي كانت لتشعر بها ازاءه بدأت تتبدد في بطء , وكانت تختفي الآن ؟ كيف يمكنها أن تفعل ذلك وهي تعلم أنه لا يحبها؟ ومع ذلك , وهما في طريق العودة الى المستشفى حاولت أن تفتح الحديث وتخبره بمشاعرها , ولكنه كان يرد بكلمات متقطعة , وأخيرا لزمت الصمت , وهي تعتقد أنها ستجد فيما بعد أخرى أكثر ملائمة. وعند وصولهما الى لوتراس أبلغوه على الفور بأنه مطلوب لمستشفى نيقوسيا, وشرح للرئيسة كيف نفذ البنزين من السيارة وأصبحا منعزلين وسط الجبل, وكانت المعلومة الوحيدة التي قالها: -" واضطررنا للمبيت في فندق". وفي اللحظة التالية مضى, وعلمت شاني فيما بعد أنه سافر من نيقوسيا الى أثينا حيث سيبقى أسبوعين أو ثلاثة, ليكمل ما بقي من اجازته. في مساء اليوم التالي حاولت شاني أن تطلب براين تلفونياً لكنه كان في نوبة عمل, وحاولت مرة أخرى مساء الخميس , بالنتيجة نفسها وتساءلت , هل سيأتي في نهاية الأسبوع؟ راودها الأمل بذلك فكلما أسرعت باعترافها كلما كان ذلك أفضل, كان ضميرها ما زال يوخزها قليل , بدأت حرارة عواطفها تفتر منذ قسوة براين ازاءها عندما أخبرته بزواجها, وتحولت أفكارها تلقائياً الى أندرياس , والى رد فعلها المثير للدهشة لأنتصاره المخطط عليها , كان ينبغي أن تكون الكراهية وعدم الصفح هما العاطفتان اللتان تجتاحانها , لكن عوضاً عن هذا وجدت نفسها تقع في حيرة جديدة, اذ برغم أن أندرياس لم يحبها أثبت أنه محب رقيق , وأدهشتها رقته تماماً وأخضعتها وفكرت, انه بالتأكيد لم يكن بامكانه أن يحظى بها عن طريق معاشرتها فقط؟ ليس هذا أساساً يقوم عليه زواج دائم, أذهلتها أفكارها , وحاولت أن تنسى تلك الليلة, وتبعد عن نفسها أية فكرة للحياة مع ذلك الأجنبي الأسمرالذي لا يعدو حتى الآن أن يكون غريباً, وهزت رأسها , كيف يمكن أن يكون غريباً عنها وهو زوجها بكل معنى الكلمة؟. وأتى براين مساء الجمعة , واتصل بها هاتفياً من نيقوسيا قائلاً أنه سيقابلها بالمقهى الذي يفضله كلاهما, وشعرت شاني , وهي تقترب من منضدة اختارتها خارج المقهى , أن الجو الخيالي الذي يسيطر عليه, لا يجعله المكان الملائم للأفصاح عن أنبائها , وسرعان ما تقدم براين نحو موقف السيارات وبرغم أن شاني شعرت باضطراب من جو الأنتصار والخيلاء الذي بدا عليه وهو يقترب من المنضدة, لم تكن مستعدة تماماً للمعلومات التي كانت ستسمعها على الفور. ولم يضيع وقتاً, لكنه جلس على كرسي أمامها وبادرها بقوله في نبرات رنانة: -" حسمت الأمر معه! ألم يذكر مانو شيئاً لك عن مكالمتي التلفونية؟". ومدت شاني يداً مرتعشة الى خدها وسألت: -" مكالمة هاتفية؟ هل اتصلت بأندرياس؟ بشأن ماذا؟". -" الغاء الزواج! استشرت محامياً وقال أنه صحيح أن زوجك هو الطرف المتضرر , أو سيعتبر كذلك. ولذلك قررت أن أعالجه بجرعة من الدواء الذي يصفه, أخبرته بأنه اذا لم يلغ الزواج في وقت سريع فأنني سأفضحه ... سأخبر العالم بما فعله معك!". واحمر وجهه الوسيم من أثر الشعور بالرضا, وكل ما استطاعت شاني أن تفعله هو أن تحدق مذعورة , ثم قالت وهي ترتعش: -" صوبت بالفعل مسدساً نحو... رأس أندرياس؟". -" صوب مسدساً نحوك طوال تلك السنوات الماضية, اذن لم لا؟". وضحك من التعبير الذي ارتسم على وجهها , حيث أخطأ فهمه ثم مضى يقول: -" فكرة مدهشة... وكانت فعالة للغاية , ويمكنني أن أخبرك بأنه لم يجادل كثيراً , بل قبلها مذعناً". وضحك مرة أخرى بسخرية , وأجفلت شاني , كيف أمكنها أن تحب هذا الرجل على الأطلاق, وتفكر في أن تقضي بقية حياتها معه؟. وبحث عن يدها , لكنها رفعتها من فوق المنضدة, وتجهم براين من تصرفها , لكنه قال بمرح: -" سنتزوج قريباً جدا, الآن بعد أن تدخلت في المسألة, وزوجك بالأسم فقط مهزوم تماماً". كانت كلماته منسقة, لكنها باهتة, بينما كانت أفكارها في مكان آخر- التهديدات- ذكر أندرياس التهديدات التي عالجها بطريقته الفعالة وسألت: -" متى اتصلت هاتفياً بأندرياس؟". -" صباح الثلاثاء , كنت قابلت المحامي بعدما اتصلت تلفونياً مساء الأثنين مباشرة , لكنني لم أستطع وقتئذ أن أتصل بزوجك, ولذلك اتصلت به صباح الثلاثاء وقلت له بنجاح وجهة نظري". بنجاح... كان من الممكن أن تضحك شاني , لكنها قالت بصوت متهدج محطم جعل رأس رفيقها يهتز: -"وهكذا هزم... أليس كذلك؟". -" تماماً... لم يقل كلمة واحدة". -" ولا كلمة واحدة؟". -" زل لسانه بكلمة أو اثنتين بين حين وآخر". وألقت عليه شاني نظرة جانبية وهي تقول: -" موافقاً على الغاء الزواج؟". -" ليس بالحرف الواحد لكنه كما قلت هزم تماماً....". وتوقف براين لحظة ثم قال: -" قبل أن أنهي المكالمة حاول أن يموه بعبارة غامضة , عندما أخبرته بأنه هزم والأفضل أن ينسحب بكرامة". -" قلت ذلك لأندرياس!". -" بالطبع, وحينئذ قال أنه يهزم فقط عندما يخرج الموقف من يده وأن هذا بالتأكيد لن يحدث, كان تمويها كما هو واضح". -" هل ذكر اسمي؟". تساءلت شاني بفضول وهي تتعجب لماذا التزم أندرياس الصمت ازاء الحديث التلفوني مع براين, ثم أضافت: -"أعني غير ما حدث عندما هددته؟". -" سأل اذا كنت على علم بأنني أنوي تهديده , وقلت أنك لا تعلمين شيئاً عن هذه المكالمة التلفونية, ولكنك ستوافقين تماماً على أي تصرف من جانبي طالما أنه سيحررك". -" بمعنى آخر هل أعتقد هو أنني كنت طرفاً فيما تفعله؟". وكاد يغمى عليها .. أندرياس كان يعتقد فيها هذا؟ في الليلة التي كان يبثها فيها حبه برقة . يعتقد أنها أخبرت براين بأنها لا تهتم بالأساليب التي تستخدم ما دامت تؤدي الى أن يطلق سراحها, ومضى براين يقول: -" قلت أنك مصممة على الزواج مني... أجل , كان يعتقد أنك طرف فيما أفعله". وظهر المضيف , وتناول منه براين قائمة الطعام, ثم أردف: -" هيا لنشرب الأنخاب, ولنقم احتفالاً ثانياً!". وقالت بلا انفعال: -" ليس هناك شيء نحتفل به". وعقد حاجبيه حيث أدرك أخيرا معنى كلماتها وقال بقلق: -" ماذا تعنين؟". -" ما أقوله بالضبط" ... لا شيء نحتفل به". -" الأفضل أن تشرحي لي". وواجهت نظرته المحدقة, ولم تجد أي مصدر حقيقي للأنزعاج , مجرد قلق بسيط لا أكثر , والواقع أنه لا يزال يشعر بنشوة الأنتصار , وقالت بنبرة باردة: -" أن تدخلك دفع أندرياس الى أن يمسك القانون في يده, والحصول على الغاء الزواج أمر مستحيل. جعلني أبقى معه طوال الليل في فيللا يملكها في الجبال". قالت هذه الكلمات من دون أن يحمر وجهها أو تتردد , مجرد عبارة خالية من أي انفعال , مسحت نظرة الأنتصار من عيني براين , وتعبير السخرية في فمه وقال: -" أنت ... هو ؟ انني لا أصدق". -" لا يمكن أن أكذب في مسألة كهذه". وزحف على عينيه غضب أسود وهو يقول: -" الشيطان! أرغمك أن تبقي هناك . وأن تتحملي لكنه سيدفع ثمن هذا , سأمرغ اسمه في الوحل". " لحظة واحدة يا براين". كانت شاني شاحبة تماماً وقلبها يدق بجنون , لكنها سيطرت على صوتها عندما مضت تشرح التغيير الذي طرأ على مشاعرها لبراين : –" كنت اتخذت قراري قبل أن نقضي أندرياس وأنا الليلة في الفيللا. بأنني سأخبرك في نهاية هذا الأسبوع عندما تأتي ... وهذا ما كنت أعنيه عندما قلت أن هناك ما هو أهم من مجرد موقف من أندرياس العنيد أزاء الغاء الزواج , كان في امكاني أن اخبرك عبر الهاتف , لكن كيف أعرف أنك قررت التدخل بتلك الطريقة؟". -"التدخل؟لي الحق في التدخل, باعتباري زوج المستقبل لك!". لكن شاني هزت رأسها وقالت: -" أخبرتك للتو بأن مشاعري اتجاهك تغيرت بالفعل"؟ وحملق فيها وأخذت عروق عنقه تنبض بشدة: -" تجلسين في هدوء تخبرينني بذلك! لا يبدو أن هذا يزعجك كثيراً". واندفعت الدماء الى وجهها عند سماعها هذا الكلام, ولم تعد ساقاها تقويان على حملها ولكنها صممت على أن تنهض من مقعدها وقالت برقة: -" لم أكن أقصد أن نفترق كعدوين , لكن يبدو أننا صرنا كذلك, لم يكن لك أي حق في أن تهدد زوجي , ولو عرفته كما عرفته أنا لما نظرت الى تعليقه نظرة استخفاف بل كان ينبغي أن تشعر بالقلق البالغ ازاءه, ان ما فعله لم يكن مفاجأة لي ولا سيما الآن بعدما عرفت دقائق الموقف , أندرياس أقوى من أن يرهبه أحد بالصياح". والتقطت حقيبتها من فوق المقعد وأخذت تضرب عليها بأناملها في اضطراب ومضت تقول في توسل: " براين... أنك لن تذكر هذا لأي شخص ؟ أرجوك لا تذع أن أندرياس زوجي... لن تتحدث... هل تعدني بذلك؟". وأخيراً قال وعيناه تحومان حولها: -"لا تخافي ... لن أذكر أيا منكما ما دمت حياً". -" شكرا لك". ووقفت هناك, تراقب حركة يده المضطربة يقبضها ثم يبسطها , ثم يمسك بفرش المائدة أحياناً في أوج غضبه, وأضافت: -" أنني آسفة...". -" لا تضيعي جهدك في الأعتذارات , أنا لا أريدك ولا أعتقد أن أحداً غيري سيفعل". أضاف العبارة الأخيرة في احتقار وردت برقة: -" زوجي سيفعل". ثم تركته ومضت.
----------------------------
7- مشاكل محلية
وبعدما قالت شاني تلك العبارة , بهذه الثقة والحسم , انهار جدار الشك وأدركت أن زوجها هو الرجل الذي تريده, وأدركت أن فكرة الحياة معه كانت كامنة في عقلها منذ وقت, وازدادت قوة بتلك الأيام الشاعرية التي قضياها في كوز. مضى أسبوع منذ آخر لقاء لها مع براين, حوالي أسبوعين منذ رحل أندرياس, ولم تصلها منه أية رسائل , لكنها لم تكن تتوقع منه أن يكتب لها , لأن الشائعات والأقاويل ستكون هي النتيجة الوحيدة لوصول رسالة من السيد مانو الى الأخت ريفز في المستشفى, لكن فكرة الحياة معه كانت تسيطر على ذهن شاني طوال مدة غيابه, وفي بعض الأحيان كانت تشعر باحباط عندما تدرك أنه لا يحبها ورغم اعتقادها الراسخ بأن الزواج ينبغي أن يكون قائماً على أسس أقوى بكثير مما كان بأمكان زوجها أن يوفرها فأنه الآن بشكل لا يقاوم حتى أصبحت لا ترغب الآن الا في أن تكون معه, ستذهب اليه بعد عودته وسيعلم- عكس اعتقاده بأنها تكرهه- أن شعورها ازاءه مختلف تماماً , وسيكون فرحاً بعودتها اليه, ومن يدري قد يتعلم أن يحبها عندما يحين الوقت لذلك. -" متى سيعود السيد مانو؟". وجهت هذا السؤال الى الرئيسة وهي تحبس أنفاسها , وتشعر باضطراب أعجزها عن السيطرة على نفاذ صبرها, هل سيشعر بالفرح ؟ بالطبع!. -" الأربعاء ... نظرت اليها الرئيسة نظرة نافذة وهي ترد عليها ثم أضافت: -" تبدين سعيدة جداً. هل كسبت ورقة اليانصيب؟". وضحكت شاني: -" لا ... لا شيء من هذا!". خرجت الكلمات من فمها قبل أن تدرك أنها ستحفز الرئيسة – لا محالة – على توجيه سؤال آخر: -" ما هو اذن؟ أو لا ينبغي ألا أسأل؟". -" لا أستطيع أن أخبرك به بعد". ولم تضغط عليها الرئيسة , تحدثتا فترة قصيرة , ثم اتجهت شاني الى غرفتها , لم تكن في نوبة عمل ذلك اليوم لكنها وعدت بربارة أوسيانا وهي فتاة يونانية قبرصية غادرت المستشفى أخيراً وتعيش مع أمها في منزل جميل مطلي باللون الأبيض المائل الى الزرقة. كان البيت جذاباً من الخارج. أما من الداخل فلم يكن يحوي ما يكفي من الأثاث , وكانت هذه هي الحال بالنسبة الى معظم بيوت الطبقات الفقيرة , لأنهم يقضون ساعات العمل والترفيه في الخارج, وما دام هناك عد كاف من الأسرة , ومنضدة وبعض الكراسي فأن أية قطع أخرى من الأثاث لا تعتبر ضرورية , أما أفراد الطبقات الأكثر ثراء , والذين زار معظمهم أنكلترا أو أميركا , فأنهم على النقيض تماماً , وقد زارت شاني بيوتاً شعرت فيها بأنها تكاد تختنق من كثرة وسائل الراحة. وبعدما تم التعارف بين شاني وأم لوسيانا , ذهبت الأم الى عملها وقالت لوسيانا: -"اليك بعض المرطبات , أعددت الشراب من ثمار الرمان, وأنا واثقة أنك ستستمتعين به كثيراً". -" أعرف ذلك, فقد شربته من قبل". وكانت شاني تقف في الفناء, تحدق نحو الجبال... يوم الأربعاء ... بعد غد... كم هو غريب أنها تشعر بمثل هذا الشوق. وقدمت لها الفتاة وجبة لذيذة من اللحم والسمك والجبن والخيار الصغير فأكلت شاني شاكرة. ولم تلاحظ شاني أن لوسيانا تشعر بالقلق الا بعدما أدت مهمتها وجلست توانسها , ولم تنتظر شاني طويلاً اذ سرعان ما بدأت الفتاة في التحدث عن أنطو ناكيس , وهو شاب من فاماغوستا تقدم لخطبتها أخيراً ومضت لوسيانا تقول: -" اتى والده لمقابلة أمي الأسبوع الفائت , وأراد أن يعرفا ما أمتلكه أي ما هي (دوطتي), وأرتهما أمي هذا البيت , وأخبرتهما أنني أمتلك بعض حقول الزيتون , كما أمتلك أيضاً بعض حدائق الموز ومجموعة قليلة من أشجار البرتقال , وأعتقد أن الأتفاق تم". -" هل هذا كله ملكك؟". -" هذا البيت هو (دوطتي), منحه لي أبي قبل وفاته". -" لكن أمك؟ هل ستعيش معك؟". -" ربما تعيش معنا , لكنها قد تعيش في الكوخ". -" والدك لم يكن لديه ما يكفي من المال ليبني لي بيتاً , ولذلك أعطاك هذا؟". كانت شاني تعرف أن هذا كثيراُ ما يحدث خاصة اذا كانت للرجل عدة بنات, وقالت: -" اضطر لذلك , فأن لي أربع أخوات". وأشارت الى البيت الواقع في نهاية الزقاق وأضافت: -" اضطر السيد سبيروس وزوجته الى منح أبنتهما بيتهما , وهما يعيشان الآن في ذلك البيت الصغير على جانب الزقاق". قالت شاني وهي تمعن في التفكير: -" هذا مختلف تماماً عن أنكلترا – حيث يبدأ الزوجان الشابان حياتهما وهما يمتلكان بيتاً وأثاثاً ومساحة من الأرض تكفي لمعيشتهما , وغالباً ما ينتهيان في بيت أقل شأناً بكثير أو , كما تقولين , في كوخ , أما في بلادي فأن العروسين يبدأن صغيرين ثم ينتهي بهما الأمر الى حياة أكثر راحة ورفاهية, أو على الأقل تلك هي الصورة العامة". وبدا شيء من الكآبة على وجه لوسيانا وقالت: -"في أنكلترا تسير الأمور سيراً طيباً , فأنتم تقعون في الحب , أليس كذلك؟ ويبدو أن الوقوع في الحب شيء جميل للغاية... وتختار الفتاة زوجها, أليس كذلك؟"". وكانت شاني على وشك أن تجيب بالموافقة , لكنها توقفت وهي تتساءل عما ستقوله لوسيانا لو علمت بأن شاني أرغمت على الزواج من رجل لم تحبه... وبعد فترة قالت: -"أنطوناكيس هذا ... كيف يبدو؟". -" لم أراه أطلاقاً". حدقت فيها شاني وهي لا تفهم ... فالأزواج هنا لا يقيمون علاقات حب قبل الزواج , لكنهم يكونون من المعارف , عادة, أو على الأقل يكون أحدهما قد رأى الآخر , وقالت شاني: -" الواضح أنه رآك؟". -" مرة واحدة فقط , جاء ليزور صديقه يانيس , يعمل في المكتب حيث أعمل , ولم ألاحظ أنطوناكيس لأن عدداً كبيراً من الناس يأتون الى المكتب , لكن أنطوناكيس رآني وسأل يانيس عني , وأخبره يانيس بأنني فتاة طيبة ولآ أخرج مع الفتيان , وهكذا طلب أنطوناكيس من والدته أن يأتيا ويقابلا أمي ". -" هل تشعرين بالسعادة من فكرة الزواج منه؟". -" أعتقد هذا ... نعم..". -" هل أنت واثقة أنك سعيدة يا لوسيانا؟". واجتاح شك مفاجىء , العينين الداكنتين , ثم تنهدت لوسيانا في استسلام وقالت في هدوء: -" أنني سعيدة". -" لكن لنفترض أنك لا تشعرين بميا الى هذا الفتى عندما تقابلينه؟". -" سألت يانيس عنه قال أنه فتى لطيف وطيب مع أخواته , وغيرت شاني الموضوع لأنه كان يشعرها بالأحباط, فكانت لوسيانا صغيرة وحساسة للغاية, وينبغي ملاطفتها والتودد اليها وجرها الى حالة الزواج التي لا يمكن التكهن بها بطريقة رقيقة مقنعة , لكن زوجها المنتظر , بدى من ذلك. أرسل والدته لتقيم هذه الممتلكات فقط يتخذ قراره اذا كان سيتزوج الفتاة أم لا. -" لوسيانا ... متى ستعودين الى العمل؟". -" الأسبوع القادم, أنني أشعر بتحسن كبير وكان من الممكن أن أعود هذا الأسبوع , لكن الدكتور غوردون طلب مني , عندما زرت المستشفى يوم الجمعة, أن أبقى أسبوعاً آخر في البيت, ولا أحب أن أفعل ذلك لأننا لا نحصل الا على مكافأة صغيرة عندما نتوقف عن العمل". ونظرت الى شاني ثم أضافت: -"وأنا لا أكتسب كثيرا عن طريق عملي. ولهذا من الأفضل أن أتزوج". وتوقفت عن الكلام عندما فتح الباب رجل كهل البوابة وسار متمهلاً داخل الحديقة وقال: -" مرحبا!". وأضافت لوسيانا: -" أنني مسرورة لحضورك , دخلت ماعز السيد سبيروس الى أرضي". ثم نهضت وأردفت: -"الأخت ريفز , هل تعرفين السيد جورج حارس الحقول؟". وأومأت شاني وهي تصافح اليد الممتدة نحوها وتقول: -" زوجة جورج كانت في المستشفى منذ أسابيع قليلة". -" بالطبع , نسيت , السيد جورج هل لك في كأس من الشراب؟". -" شرابي المعتاد, الأوزو لو سمحت". ثم قالت لوسيانا وهي تناوله الكأس: -"أنني أدفع لك جنيهين في العام لتمنع جيراني من السماح لحيواناتهم بالدخول الى حقولي , ولا تقوم بمهمتك يا سيد جورج". -" أنك لم تذكري شيئاً عن هذا ولم أسمع به الا اليوم , سأذهب بعد بضع دقائق الى السيد سبيروس وأطلب منه أبعاد ماعزه , في أي حال أن الماعز لا تحدث ضرراً على الأطلاق". -" ليست هذه هي النقطة الهامة , كان من الممكن أن تحدث ضرراً لو لم أرها , وقد تشاجرت كثيراً مع السيد سبيروس". وجلست – كم تبدو ضئيلة وهشة, ولم يكن لشاني أن تتصور أنها تشاجرت مع أحد , وأضافت لوسيانا: -" آمل أن تلقنه درسا نافعا". -" أنه يدفع لي جنيهن في العام مثلك". وجاء الرد السريع: -" وبسبب هذا سيكون غاضباً جداً لو أن ماعزي شردت الى حقوله ". واحتج جورج قائلاً: -" جنيهان في العام, انه ليس مبلغاً كبيراً مقابل كل ما أفعله". وتوقفت عن الكلام عندما اتسعت حدقتا لوسيانا وقالت: -" ليس مبلغاً كبيراً يا جورج! هناك ألفا منا يدفعون لك المبلغ نفسه لا بد أن تكون ثرياً!". -" ليس هذا هو الموضوع , فأنك تدفعين لي جنيهاين فقط, وانظري ماذا أفعل مقابلهما , أنني أحرس حقولك". -" أنك لا تفعل, ماذا عن السيد سبيروس؟". -" أنني أحرس حقولك وأحافظ على أمن القرية". -" الأمن؟ هؤلاء الصبية أبناء مارولا يحدثون ضوضاء دائما". -" سأتحدث مع مارولا". -" ولم تحول لي المياه يوم السبت الماضي , أشجار البرتقال الخاصة بي لن تثمر". ولوح بأصبعه في وجهها ثم قال: -" أنك تحصلين على المياه يومي الأثنين والخميس , وهذا هو المسموح لك , لماذا تتوقعين الحصول عليها كل يوم؟". -" لا أفعل , لكنني طلبت منك تغيير الأيام لأنني أريد ألغاء أيام السبت". -" وما هو الفرق في ذلك؟". -" لأنني أكون موجودة في البيت أيام السبت , وبهذا يمكنني أن أراقب المجاري واذا لم أكن هناك فأن الماء يتسرب منها ". -" تستطيع والدتك أن تراقبها فلديها متسع من الوقت". -" ليس لدى أمي وقت , فالعمل في الحديقة شاق , وأنت تعرف ذلك". وفي النهاية أثار هذا الجدل ضحكة من شاني, لكن الأثنين الآخرين كانا منهمكين في الكلام الى درجة أنهما لم يلتفتا اليها , وقال جورج أن الترتيبات الخاصة بالمياه اتخذت منذ عدة سنوات , ولا يمكن تغييرها, وقد حصل جد لوسيانا على الحقوق الخاصة بها من جد الرجل الذي يملك عين الماء, وبموجبها كان للوسيانا الحق في الحصول على الماء لمدة ساعتين أيام الأثنين , وثلاث ساعات أيام الخميس , وفيما يتعلق بجورج, فأن هذا ينبغي أن يستمر الى الأبد. وهز جورج رأسه بحدة وقال: -" اللوائح يا لوسيانا علينا أن نحافظ على اللوائح". واستدارت لوسيانا أخيرا الى شاني, ومدت يديها احباطاً وهي تقول: -" ألا تعتقدين أنهم حمقى؟". -" أجل , ما دام سافاس لا يعارض , لكنني أعلم أيضاً مدى صرامة اللوائح في الجزيرة, ألا يمكنك أن تجهزي المجاري مقدما؟ً". -" ليست المسألة متعلقة بتجهيزها بل اغلاقها عندما تسقي الشجرة بما يكفيها من الماء , وتحويل الماء الى شجرة أخرى, لا بد أن يكون هناك شخص ما عندما تروى الأشجار والا انابت المياه في المكان كله وضاعت. واقترحت شاني وهي تحاول أن تكون نافعة: -" ألا يمكنك تخزين بعض المياه؟". وبادر جورج بالرد: -" يمكنها ذلك ولكن في الخارج فقط, اذ أنه من غير المسموح ادخال المياه الى البيت بالأنابيب , فهذا لم يرد في الأتفاق على الأطلاق". -" أعرف أنه غير مسموح ادخال المياه بالأنابيب , لكن ليس هناك بالتأكيد ما يمنع لوسيانا من تخزينها في صهريج". -" لا أريد تخزينها في صهريج , أريدها أن تنساب بسهولة في أرضي , وعندما أتزوج يا سيد جورج , سيكون عليك أن تفعل ما يطلبه منك زوجي, والا فأنه لن يدفع لك, وحينئذ أين ستذهب؟". وأطلقت شاني ضحكة أخرى وهي ترى أثر هذه الكلمات على جورج, وكأنه أصيب بنوبة مرضية, لكنه بدا أيضاً مستعداً لأستمرار الجدل الى أجل غير مسمى , وبعدما شكرت شاني لوسيانا لكرمها , غادرت المكان دون أن يلتفت اليها الآخران اللذان عادا للحديث على الفور. وأخيراً عاد أندرياس الى لوتراس , وبرغم أن شاني كانت تعلم أن الأجراء السليم هو أن تعرف اذا كان غير مشغول لمقابلتها ام الأفضل أن تزوره في بيته في وقت لاحق من النهار , رضخت لأحساسها باللهفة وقررت الأتصال به فوراً, قبل كل شيء ينبغي أن تقدم أعتذاراً عن سلوك براين, كما يجب أن يعرف أيضاً، أنها هي نفسها لم تكن توافق عليه, وعندما وصلت الى غرفة أندرياس لم تطرق الباب , وبينما هي تفتحه رات تقطيبة داكنة ترتسم على وجهه وقال ساخراً: -" أرجوك، اطرقي الباب قبل أن تدخلي". وللحظة لم تفعل شاني شيئاً الا أن تشهق وتحدق ثم قالت: -"أطرق الباب؟". -" أليس من المعتاد أن يطرق المرء الباب قبل أن يدخل غرفة الطبيب؟". وارتفع حاجباه وكانت نظرته متعجرفة , كان رئيسها وهي مجرد ممرضة, ولم تعد زوجته على الأطلاق, هذا التعبير المذهل! هل محت ثلاثة أسابيع في الخارج ذكرى الأجازة وتلك الليلة في ترودوس, لكن لم تلبث شاني أن وجدت تفسيراً لسلوكه, فهي استقرت بالنسبة الى مستقبلها بينما الوضع بالنسبة اليه لا يختلف عما كان عندما عادا من ترودوس, لم يكن يدري ما هي مشاعرها ولا لماذا أتت, بل على العكس كان يعتقد أنها تكرهه ولا تزال تحب براين, وفضلاً عن ذلك, كان يعتقد أنها وافقت على تصرف براين لأن براين أبلغه بذلك, وتجمعت كل هذه الأشياء في ذهنها , فقالت برقة: -" أريد أن أتحدث معك يا أندرياس". لكنها توقفت وهي تلقي نظرة حولها , كان الأفضل أن تنتظر و فالجو الطبي ليس المكان الملائم لما ستقوله, وبادرت بلهفة: -"سآتي الى بيتك الليلة". -" سأخرج الليلة , تستطيعين أن تقولي ما تريدين هنا". واستقرت عينا شاني على يده التي كان يقبضها يشدة فوق المكتب , كان يبدو أنه موقف الدفاع , ومع ذلك فهو مستعد للهجوم. -"لا أريد أن أتحدث هنا". بادرت بذلك وهي منكمشة وعاجزة عن تذكر أية من العبارات البليغة التي أعدتها ورددتها لنفسها في سعادة وأضافت: -" أنه بشأن ... شأننا وزواجنا, لو أخبرتني متى تكون غير مشغول؟ فأنني أفضل كثيراً لو أتيت الى بيتك , ليس هناك الكثير مما يحتاج للحديث". -" لا يمكن أن يكون هناك الكثير, قيل كل شيء ولن أصغي الى أتهاماتك المضادة أو أعلانك بأنك الآن تنوين الحصول على الطلاق , من وقت قصير كان الزواج يمكن فصمه عن طريقي أنا وحدي, والآن لا يمكن لأي منا أن يفصمه, منذ البداية كنت أرغب في أن تعطي للزواج فرصة التجربة, ولكنك رفضت حتى في الأجازة عندما اعتقدت أننا ربما نكون تقاربنا , أظن أنك ما زلت تقابلين براين الذي تجرأ ووجه الي انذاراً نهائياً وقال أنك توافقين على تصرفه". وأضاف بمرارة: -" أصابني هذا بصدمة, كنت أتوقع منك أن تستنكري تهديداً مثل هذا , وفي أية حال أتخذت اجرائي الخاص وتعمدت الصمت ازاء التهديد حتى لا أثير شكوكك , ولم أقدم أي اعتذار , ان ضميري مستريح لأنني تصرفت وفقاً لمعتقداتي وهي أن الزواج حالة دائمة". لم تكن في صوته رنة غضب , لا شيء يخيفها كما حدث في مناسبات أخرى مختلفة , ومع ذلك كانت مذعورة, حتى قبل أن يواصل كلامه ويخبرها بأنه لم يعد الآن يرغب فيها ولا بفكرة الحياة معا, فأن لديه مشروعات أخرى , ومن الآن فصاعداً لا حاجة بها لأن تخشى أن تقتحم عليها حياتها أو يستفسر عن تصرفاتها , وحاولت شاني أن تتكلم لكن ما جدوى كل مشروعاتها الآن , انه لم يعد مهتماً بها , ومضى يقول: -" عندما أرحل من هنا بعد ستة أشهر سيسلك كل منا طريقاً مختلفة عن الآخر ولا أعتقد أننا سنتقابل مرة أخرى على الأطلاق, وآمل بأخلاص ألا نتقابل". لو أن شاني تعلقت بأية بارقة أمل فقد انتهت الآن, اذ لم يكن هناك أي شك على الأطلاق في صدق هذه الكلمات , قالها باحساس عميق وقوة, ولم يكن من قبل جاداً كما هو الآن بشأن أي شيء في حياته, وأردف يقول وهو لا يزال يحتفظ – كرئيس لها – بنبرة الفتور الخالية من العواطف في صوته: -"بالنسبة الى مركز كل منا بالمستشفى علينا أن نتذكر ذلك, وآمل ألا أضطر الى تذكيرك بهذا مرة أخرى". وتحول اهتمامه واستدارت شاني آلياً لمتابعة اتجاه نظرته وكانت ليديا تعبر الفناء في طريقها الى البقعة التي تظللها الأشجار حيث يقع بيت أندرياس , ودخلت الى الممر وأغلقت البوابة وراءها, ثم اختفت داخل البيت , وألقت شاني نظرة سريعة على أندرياس, اختفت القسوة من وجهه وهو ينهض ويتجه نحو الباب , ويفتحه لشاني لتخرج, ولم يتفوه أي منهما بكلمة, وبعد اغلاق الباب اتخذ كل منهما طريقاً منفصلة. وبعد ذلك بيومين واجهت شاني محنة العمل مع أندرياس في غرفة العمليات , فبعدما ألقى عليها تحية الصباح المقتضبة بايماءته المعتادة , قال لها: -" تبدين شاحبة , هل أنت على ما يرام؟". -" أنني على ما يرام , شكرا لك يا سيدي". وألقى عليها أندرياس نظرة عابرة ثم حول كل اهتمامه الى المهمة التي يقوم بها. ولاحظت جيني أيضا شحوب شاني , وعندما كانتا تتأهبان لحضور عرس القرية قالت بلهفة: -" هل أنت بخير يا شاني؟ لا تبدين على ما يرام على الأطلاق". وتنهدت شاني, كانت تأمل ألا تبقى على هذه الحال طويلاً, والا اضطرت الى ترك العمل بأسرع مما كانت تنوي, وانتحلت عذراص قائلة: -" أشعر بصداع". لكنها أضافت: -" سأذهب الى العرس, مع ذلك , فقد وعدت أليدها, ويجب أن أذهب". كان شقيق أليديا الصغير في المستشفى, وكان هذا سبباً لدعوة جميع أفراد طاقم المستشفى الى العرس. ولما كانت شاني وجيني في غير نوبة العمل طلبتا سيارة أجرة وذهبتا معا, ووصلتا الى قرية أيوس فاسيليوس في موعد مناسب لحضور بعض الطقوس التي تقام قبل الزواج, وكان ( الكومباري) أو شهود العريس يرقصون خارج منزل العروس , ومما لا يصدق أن العروسين كانا يريدان أن يرزقا بفتاة كأول طفل لهما ولذلك أخذت طفلة في الثانية من عمرها تتدحرج, ثم نثرت قطعاً من النقود, وظهرت العروس بالبخور , وبعد أن ألقى جميع جهاز العروس وغيره من البياضات المزخرفة بطريقة بديعة طويت وحملها وال العروس فوق كتفه الى منزل العروسين الجديد, واستمر الرقص والغناء طوال الوقت, وفي داخل البيت كانت وصيفات العروس يهيئنها للأحتفال , وكان القس موجوداً وهو الذي قص شعر العريس استعداداً للفرح, وتحت أشجار الليمون في حديقة منزل العروس صفت موائد طويلة , تغطيها مفارش بيضاء لامعة, كانت القرية كلها في عطلة , لأن حفلات الزواج القبرصية تقتم دائماً أيام الآحاد , وأخيراً شق الموكب طريقه نحو الكنيسة , واصطفت على الجانبين فتيات صغيرات يحملن شموعاً كبيرة مضيئة مزينة بالأشرطة, ودخل الجميع الى الكنيسة وهم يتحدثون في آن واحد , شاني لم تسمع مثل هذه الجلبة من الأصوات من قبل اطلاقاً. -" هذه الأفراح مزعجة حقاً". قالت جيني ذلك وهي تلكز صديقتها وتشير الى شاب يخرج آلة تصوير ثم يتحدث باليونانية مع القس ذي اللحية , طالباً منه أن يوقف الطقوس قليلاً ليلتقط صورة, أطاع القس في ابتسامة واستدار العروسان وأتخذ ثلاثتهم أهبة الأستعداد للصورة , وأضافت جيني: -"الشهود يدفعون تكاليف كل شيء , أتعرفين ذلك؟". وأومأت شاني وقد ذهبت أفكارها كلها عن غير قصد الى حفل زواجها هي, حيث كان الحضور تبدو عليهم المهابة, والقس نفسه جاداً للغاية, أما هنا فتتردد الضحكات والأحاديث الكثيرة الى حد أن شاني خالجها الشك في أن يكون أي من الحاضرين سمع كلمة واحدة من الطقوس. ولم تشترك العروس والعريس في الأحتفالات والولائم الكثيرة, بل جلسا في البيت لتقديم بسكوت العرس الى كل ضيف بدوؤه, ولكن العروس خرجت فيما بعد, وقدمت رقصتها الرسمية, وأعقب ذلك عادة تثبيت أوراق النقود على ثوبها , وسرعان ما غطى الثوب بأوراق النقد , وانضم اليها زوجها الذي غطيت ملابسه أيضاً بالأوراق النقدية, وهتفت جيني: -" كل هذه الأموال! في امكانهما جمع مبلغ يقدر بألف جنيه بهذه الطريقة, يقولون أن هذه العادات بدأت تختفي بسرعة , لكنني أراهن أنها ستبقى". ولم تلاحظ شاني زوجها الا عندما كانت تشبك ورقتها المالية في ثوب العروس, كان مع ليديا , وكانا أيضاً من بين آخر مجموعة من الناس أثبتوا أوراقهم النقدية في ثياب العروسين, وشبكت كل من شاني وجيني جنيها ثم رجعتا الى الوراء , وهمست جيني: -" هل رأيت ما قدمته ليديا ؟ قدمت ورقة بخمسة جنيات". وأضافت باستخفاف: -" هذا فقط لأن السيد مانو أعطاها المبلغ". واستدارت ليديا ورمقت شاني بنظرة متلطفة قبل أن تقول لرفيقها : -"أندرياس , هل نذهب الآن؟ تذكر أننا سنتناول العشاء مع آل بنسون سمايثز". وقالت جيني بسخرية: -" بنسون سمايثز, أراهن أن اسمهم ببساطة سميث وهم الآن في أنكلترا". وضحكت شاني وردت ساهمة: -" أعتقد أنهم مهذبون الى حد ما ... ينبغي أن أتصور أنهم كذلك , لأن السيد مانو يدقق كثيراً في اختيار أصدقائه". -" حقاً؟". وتابعت عينا جيني الأثنتين وهما يتجهان نحو سيارة أندرياس, وأضافت: -" أذن كيف تفسرين اهتمامه بتلك؟". ولم تستطع شاني أن تفسر هذا فلم تقل شيئاً لكنها اكتفت بمجرد مراقبتهما وهما يدخلان السيارة, التي ما لبثت أن اختفت عن الأنظار.
-----------------------
8-الموقف الحرج
أول مرة أصيبت فيها شاني باغماء كانت وحدها, وثاني مرة كانت في غرفة رئيسة الممرضات , عندما كانت في طريقها الى السوق, وتوقفت لتسليم رسالة الى الرئيسة , وعندما أفاقت كان دكتور غوردون يمسك برسغها ويسألها: -" ألديك أية فكرة لماذا أغمي عليك أيتها الأخت؟" وترددت هل عرفوا؟ كانت واثقة أنهم خمنوا , لكنها لم تكن تستطيع أن تكذب على أية حال , وأعقب اعترافها صمت قصير ثم تحدثت الرئيسة بصوت ينم عن الألم والأسف: -" براين يعلم بالطبع؟". وابتعد الطبيب وضمت شاني يديها في حجرها ثم قالت: -" لا ... انني لم أخرج مع براين منذ فترة من الوقت". وتحدث الطبيب بهدوء ودون أي تلميح بلومها: -" صحيح... جيني أيضا قالت أنكما افترقتما". -" لم نر بعضنا بعضا منذ ستة أسابيع". كانت تحاول كسب الوقت وهي عاجزة عن جمع شتات أفكارها أو تحديد ماذا تقول, ونظرت اليها الرئيسة بخشونة وهي تقول: -" ستخبرينه بالتأكيد؟". وهوت رأسها , وانطلقت من بين شفتيها تنهيدة طويلة مرتعشة, وأخيراً استطاعت أن تتكلم بعد تردد طويل: -"أنه ... أنه ليس طفل براين". -" ليس طفل براين؟ طفل من اذن؟". تحدثت الرئيسة وهي تمعن في التفكير , وحبست شاني أنفاسها , هل يمكن أن تكون فطنت للحقيقة؟ ولم تترك شاني مشاعر الشك مدة أطول بل كانت متلهفة للخروج , لذلك أعلنت أنها تشعر بتحسن وغادرت الغرفة, لكنها رجعت لتستعيد حقيبة مشترياتها التي وقعت منها بجوار المكتب عندما انهارت, وكانت الرئيسة تقول: -" لدي شكوكي, رغم أنني لا أجرؤ على الأفصاح عنها, لكنني تذكرت فقط منظراً صغيراً هنا عندما كانت الأخت تبدو فرحة على نحو ملحوظ , وعندما سألتها عن السبب قالت لا يمكنها أن تخبرني بعد... الواضح أنها كانت تأمل أن يتزوجها الرجل, والواضح أنه رفض". -" تقولين لا يمكنك الأفصاح عن شكوكك , هل هو واحد من طاقم المستشفى؟". -" يا دكتور , لا أستطيع أن أقول شيئاً , لكنني متأكدة أنني أعرف من هو الأب". وربتت الرئيسة على وجنة شاني , كانت الرئيسة حادة الذكاء , لكن ذلك المنظر الصغير كما تسميه, لا يمكن في حد ذاته أن يثير شكوكها, كذلك كانت الرئيسة تتذكر أن شاني والسيد مانو احتجزا في ترودوس , واضطرا الى البقاء هناك... في فندق... على حد قول أندرياس. وأخيراً طرقت شاني الباب وفتحته وقالت: -" تركت حقيبتي". والتقطتها ثم نظرت الى الرئيسة وأضافت: -" لعلك لا تقولين شيئاً". -" طبيعي أن الموضوع لن يتعدى هذه الحدود". كان هذا رد الرئيسة المحدد لكنها أضافت: -"عندما تشعرين بالقدرة على الحديث ربما تودين المجيء الي ومناقشة مشروعاتك معي؟". -" أود أن أستريح فترة...". همت بالحديث عندما قاطعها الطبيب قائلاً: -" استريحي الآن ثم افعلي ما تقترحه الرئيسة, تعالي وتحدثي معها". وبعد دقائق قليلة كانت شاني مستلقية على فراشها, وهي تحدق في السقف وتفكر في التقدير الكبير الذي كانت توليها اياه الرئيسة دائماً , وفرت دمعة من عينيها , وكان من الممكن أن تذهب اليهما وتكشف الحقيقة , وتثير دهشتهما عندما تقول ( نعم, أنه طفل أندرياس ) لكن لا حاجة لأن يشعرا بالأسف لها لأنها متزوجة منه زواجاً شرعياً , ولكن سرعان ما خمدت هذه الرغبة , كان بمحض ارادتها أنها خلعت خاتم زواجها , وظهرت بمظهر المرأة غير المتزوجة, لو أدركت اتجاه تفكيرها قبل ذلك بفترة بسيطة لأصبح كل شيء على ما يرام, لكن اهتمام أندرياس بها أنتهى الآن , ولم يعد يرغب في الأعتراف بها كزوجة له, وليس لها حق في تعريضه للأقاويل التي لا بد أن تشوه سمعته ... لم يكن هناك الا طريقة واحدة للسلوى , أن تبتعد عن لوتراس, وبذلك تتجنب مزيداً من الخزي ... لقد وضعت خططاً بالفعل, فقد ترك لها أبوها أموالاً لم تمسها بعد لحسن الحظ, وبموافقة الرئيسة ستبقى في لوتراس شهراً آخر أو شهرين ثم ترحل الى أنكلترا حيث تقيم عمتها حتى يولد الطفل, ثم اذا كانت عمتها غير راغبة في تحمل متاعب طفل في البيت , فأن شاني ستعثر لنفسها على بيت صغير, وفيما بعد, عندما يذهب طفلها الى المدرسة, ستتولى وظيفة ممرضة نصف الوقت في احدى المستشفيات المحلية, هكذا كانت خططها, أنها تريد الطفل وتنوي أن يكون لها وحدها, واذا علم أندرياس بوجوده يمكن أن يطالب بأن يعيش معه جزءاً من الوقت, لكنها مصممة أن ينشأ الطفل في بيئة مستقرة و واتخذت قراراً حاسماً بألا تدع زوجها يعرف أي شيء عنه. وفي اليوم التالي قابلت الرئيسة , وأخبرتها بالخطط التي وضعتها . -" هل ستقبلك عمتك؟". -"أنا متأكدة أنها ستفعل , فأنا ابنة أخيها الوحيدة وستفرح بأن أعيش معها". -" حسناً ... هذا يبدو ترتيباً مرضياً". وتوقفت الرئيسة عن الكلام لحظة, وهي تنظر مباشرة الى شاني, ثم قالت بلهجة شك, مع نبرة حذر: -" بشأن البقاء هنا, هل ترين ذلك قراراً حكيماً؟". ولم تخطىء شاني فهم النصيحة الرقيقة , واحمر وجهها خجلاً, ومع ذلك فأن أفكارها في هذه اللحظة لم تكن تتعلق بحرجها هي, بل كانت تتساءل عن رأي الرئيسة في أندرياس, لأن استنكارها الأكيد الناجم عن اعتقادها بأنه تصرف تصرفاً بعيداً عن أصول المهنة , أثار قلق شاني, لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئاً ازاء هذا, وفي كل الأحوال فأن سمعته في أمان كاف, وقالت الرئيسة أنها لا تستطيع أن تفصح عن شكوكها , وكان هذا صحيحاً لسبب بأن أندرياس هو والد طفل شاني فلا يمكنها أن تكون واثقة تماماً من ذلك. واستغرقت شاني في التفكير فيما يحدث لو عرفت الحقيقة في أي وقت , حينئذ سيضطر أندرياس الى الكشف عن زواجه حتى يحافظ على سمعته الطيبة. وأخيرا قالت شاني: -" أود أن أبقى , وسينفعني المال". وكان هذا صحيحاً , لأنها لو اضطرت الى ايجاد سكن خاص لها فأن أموالها ستفيدها , غير أن شاني كانت تعلم أن المال ليس هو العامل الهام , فاذا بقيت في لوتراس سيظل احتمال الصلح قائماً , أما اذا رحلت فأن الأنفصال سيكون نهائياً, ومع ذلك أدركت شاني أنها تتعلق بخيط أمل ضعيف للغاية. ووافقت الرئيسة قائلة: -" أعتقد أن المال عامل هام , لكن هل فكرت في احتمال أصابتك بالأغماء وأنت في غرفة العمليات؟". واختتمت الرئيسة قولها بأن هذا سيكون محرجاً تماماً لشاني وللجراح, قالت ذلك لتأكدها من أن أندرياس يعلم بحالة شاني. وقالت شاني بابتسامة فاترة: -" آمل أن تمر مرحلة الأغماء قريباً". وهوت الرئيسة كتفيها وهي تقول: -" الى متى تريدين أن تبقي هنا؟". -" نحو شهرين". وبعد تفكير وافقت الرئيسة ولكن شاني غادرت الغرفة وهي تحس بمشاعر متباينة, ربما كان الأفضل أن تترك العمل الآن, أي أمل لديها حقيقة؟ فتر اهتمام أندرياس بها, أو ربما انتقل الى ليديا موراي, أن البقاء سيضني قلبها, فقد اكتشفت حقيقة مشاعرها نحو زوجها في وقت متأخر جداً. ولم تصب شاني بالأغماء في غرفة العمليات, لكنها أحياناً, كانت تبدو شاحبة , وفي احدى المرات , بعدما تفرس أندرياس في وجهها بدقة , قال: -" أنك شاحبة... ألست على ما يرام؟". وقفز قلب شاني , هل سيرغب فيها لو علم ؟ لا شك في ذلك. لكن أي شعور بالرضا سينتابها وهي تعلم أنه لم يقبلها الا من أجل الطفل؟ ومع وجود هذه المشاعر الجديدة والرقيقة القوية داخلها لم تكن مستعدة للحياة مع أندرياس الا اذا كان –على الأقل- راغباً فيها كزوجة من أجل نفسها. -" أنني بخير يا سيدي". تعمدت أن يكون صوتها فاتراً وخالياً من الأحاسيس , لأنها خشيت أن يكتشف السر, وفكرت بقوة أن الطفل ملك لها ولو علم أندرياس به فأنه سيرغب في مشاركتها اياه حتى لو رفضت أن تعيش معه. وبعد ذلك بأسبوع قالت جيني عندما فرغت من نوبة عملها ومرت معه في عنبر المرضى: -" أنه يبدو عنيفاً دائماً هذه الأيام , سأشعر بسعادة غامرة عندما يرحل!". -" تعنين أنه عصبي؟". -" ليس بالضبط , لكنه في حالة مزاجية غاضبة , سأل الآنسة رونسون اذا كانت تحصل على كفايتها من الطعام, وقالت لا فاعتبر هذه غلطتي". -" الآنسة رونسون لا تحصل أبداً على ما يكفيها من الطعام, فلها شهية مفتوحة دائماً كجواد". -" أعرف , وكذلك الجميع عدا السيد مانو". -" ألم تخبريه بأنها متذمرة دائماً؟". -" ويطير رأسي ؟ لا يحتمل هذا , كان سيئاً بما يكفي عندما جاء في البداية , لكن الآن أصبح لا يطاق". ولم تقل شاني شيئاً , وبعد فترة وجيزة قالت جيني وهي تمعن في التفكير: -" أنني أتساءل كيف يتصرف مع ليديا ؟ فهي تبدو متألقة هذه الأيام , ولذلك أعتقد أنه يحتفظ بمظهر خاص لها وحدها". كانتا تجلسان في شرفة شاني تحتسيان القهوة, وصبت شاني مزيداً من القهوة لنفسها وظهرت تقطيبة على حاجبيها , كيف كانت تتمنى أن يقع في حب ليديا ؟ ومع ذلك لمجرد أن يوافق على الغاء الزواج , وأخيراً غيرت الموضوع وقالت بهدوء: -" سأرحل عما قريب يا جيني... أريد العودة الى أنكلترا , عمتي كما تعلمين تعيش وحدها تماماً". ونظرت اليها جيني بفضول قائلة: -" عمتك؟ لكنك لم تهتمي بأمرها اطلاقاً من قبل, وقلت أنها تحب أن تعيش وحدها, وكنت دائماً تقولين أنك أحببت الجزيرة , وستشعرين بالحزن لو رحلت عنها". وأعقب ذلك صمت غريب, ولهذا السبب ظلت تؤجل الأمر حتى الآن, قالت: -" جيني... أريد فقط أن أرحل, وأرجوك ألا تسأليني أية أسئلة أخرى". وتجاهلت جيني توسلاتها وسألت: -"براين؟ أنك مضطربة جداً بسبب انفصالك عنه". -" كان الأمر مثيراً للأضطراب الى حد ما ". جاء هذا الرد المراوغ من شاني , ربما كانت تلك أفضل وسيلة للخروج من المأزق , لتدع الجميع يعتقدون أنها سترحل بسبب براين, أنها لا تستطيع أن تفكر في عذر آخر, كان هذا عذراً ضعيفاً, وسيعطي انطباعاً بأن شاني بطبيعتها لا تميل الى الأستقرار , لكنه سيفي بالغرض. وقالت صديقتها بطريقة فظة: -" في رأيي أن لقاءك به كان أمراً مؤسفاً , فهو انسان عابث ولا أعتقد أنه سيتغير سلوكه على الأطلاق". وتوقفت , لكن شاني ظلت صامتة ومضت تقول: -" لم تقدمي تفسيراً بشأن هذا الأمر, ولم تقولي اطلاقاً كيف حدث؟". -" كان هناك سبب قوي جداً, لكن لا أستطيع التحدث عنه , حتى معك". -" آسفة, ... أود لو أستطيع مساعدتك". وظهرت سحابة قاتمة على وجه جيني وقالت : -"هل اتخذت قرارك بالرحيل نهائياً؟". -" الرئيسة تعلم, وهي تبحث بالفعل عن بديلة". -" أذن ليس هناك احتمال بأن تغيري رأيك؟". -" ليس هناك أي احتمال". لو أمكنها فقط أن تفضي بسرها, سيساعدها هذا بالتأكيد على ازاحة عبء ثقيل من الأسى واليأس عن كاهلها, فقد استمر أندرياس يعاملها بلا مبالاة قاسية , لكن الأفضاء بسرها مستحيل, وقالت بفتور: -" سأعود الى الوطن قبيل الميلاد". -" بمثل هذه السرعة؟ بعد أقل من ستة أسابيع". -" بل خمسة أسابيع". ردت شاني بذلك وبدأت تعد الأيام. وقالت جيني بعد فترة: -" أعتقد أنك تعرفين ما تفعلين لكنني متأكدة أنك ستشعرين بالأسف , أنني لم أصادف بعد أحداً يمكنه أن يغادر هذه الجزيرة بدون أن يشعر بالأسف". وفكرت شاني , ولا أنا سأرحل بدون أسف... أسف مرير لأنها لمتر النور قبل الآن, لو أمكنها فقط أن تعود القهقرى وتعيش مرة أخرى تلك الأيام التي عاشتها في كوز, لو أنها فقط لم تكن مفعمة بالشك أزاء براين لوافقت على شهر العسل , ولأصبحت الآن مع زوجها , بحث عنها ووجدها أخيراً, وطلب منها أن تعيش معه ونصحها قائلاً: فكري في الأمر يا شاني, فأمامنا طريق طويلة يمكن أن تتسم بالشعور بالوحدة, وخلال الأجازة حاول جاهداً التقرب اليها ولكنها رفضته , وأرهقته المحاولات حتى ماتت كل رغبة فيها, ولا بد أن تفقد هي الأمل مثله, ربما لو لم يظهر لها الرغبة الجامحة في التملك , لنظرت اليه نظرة مختلفة , أتى الى قبرص يحدوه الأمل في استعادتها , والواضح أنه لم يكن يتوقع الأصابة بصدمة دخول رجل آخر في حياتها, هذا أشعل نيران غضبه , وظهرت سماته البدائية واضحة. ومنذ ذلك الحين اكتشفت شاني جانباً مختلفاً تماماً في طبيعته, لمست منه الطيبة والعناية الرقيقة عندما كانت في الأجازة معه, وفيما بعد لمست رقته كحبيب. وسرعان ما انتشرت أنباء رحيلها , لكن لدهشتها لم يسألها أحد عن السبب , لا بد أن جيني أوضحت لهم الأمر, فتجنبوا احراجها لكن الأقاويل ستتردد , وسوف يعرف أندرياس كالآخرين السبب المفترض لرحيلها, وسيظن أن هناك أكثر من مجرد شجار بين حبيبين , فهو جعل الزواج بين شاني وبراين مستحيلاً... ليتها كانت تستطيع فقط أن تذهب اليه وتخبره بأن هذا الأمر لا علاقة له ببراين, ولكنه يتعلق به هو من كل الجوانب, وكان هو الوحيد الذي لم يتحدث اطلاقاً عن رحيلها, وبدا أخيراً غارقاً في حالة لا مبالاة فاترة, في غرفة العمليات كان يصدر الأوامر وهي تطيع, وفي عنابر المرضى كانت جيني أو أية من الممرضات الأخريات يرافقنه في جولته, يتنفسن الصعداء عندما تنتهي المحنة, ولم يكن يبدو انساناً طيباً الا مع المرضى, حيث يسأل عن راحتهم واذا كانت لديهم أية شكاوى, وكانت ليديا تحوم حوله وقد أصبحت تقوم الآن ببعض الأعمال الكتابية لعديد من الأطباء , لكنها كثيراً ما كانت تذهب الى منزل أندرياس ,وترددت تعليقات حول هذا الموضوع. وبعد ظهر أحد الأيام دخلت ليديا الى غرفة العمليات , بينما كانت شاني تعد العدة لجراحة سيجريها أندرياس فيما بعد, كانت ليديا تحمل حقيبة أوراق كتب عليها الحرفان الأولان من اسم أندرياس (أ_م) وتجهمت شاني للحظة, ربما كانت ليديا تقوم بعمل لأندرياس أيضا, وكان هذا معقولاً اذ لديها متسع كبير من الوقت. وحدقت شاني بتساؤل في زائرتها, ورغم أن وجهها كان شاحباً كان متماسكاً بشكل جميل, وكانت مستغرقة في أفكارها بشأن طفلها , أنها تريده صبياً لكنها تشعر بأنه سيكون شبيهاً بها, ويكتسب لون بشرتها المتوردة, ومن ناحية أخرى لو كانت بنتاً فأنها ستشبه أندرياس... سمراء بملامح قوية دقيقة, أندرياس بالطبع سيرغب في انجاب صبي لأن جميع الرجال اليونانيين يرغبون أن يكون أول أطفالهم ذكراً, وهكذا تأمل أن يكون, لكن لو كان صبياً فسيضيع بلا أب عندما يحتاج الى رفقة, أما البنت فلن تفتقد أباها كثيراً, الأفضل اذن أن تتمنى ... وابتسمت شاني لنفسها... وما جدوى كل هذه المفاضلة؟. واقتربت ليديا من شاني وهي تفحص الأدوات وقالت: -" لدي رسالة لك". -" نعم؟". -" ايفينيا من القرية طلبت مني أن أخبرك بأن طلبك جاهز, أعدت لك بعض فوط المائدة المشغولة". -" أشكرك لنقلك الرسالة, سأذهب لأحضارها غداً". وعلقت ليديا بعد فترة: -" سمعت أنك سترحلين عنا؟". -" أجل , أني راحلة". -" قبل الميلاد؟". -" صحيح". وتركت شاني مهمتها وابتعدت لتفحص الأسطوانات , وهي تأمل في أن تفهم ليديا وترحل, لكنها بقيت بجانب المنضدة ثم قالت: -" هذه مفاجأة تامة!". ونظرت شاني اليها, وتذكرت تأكيد ليديا بأنها هي وأندرياس يحتمل أن يعلنا خطبتهما عقب عودته من كوز, وكانت ليديا تأمل أن يصحبها معه الى الجزيرة, ولم يصحبها معه, واستنتجت أنه ذهب وحده... أية صدمة ستتلقاها لو علمت أنه ذهب الى هناك مع زوجته!. وعندما أصبح واضحاً أن شاني لن تتكلم قالت ليديا بفتور: -" هناك تكهنات عن سبب قرارك غير المتوقع بالرحيل... أفراد طاقم المستشفى يعتقدون أن هذا يرجع الى خلاف نشب بينك وبين الشاب صديقك". وتحركت الى حيث كانت شاني تفحص مرة أخرى عربات نقل الأدوات التي أعدتها من قبل, الجراحة لن تجري قبل الرابعة, فقد أجرى أندرياس جراحة في نيقوسيا في الصباح, وهو الآن يستمتع بقسط من الراحة, وأردفت الفتاة : -" لكن هذا ليس السبب الحقيقي , أليس كذلك؟". -" لا أعتقد أنني أفهمك يا آنسة موراي؟". وانطلقت ضحكة ساخرة أثارت أعصاب شاني وقالت ليديا: -" لا يبدو أن أحداً غيري لاحظ , لكنه واضح جداً لي منذ فترة أنك تطمعين في رئيسك, وهذا ليس جديداً بالطبع, فالممرضات كثيراً ما يطمحن الى الزواج بالأطباء , ولكنهن نادراً ما ينجحن , وأعتقد أنك تجدين الموقف مستحيلاً؟". وقالت شاني بنبرات باردة كالثلج: -" آنسة موراي , هلا غادرت غرفة عملياتي!". وضاقت عينا ليديا , وخيَم اللون الداكن على وجنتيها وقالت: -" حذرتك قبلاً من افتقارك الى الأحترام , واذا لم تكوني دقيقة فأنني سأبلغ الرئيسة عنك". -" أفعلي هذا بكل رضا, اذا كنت ترين أن لك شكوى". واتجهت نظراتها نحو الباب... لا بد أن فترة راحة أندرياس قصيرة لأنه دخل في تلك اللحظة , واحمر وجه شاني , كذلك وجه ليديا, وأخذ أندرياس ينقل نظراته بين كل منهما متسائلاً , لكن أيا منهما لم تتحدث , وسأل شاني: -" أهناك شيء ما؟". -" لا يا سيدي". -" لكنني متأكد أن هناك شيئاً ما... ليديا و لماذا انت هنا؟". -" جئت لتسليم الأخت ريفز رسالة". وابتسمت , وفي الوقت نفسه كانت تهز رأسها تعبيراً عن الحيرة ثم أضافت: -" وبدلاً من أن تشكرني أمرتني بالخروج". -" حقاً؟". وتركزت عينيه على شاني , وارتسمت في أعماقهما أغرب تعبيرات وأضاف: -" هل هذا صحيح؟". -" شكرتها...". وللحظة نسيت شاني أن أندرياس هو رئيسها في المستشفى, وأردفت: -" شتمتني , ولا أريدها هنا! وهكذا يمكنك أن تطلب منها الخروج". وأعقب كلماتها صمت مخيف, ووضعت يداً مرتعشة على فمها, لكنها لم تستطع أن ترغم نفسها على الأعتذار, واستمر أندرياس ينظر اليها بتلك النظرة الغريبة, ورغم أنه أنَبها بقسوة خالجها أنطباع لا تفسير له بأنه فعل ذلك لمجرد أنه ليس لديه مجال للأختيار , حيث أن ليديا كانت شاهدة على أنفجارها الذي لا ينم عن الأحترام. وارتسم على وجه ليديا تعبير الفوز الممتزج بالغموض وهي تنقل نظراتها بين شاني وأندرياس الذي- رغم كلمات اللوم والتحذير القاسية- كان لا يزال ينظر الى زوجته بلهفة أكثر منه بغضب. ولم تلاحظ شاني اياً منهما , حدقت في الأرض واحمر وجهها واشتدت حرارته من أثر المحاضرة التي ألقت عليها للتو, كانت غاضبة من نفسها وأشد غضباً أزاء ليديا لأنها أثارتها بهذه الطريقة التي فقدت معها السيطرة على نفسها, وكانت غاضبة على نحو غير منطقي, من زوجها لأنه جاء الى غرفة العمليات بدون توقع, لم يكن له الحق في المجيء الى غرفة العمليات في هذا الوقت قبل موعده! وكان ينتظر أن تنظر اليه حتى يتحدث اليها, وشعرت بذلك فتعمدت أن تستمر في خفض رأسها, ولذلك تحدث مع ليديا بدلاً منها: -" لماذا أمرتك الأخت بالخروج؟ لا بد أن يكون هناك سبب لذلك". -" أنني لا أعرف حقيقة يا أندرياس". كان صوتها خفيضاً وهي تتصرف بطريقة من تريد أن تبدو متسامحة, وراغبة في تخفيف حدة موقف غريب وأضافت: -" من المحتمل أن تكون الأخت ريفز مرهقة, ومن ثم سريعة الغضب". قالت ذلك وهي تبتسم بسرور ثم أردفت: -" الأخت تعمل هنا والمفهوم أنها ترغب في القيام بعملها بدون مقاطعة وأنا أفهم ذلك". واتسعت عيناها الجميلتان اللتان أخذتا تنظران في عينيه بينما انفرجت شفتاها بالنداء, ونظرت شاني لترى ابتسامة سريعة ترتسم على وجه زوجها الذي قال بنعومة موافقاً: -" أعتقد أنك على حق يا ليديا, كان كرماً منك أن تدعي المسألة تمر بهذه الرقة, وأنا واثق من أن الأخت ريفز عندما تشعر بأنها أقل ارهاقاً ستعترف بذلك عن طيب خاطر وتعتذر عن وقاحتها". وارتفع ذقن شاني , لكن شيئاً ما لم يكن يستطيع أن يسحب الكلام من بين شفتيها ما دامت ليديا في الغرفة, وتجاهلت كليهما, وبدأت تعد الآلات من جديد, وهي تأمل أن يؤدي تصرفها هذه المرة الى التأثير المرغوب, وقالت ليديا: -" سأذهب الآن يا أندرياس , هل أراك قبل المساء؟". واختلس نظرة الى حقيبة الأوراق التي تحملها ثم الى ساعته وقال: -" هل ستذهبين الى بيتي الآن؟". -" أجل, كنت في طريقي الى هناك عندما تذكرت الرسالة التي وعدت بنقلها الى الأخت ريفز". -" أعدي قدراً من الشاي, سأكون معك بعد بضع دقائق... لديك مفتاحك؟". -" أجل". ونظرت ليديا في اتجاه شاني نظرة خبيثة , ثم منحت أندرياس ابتسامة رائعة ثم رحلت, وحينئذ قالت شاني وقد خف غضبها: -"لم يكن ينبغي لي أن أتحدث معك بهذه الطريقة , خاصة أمام الآنسة موراي". وتوقعت أن يرتسم في عينيه تعبير قاس صارم , لكن كان كل ما رأته هو أن التعبير الغريب تغلغل في أعماقهما مرة أخرى, قال: -" لم تكن لدي فكرة أنك تكرهين الآنسة موراي". وشعرت بالحيرة, أين الأسلوب المتشدد الذي أصبحت معتادة عليه الآن , وردت: -" لأ أهتم بالآنسة موراي فأستطيع أن أحبها أو أكرهها". -" لا تهتمين؟ لماذا اذن أمرتها بالخروج؟". -" ليس لها أي حق في الوجود هنا". -" سبب وجودها هنا يبدو معقولاً, نقلت اليك مشكورة رسالة تهمك". -" ما أقصده هو أنها لم يكن لها أي حق في البقاء ... أعني بعدما سلمتني الرسالة". -" لماذا بقيت؟". -" لا يهم". ردت شاني بذلك وقد نفذ صبرها, لماذا يشغل أندرياس نفسه بحادثة تافهة كهذه, ثم أضافت: -" لن يهمك أن تعرف". وقال متجاهلاً تعليقاتها: -" قلت أنها شتمتك... ماذا قالت لتثير غضبك الى هذا الحد؟". -" لا يمكنني أن أخبرك". أين الولاء الذي يدين به لليديا ؟ أم أنه لا يدين لها بأي ولاء؟ ولا تعني بالنسبة اليه أكثر من ما تعنيه بالنسبة الى أي من الأطباء الآخرين الذين تقوم لهم بأعمالهم؟ الواضح الآن أنها تقوم بآداء عمل لأندرياس, فهو يكتب المقالات والتقارير وبالطبع يحتاج الى كتابتها على الآلة الكاتبة, وعبست شاني , لا يمكن أن تكون العلاقة مجرد علاقة عمل لأن أندرياس وليديا يخرجان معاً في بعض المناسبات , ومن المعروف أنه تناول العشاء عدة مرات مع والدي ليديا في بيتهم. -" لا يمكنك أن تخبريني... ايه؟ لا بد أن يكون هناك سبب قوي يجعلك لا تستطيعين ذلك؟". ولم تقل شيئا وبعد لحظة سأل أندرياس بنعومة: -"قد يكون هناك شيء ستخبرينني به". ونظر مباشرة اليها , ووجدت صعوبة في مواجهة نظرته , ثم أضاف: -" هل أنت عائدة الى بلادك حقيقة بسبب الأنفصال عن براين؟". وخفق قلبها ... أنه يبدو كما لو كان يتغلغل في أعماق روحها , وكان سؤاله غريب وغير متوقع... انه طبيب, ... هل من الممكن أن تكون بذور الشك بدأت تترعرع في عقله؟ ولو عرف بنبأ الطفل هل سيعرض عليها أن تبقى معه رغم أنه , باعترافه, لم يعد يهتم بها! ولو رفضت عرضه فسيأخذ الطفل منها, والقانون يمكن أن يمنحه هذا الحق, وكذبت يائسة: -" أجل... بالتأكيد من أجل براين". وظلت نظرته اليها لحظة طويلة مخيفة, ثم تكورت شفتاه وقال: -" أعتقد أنك تعتبرينني مسؤولاً عن هذا الأنقلاب في حياتك؟". -" أنك مسؤول". همست بذلك دون حاجة بها لأن تكذب هذه المرة, ورد عليها بلهجة تتسم بشيء من السخرية: -" كنت سأمنحك شرف الأتصاف بالشجاعة... وكنت ستتغلبين على الأزمة في الوقت المناسب , فلم تكن هناك حاجة الى اتخاذ مثل هذا القرار المتهور". وتوهجت عيناها بشكل غريب وهي تقول: -" لماذا تهتم يا أندرياس؟ قلت أنت بنفسك أنك لم تعد تهتم بي". وكان صوتها منخفضاً أجش يحمل نبرة توسل يائسة لم يفهمها زوجها , وقال: -" أنك على حق , فقدت اهتمامي بك , اذن لماذا أزعج نفسي بمستقبلك؟". وبنظرة احتقار جارفة تركها تقف هناك , وقد استندت يدها المرتعشة على عربة المعدات بعدما أندثر شعاع الأمل الرفيع في نفسها بالسرعة التي ولد بها.
-------------------------
9- الرقص على اللهب
كان العمل مع أندرياس مرهقاً من قبل , لكن بعد ثورة الغضب القصيرة تلك في غرفة العمليات أصبح بغيضاً حقاً, وبدأت شاني تتمنى لو أنها أخذت بنصيحة الرئيسة ورحلت مباشرة , لكنها مضطرة للأستمرار في العمل لأن بديلتها لن تأتي قبل أربعة أسابيع أخرى, كان رقص على اللهب أندرياس أثناء العمل يوجه اليها كلمات لا ذعة, وعندما يكونان في أوقات غير العمل كان يعاملها بلا أكتراث, وكان هذا يبدو أوضح أثناء العلاقات الأجتماعية, اذ كان من المعتاد أن يقيم أحد أفراد طاقم المستشفى لقاء من تلك اللقاءات أحياناً في غرفة الرئيسة. وأحيانا في المقهى المحلي , وفي هذه المناسبات تسقط جميع الرسميات وتستخدم الأسماء الأولى في الحديث , وكانت شاني , محبوبة من الجميع عدا أندرياس الذي كان يتجنب الحديث معها عمداً. وأرضى هذا ليديا , لكن كانت هناك نظرة حائرة في عينيها , وغالباً ما كانت تنقل النظر بين شاني وأندرياس وقد ظهرت تقطيبة على ملامحها الوسيمة. -" ماذا جرى لليديا؟ أنها ترمقك بأغرب النظرات". سألت جيني شاني هذا السؤال ذات أمسية وهما تحضران حفلاً في حديقة المقهى , بمناسبة الأحتفال بميلاد غلوفر, وحضر هذا الحفل عدد كبير من طاقم المستشفى. من بينهم شاني وأندرياس. -" أننا لا ننسجم مع بعضنا". ردت شاني بذلك وهي تهز كتفيها بلا مبالاة وتراقب في الوقت نفسه ليديا باشمئزاز وهي ترنو بنظرات الوله الى أندرياس. وقالت كريستالا: -" ومن ينسجم معها؟ لا أحد...". وصححت جيني لزميلتها قائلة: -" ـندرياس مانو... أنني أتساءل ما ستفعله عندما يرحل!" وتدخل الدكتور غوردون في الحديث وهو يهز رأسه وقد ظهرت تقطيبة على وجهه وقال: -" من المحتمل أن تتبعه ... لا أستطيع أن أرى سبب انجذابه اليها , فهي ليست من النوع الذي يلائم أندرياس". -" أنها تقوم ببعض الأعمال له". قالت شاني ذلك ووجهت نظراتها مرة أخرى ال ليديا , التي كانت تتحدث مع أندرياس وفي الوقت نفسه , تضع يدها على ذراعه كنوع من تأكيد العلاقة. واختلس أندرياس نظرة الى حيث كانت مجموعة شاني الصغيرة تتحدث, وكأنه شعر بأنه هو مثار الأهتمام , ونظر بلامبالاة الى شاني ثم استدار مرة أخرى الى رفيقته , التي كانت كأسها فارغة فرافقها. وقالت كريستالا: -" أعتقد أنه يصطحبها من حين لآخر فقط , وأعتقد أنه كثيراً ما يعمل في البيت". وعلقت جيني: -" أن لليديا أبوين ساحرين , ومن المحتمل أن يذهب لمقابلتهما عندما يتناول العشاء في بيتها". وقال الدكتور غوردون وهو يمعن في التفكير: -" أجل ... أنت على حق فيما يتعلق بأبويها , فهما ساحران, وتناولت أنا نفسي العشاء معهما في مناسبتين". وبدأ عازفو فرقة الموسيقى الشعبية الأربعة العزف، ونهض كثيثرون للرقص على أرض الحلبة ، كل زوجين معاً ، بينما هي ركن آخر بدأ ثلاثة من القبارصة تقديم واحدة من أكثر الرقصات اليونانية حيوية. وبعد فترة توقفت الموسيقى ، وأحيلت ( الحلبة) ونهض يانيس حارس قلعة كيريتيا ، وفي الحال دوت عاصفة من صيحات الابتهاج ، اذ كان يانيس النجم الجذاب في أي حفل..كان مرحاً واوروميا للغاية في سلوكه، اذا ظل يعمل في انكلترا عدة سنوات ، ومع ذلك كان مثالاً لليوناني القبرصي، صريحاً ، كريماً، وساذجاً الى حدما، كذلك كان وسيماً ورشيقاً كاي شاب في العشرين من عمره، وقد عرف الجميع بانيس وأحبوه. ورقص رقصاً متواصلاً دون أن يصيبه التعب ، وأخذ يقفز في الهواء وتلوى بسرعة على انغام فرقة البوركي السريعة النابضة ، وأخيراً جلس بجوار أندرياس ، وتحدثا فترة من الوقت، ولكن حينما جلس بدأت الموسيقى تعزف مرة أخرى اتجه نحوشاني وقال ضاحكاً : - تعالي لنريهم كيف نرقص! - شاني ! أجل اننا نريد شاني ... أنها الوحيدة التي تؤدي الرقصة مثل أي قبرصي! جاء هذا الهتاف من الجميع وقالت شاني : - أرجوك يانيس... ليس أمام جميع هؤلاء الناس. لكن كلماتها ضاعت وسط الهتاف ، وأوقفها يانيس على قدميها. كانت الرقصة بطيئة وصعبة، لكن شاني ويانيس كانا خبيرين بها، وقد أمسكا بمنديلين وأخذا يضمانهما ويلوحان بهما بطريقة تعطي تأكيداً خاصاً للانحناءات الرشيقة، كانت الحديقة المظللة على البحر، وعازفو الموسيقى الشعبية بملابسهم الزاهية الألوان ، والأنوار المتلألئة التي تكاد تختفي بين أغصان الكروم، والتصفيق الهادئ الايقاعي... كل هذا ساهم في نجاح العرض الراقص الشيق، وكانت تلك الرقصة تمتد جذورها الى العصور القديمة، وحركاتها تعبر عن طقوس التضحية في العصور الهمجية ،رقص شاني و يانيس مثلما كانت الرقصة تؤدى منذ أكثر من ألفي عام عند المذبح في اليونان القديمة، ونسيت شاني وجود الحاضرين ، ونسيت حتى همومها ، ورقصت استمتاعاً بحياتها، واحمر وجهها ولمعت عيناها وكان جسمها الرشيق الجميل يتحرك في تكامل ولم تتلامس هي وشريكها اطلاقاً لكنهما رقصا في انسجام كامل وكانت خطواتهما خفيفة ودقيقة. وفجأة لمحت عيني زوجها ورأت فيهما الاعجاب و الدهشة معا.وذهبت أفكارها رغماً عنها الى ذلك اليوم في كوز، حين رقص لهما صائد الاسفنج كاليموس رقصة جميلة، وعرفت غريزياً أن أندرياس عاد بأفكاره أيضاً الى كوز، عندما انتهيا من الرقصة دوى التصفيق وهتف الجميع من أجل المزيد.www.liilas.com/vb3 وجلست شاني وقد احمر وجهها وبدت عليها السعادة، كان الفرح يبدو على الجميع إلا ليديا التي اسود وجهها جداً، وهتف يانيس وهو يقدم كأساً اليها: - كانت الرقصة رائعة، شاني هي افضل الانكيز جميعاً في قبرص! وتساءلت : وهل يرقص أندرياس كثيراً؟ كانت تفكر في ذلك عندما رأت لدهشتها ، أنه هو و الدكتور شارا لامبيدر و يانيس الذي لا بكل شرعوا بالرقصة المعروفة في قبرص فقط، ( رقصة المنجل) مما كاد يسحقها: - هل لها معنى خاص؟ وجهت جيني هذا السؤال الى كريستالا، فكانت المناجل تتحرك أحياناً كما لو كان ذلك وقت الحصاد ، بينما اتخذت الحركات الأخرى بشكل سوط يحيط بالأجسام؟ وردت كريستلا شارحة: - انها نوع من الرقص الرمزي، لكن جذورها فقدت، ولابد أن لها علاقة بالخصوبة وجني المحصول، وكانت تؤدي في المهرجانات التي تقام تكريماً للأرض. - ولماذا ترقص في قبرص فقط؟ - لا أعرف ، بدأت أصلاً في اسبرطة ، ونقلها الدوزيون. الى هنا، وفي اسبرطة كانت أرتيس هي الخصوبة، ومثيلتها هنا في أفروديت، ولعل هذا هو السبب في أنها بقيت فترة أطول في قبرص، حيث تعتبر الرقصة متأصلة بقوة لأن أفروديت ولدت هنا. - لكن أفروديت هي الحب؟ ردت كريستالا ضاحكة: - والخصوبة.. والجمال..أن لها عدة أشكال... وكانت هذه الرقصة صعبة أيضاً، لكن الواضح أنها رقصة الرجال وعندما كان المنجل يستخدم في حركة السوط كان يمثل التفاف السوط حول الجسم عند مذبح ارميس القديم حيث كان الشباب اسبرطة يدخلون في مباريات لمدى التحمل و المشاق. ورأت شاني أندرياس وهو يعبر الممر، وتذكرت آثار خوفها وهي في الثامنة عشرة من عمرها وتعيش في كنف أبيها، ولم تتركه وحده الا عندما اضطرت الى ذلك، ولاعجب في أن أندرياس أخافها ، لكنها ليست خائفة الآن.www.liilas.com/vb3 كان مظهره العنيف بغيضاً ، لكنها عرفت الرقة التي تنطوي عليها نفسه، وقدم لها مثالاً بسيطاً للرعاية والاهتمام اللذين كانا سيغمرانها لو أنها فقط اكتشفت مشاعرها في وقت أسرع قليلاً، قبل أن يفقد زوجها اهتمامه بها. راقبت شاني الراقصين مبهورة، وهي تحول نظراتها من حين الى آخر الى وجه زوجها، وذكرها التعبير الذي ارتسم عليه بأن عقيدة الاغريق القدامى كانت هي الحرية والكبرياء و المنافسة النبيلة، ويقال ان الرقص وسيلة يمكن من خلالها ايجاد توازن بين الروح و المادة، ويعبر عن المشاعر و الأحاسيس الأنسانية، ويستمد الجمال من أعماق الروح العميقة، وعبثاً حاولت أن تبعد فكرة أن وجه زوجها ينطق بالحزن الذي يختفي وراء قناع التركيز ، كان حزيناً وبائساء و تجهمت شاني، وحولت عينيها لتنظر الى يديها. لكن تغيير الرؤية لم يؤد الا الى العودة الى صورة أندرياس كما رأته في احدى الأمسيات بعدما ذهبت الى بيته لمناقشة مسألة الغاء الزواج، عندما التفتت وكان جالساً هناك يدفن رأسه بين يديه. وأنتهت الرقصة ، ومرة أخرى ارتفع الهتاف و التصفيق و المطالبة بالمزيد ، ونظرت شاني لتقابل نظرة زوجها ،لم يكن يبدو على الاطلاق يائساً أو حزيناً، لكنه يبتسم بفتور لشيء يقوله يانيس ، واستطاعت شاني أن تبعد فكرة أن أندرياس غير سعيد. وقدمت المرطبات، ثم عرضت رقصة جماعية أكثر رزانة، وسهولة، ووجدت شاني نفسها تقف بجانب زوجها، يده استقرت فوق كتفه ويدها برفق فوق كتفه، وبينما كانا يرقصان أحنى رأسه قريباً من رأسها وهمس في لهجة ساخرة بعض الشيء لكنها مختلفة بالمديح بشكل لا يخطئه أحد: - شاني ، انك ملئية بالمفاجأت ... بعضها بهيج جداً حقاً ... بعضها بهيج جداً حقاً ، أمعنت شاني التفكير في هذه العبارة ، فمن بين المفاجأت غير البهيجة ظنه أنها وافقت على تصرف براين بتهديده، وآلمها أنه صدق ذلك، ومما يدعو للسخرية ان تدخل براين جاء بعدما قررت عدم الزواج منه ، وعندما كانت تفكر جديا في احتمال الحياة مع زوجها ، هل كانت الأمور ستختلف لو أن براين لم يتدخل؟. بدا غريباً للغاية أنه بعدما أرغمها على الزواج ، ثم تحمل مشقة البحث عنها، يفقد أندرياس اهتمامه بها، كان التغيير مفاجئاً ، لاشك في هذا، لأنه طوال الإجازة كان مهتماً بها الى أقصى الحدود، أيمكن أن يقول أنه فقد الاهتمام بها فقط لأنه يشعر بالألم من فكرة أنها مازالت تفضل براين، بعد الإجازة الرائعة التي قضياها معاً؟ ربما، ينبغي لها أن تحاول مرة أخرى، لكن لا، انها مغامرة كبيرة، فقد كان اندرياس مصمماً في قوله بأنه لم يعد يريدها، ولو اعترفت بكل شيء، الآن لأصبحت تحت سيطرته مرة أخرى... من أجل الطفل سيقدم لها بيتاً، فان أن تقبل و تعيش مع رجل لا يريدها، أو أن يشاركها الطفل... أنها لا تشك لحظة أنه لن يلين في مسألة الطفل، لأن الآباء اليونانيين آباء مثاليون، انهم يحبون أطفالهم حباً شديداً. ....لا... إنها لا تجرؤ على القيام بمثل هذه المغامرة الكبيرة. وعندما انتهت الرقصة ظل أندرياس يتحدث مع الدكتور غوردون لفترة قصيرة، ثم سار معه بطريقة آلية، الى حيث كانت شاني تجلس مع مجموعتها الصغيرة. وركزت جيني صديقتها برفق ، فقد نهضت ليديا وتقدمت للانضمام اليهم، وقالت جيني بلهجة أغاظة: - انها مثيرة، وأنا أقر لها بذلك. وضحكت كريستالا قائلة: - أنك فتاة لعوب. - من اللعوب؟ وعمن يدور هذا الكلام؟ تساءل الدكتور غوردون وهو يجلس في مواجهة شاني ، لكن أندرياس بقي واقفاً لحظة، وهو يراقب زوجته التي أخذت بدورها تراقب تقدم ليديا مواري نحوهم في تمهل ، ورفعت شاني بصرها ولسبب غير مفهوم احمر وجهها خجلاً فاندفع الدكتور غوردون قائلاً: - لست أنت ياشاني... وألقى نظرة سريعة على أندرياس تم نظر الى ليديا ، وسرقت في ذهن شاني الكلمات المراوغة التي قالتها الرئيسة للطبيب يوم أغمي عليها في غرفة الرئيسة، وبذلت شاني جهداً لتضحك وهي تهز رأسها، وأشرق وجه دكتور غورودن مما بعث الارتياح في نفسها. ولكن ماذا عن أندرياس؟ كان تعبيره غريباً للغاية في الواقع، التعبير المبهم نفسه الذي ظهر على وجهه أثناء المواجهة مع ليديا في غرفة العمليات، حيث بدا كأنه يشك في أن زوجته تشعر بالغيرة، هل يمكن أن يكون تفكيره متصرفاً الى أنها الآن بعدما خسرت براين بدأت تستاء من ارتباطه بليديا؟ لاشك أن هذا سيبعث في نفسه الرضى الى أقصى حده، وربما لهذا أيضاً أصبح فجأة، لطيفاً مع ليديا بصفة خاصة ذلك اليوم ومتشدداً مع زوجته، الى درجة أنه اقترح عليها أن تعتذر للمرأة البغيضة. وأجفلت شاني ... غيورة؟ ينبغي أن لا تنتابه مثل هذه الافكار التي ترضي غروره ،اذا لم يكن مهتماً بها فأنها ليست مهتمة به ولا بصديقاته. وأحضر أندرياس كرسياً لليديا ثم جلس بجوارها , لكن عينيه كانتا مركزتين على شاني , وأخذ يتفحص وجهها الذي اشتدت حمرته وهو غارق في التفكير... وقالت الأخت لوزيدز بفضول: -"أندرياس , أنت يوناني , اذن كيف استطعت أن تقدم رقصة المنجل بهذه البراعة ؟ أنها لا تعرض في بلادكم, ولذلك لا يمكنك أن تكون تعلمتها هناك". -" عشت في قبرص سنوات عديدة وأنا صبي". -"هذا يفسر الأمر , لن تكون قادراً على الأسترخاء هكذا عندما تعود الى أنكلترا, فالأنكليز متحفظون الى حد كبير, مع اعتذاري لجميع الأصدقاء الأنكليز هنا". -" لا , في الواقع , فأنني سأضطر الى الأحتفاظ بوقاري للغاية". وفكرت شاني... أنه دائماً سيكون وقوراً , وخلال الرقصة ظهر وقاره المتأصل في كل حركة , في الأنسجام والأعتدال , في دفع المنجل بقوة, ولكن برشاقة مع ذلك. -" وشاني أيضا سترحل عنا". تنهدت جيني وهي تقول ذلك, وقد أتضح أن أسفها يشمل أندرياس أيضاً , رغم تذمرها المتكرر من قسوته, وتعالي أسلوبه, وأضافت: -" ألن تكون فرصة لطيفة لو تقابلتما مرة أخرى في لندن؟ ووجدتما نفسيكما تعملان معا في المستشفى نفسه؟". واختلست شاني نظرة بالغريزة الى أندرياس , حيث أدركت أنه يتعمد تجنب عينيها , وتذكرت أمله الذي عبَر عنه بقوة في ألا يراها ثانية اطلاقاً عندما يرحل عن لوتراس , ولم يكن يعلم وقتئذ أنها سترحل أولاً, وأن آماله ستتحقق بأسرع مما كان يتوقع. وقالت براندا موافقة: -"هذا محتمل, لأنك ستعملين في لندن , أليس كذلك يا شاني؟". -" أنني ...". كانت شاني على وشك أن تقول بأنها لا يحتمل أن تعمل في لندن , لكنها توقفت اذ أدركت أن عيني ليديا الداكنتين مركزتان عليها , في تعبير حاقد , ثم أضافت في نبرات فاترة: -" ربما أعمل في لندن, في وقت ما". ونسيت شاني وهي تقول ذلك وجود الدكتور غوردون الذي كان لبقاً فأحجم عن النظر الى شاني أو الأشتراك في الحديث. ورفع أندرياس بصره بسرعة, فتسربت حمرة الخجل الى وجنتي شاني الجميلتين , ها كان قلقاً؟ أكان متوجساً أن تقتحم عليه حياته مرة أخرى ؟ وارتعشت عندما رأت ليديا تعطي كأسها الفارغة الى أندرياس, كانت ليديا تبتسم له, لكنها ظلت تبتلع غصة في حلقها بصعوبة, ولم يكن صعباً أن تراها وقد تأثرت بعمق مما أشارت اليه شاني من أنها يحتمل أن تعمل في لندن. وأزاحت ابتسامة سريعة تقطيبة شاني عندما انضم يانيس الى مجموعتها الصغيرة, وأخذ يتحدث ويشرب ويدخن غليونه, ثم بعد فترة قصيرة , أقترح أن ترقص شاني وأندرياس معا , مما أثار ذعر شاني الى حد كبير. أنها لا تستطيع أن ترقص مع أندرياس, وعلى أية حال فهو لن يرغب في الرقص معها , وعبست ليديا من اقتراح يانيس , لكنه بالطبع لم يلاحظ ذلك, ولدهشة شاني كان أندرياس مستعداً للرقص معها, وقد جاءت الدعوة واضحة من النظرة التي وجهها اليها, وسيكون محرجاً للغاية أن ترقص مع زوجها , وبدأت شاني تهز رأسها , وبينما كانت ليديا لا تزال عابسة, مد أندرياس يده الى شاني التي أمسكت بها, مما سمح له أن يقودها الى الحلبة. وكانت الرقصة مختلفة عن رقصة (المتاهة) المعروفة في كنوسوس , والتي أدَاها تيسيوس والفتيان والفتيات الذين أنقذهم من مينو طور(7) وحش كريت الهائل, وكانت أهمية تلك الرقصة , التي قدمت على مذبح أبوللو , أنها كانت أول مناسبة في تاريخ اليونان يرقص فيها الرجال والنساء معا. وفي معظم مراحل الرقص كانت حركات الجسم تتألف من أنتاءات وانحناءات تعبر عن المتاهة, وأحياناً كان لا بد أن تكون المرأة في حالة الخضوع , مسبلة الجفنين وأن تقوم بحركات مترددة خجول , بينما على النقيض الحاد تكون قفزات الرجل والتفاتاته قوية حادة باعتباره القاتل الشجاع المتوقع للمينو طور. وأستخدمت شاني منديلها بطريقة فريدة ومؤثرة بشكل بارز, حيث عبرت عن أسى أردياني التي هجرها حبيبها بعدما أخرجته بسلام من المتاهة عن طريق كرة من الخيوط , وكان المنديل يمثل حجاباً مزقته أردياني في محنتها , واستخدمته لتجفيف دموعها , وفي الجولة الأخيرة الحزينة من الرقصة تلوح بالمنديل في سلسلة ايماءات يائسة بينما تحمله السفينة ثيسيوس ليبتعد أكثر فأكثر عن الجزيرة التي قضى فيها الليل مع أردياني , وقد بدت النهاية شبيهة بتجربة شاني الى درجة أن عينيها لمعتا بدموع لم تتساقط , وظل أندرياس فترة طويلة ينظر اليها , ثم قادها عائداً الى الحفل وأخذ يهز رأسه بتعبير يختلط فيه نفاذ الصبر بالغموض" -" شاني ... كنت رائعة!". -" رقصتما معا رقصاً بديعاً!". قالت جيني عندما جلست شاني ثم أضافت: -" أي شخص يراكما يعتقد أنكما تدربتما معاً من قبل". ثم همست: -" ليديا مضطربة , أتدرين؟ أنها تشعر بالغيرة منك". -" أذن فأنها لا تستطيع أن تكون واثقة من أندرياس". قالت شاني ذلك وهي ترمق ليديا بنظرة متعالية وتعتقد أن مما يدعو الى السرور أن تكون قطة ماكرة من قبيل التغيير , وكانت غير واعية الى أن زوجها لاحظ تصرفها , وأن هذا أدى الى ظهور تقطيبة على وجهه تعبر عن الأمعان في التفكير , وهمست جيني: -" أنني أغير رأيي بسرعة في أندرياس , أنه ليس سيئاً على الأطلاق, عندما يكون خارج العمل, لا يخطر على البال أنه يمكن أن يكون لطيفاً الى هذا الحد. ولامست شفتي شاني ابتسامة تعبر عن الأمعان في التفكير . ليت جيني رأته وهو يركب دراجة ويطوف بها في أرجاء كوز, أو وهو يعرض جسمه لأشعة الشمس, وقد أرتدى أقل ما يمكن من الثياب, أو وهو يتحدث مع صائد الأسفنج في كاليمونس , وقالت بعد فترة طويلة: -"أعتقد أن معظم الأطباء يعطون أنطباعاً خاطئاً عن أنفسهم,فهم أثناء العمل يكونون متباعدين تماماً , وقد يتصرفون بقسوة". -" أنك تتحدثين كأنك تنتحلين أعذاراً لأندرياس". -" كنت أتحدث بصفة عامة". وتوقفت شاني عن الكلام , وهي تنصت الى الموسيقى , وكانت الأسطوانات تستخدم عندما يكون عازفو الموسيقى الشعبية في الأستراحة, وأدار بتروس أسطوانة تنبعث منها موسيقى راقصة أنكليزية , ونهض وتقدم زوجان الى الحلبة, ووقف الدكتور غوردون ومد يده الى جيني وهو يقول: -" الآن يا يانيس جاء دورنا , يمكنك أن ترى الآن كيف نؤديها". وسأل يانيس شاني: -" ماذا يعني بقوله جاء دورنا ؟ أيعتقد أنني لا أستطيع آداء رقصاتكم ؟ بعد أن عشت في أنكلترا خمس سنوات؟". -" هل عشت هناك هذه المدة؟". -" خمس سنوات , وكانت تمطر طوال الوقت". -" لا , لم يحدث". -" أنت على حق, كان الثلج يتساقط بعض الوقت, عندما لا يكون هناك ضباب أو صقيع أو رياح". وكان وجهه الأسمر عليه تأثير ضحكة كبتها ثم أضاف: -" أتعتقدين أن هذا غير صحيح؟". -" أعرف أنه كذلك". وراقب الراقصين فترة قصيرة ثم قال: -" تعالي يا شاني , لا أستطيع أن أتحمل تلميحات الدكتور غوردون أنني لا يمكنني آداء رقصاتكم". واقتربا من ليديا ورفيقها أندرياس , ومن فوق رأس ليديا ألتقت عينا أندرياس بعيني زوجته, ومرة أخرى لاحظت تعبيره الغريب, وأحنى رأسه وهمس بشيء لشريكته , ودوت ضحكة مما أدى الى اتجاه نظرات عديدة اليها, وفكرت شاني ... امرأة غبية... ألا ترى أن محاولاتها تثير سخرية الجميع. لكن بعد هذه السلسلة القليلة من الأحداث أصبحت الأمسية راكدة بالنسبة الى شاني , وسخرت من الفكرة التي ترسبت في ذهن زوجها الآن بأنها تشعر بالغيرة من ليديا , ولكن لم يكن هناك شك في أن منظر الفتاة بين ذراعي أندرياس ملأ شاني بشعور اضطرت بكل أمانة أن تعترف بأنه الغيرة... لا يمكنه اطلاقاً أن يتزوجها , والواضح أنه لا يحبها , لكنه يوجه لها اهتماماً أكبر من أي الأطباء الآخرين الذين تؤدي لهم عملاً, وخاصة في الآونة الأخيرة, لعله بعدما استسلم الى أن شاني لا يمكن أن تكون له , قرر اشباع رغباته الداخلية عن طريق الأنغماس في علاقة مع امرأة أخرى؟ أن علاقة سطحية مثل هذه شيء غير عادي بالنسبة الى الرجال اليونانيين , واقتحمت أفكارها ذكرى تلك الليلة التي قضتها مع أندرياس في الفيللا , وأصبح منظر ليديا في أحضان أندرياس غير محتمل , واستبعدت ذلك قائلة لنفسها( أنه لن يفعل) ليس بعد أن أقسم ذلك اليمين...) , لكن في اللحظة التالية ذكرها أدراكها أنه بشر كما أنه يوناني بتلك العواطف الجياشة للشرقيين. وسار أثنان من البحارة في الحديقة, وقال أحدهما وقد أخذ يتمايل على أنغام الموسيقى: -" أهذا حفل؟". -" هلا انضممتمت الينا!". توقف يانيس عن الرقص ثم جذب شريكته . -" شكراً, كنا نحب أن ننضم اليكما لكن لدينا موعداً عند كليتو , فأن مجموعة من السياح ذاهبة الى هناك, وقد وعدنا كليتو بأننا سنقدم اللون المحلي لهم... لماذا لا تنضمون جميعاً الينا؟". ووافق الجميع وبعد بضع لحظات أصبحوا جميعا في السيارات , وأخذوا البحارين معهم وكان مقهى كليتو بعيداً جداً عن الفنادق الفخمة في قبرص, ولكن زيارة هذه الجزيرة كانت ضرورية في أية أجازة, فالجدران كانت بيضاء ناصعة , تعلقت عليها شباك صيد, وحتى الأنوار كانت تميل الى لون التراب, والمناضد عبارة عن براميل , زينتها الوحيدة البقع ورماد السكاير, أما الأرضية فكانت عبارة عن أحجار غير مغطاة , ومن منصة ساطعة الضوء في أحد الأركان تنبعث موسيقى البوزوكي , وفي وسط الحلبة بعض البحارة يقدمون الى السياح ما جاؤوا لمشاهدته , وكانوا يرقصون ببراعة , وقد جلس السياح حولهم يشربون ويدخنون , وهم يشعرون ببهجة بالغة من الجو المحيط بهم. وهتف رجل كهل: -" هذه هي قبرص الحقيقية... ينبغي أن نأتي الى هنا كل ليلة". وسألت سيدة كانت تجلس بجانب شاني: -"من منهم كليتو , أخبرونا بأنه أعمى". -" أجل أنه أعمى, ها هو قادم على السلم". وفي الحال ترك أحد البحارة الراقصين وذهب لمساعدة كليتو , وكان الرجل المسن يبدو سعيداً كما يشعر دائماً عندما يكون مقهاه مملوءاً بالزبائن. -" كيف أصبح أعمى؟ أخبروني بأنه ضرب في المقهى". -" أجل , كانت هناك مشاجرة". -" لكن من فعلها؟". وترددت شاني في الرد على هذا السؤال حتى قبل أن ترى نظرة يانيس المحذرة , وتحدث بالنيابة عنها: -" أننا لا نذكر ذلك, هل ترغبين في مقابلة كليتو؟". -" أجل". ونهض يانيس , وأحضر كليتو الى حيث كانوا يجلسون, وابتهج السياح بذلك, ورحب بهم الرجل المسن, وشرب الجميع نخبه وقالت له السيدة: -" الجو رائع , أردنا اللون المحلي وتحقق لنا هذا بالتأكيد". وفي أحد الأركان المظلمة جلس البحارة في تكاسل وهم غير حليقي الذقون , وتصاعد دخان السكاير, وفي أماكن أخرى ذات الضوء الخافت فتيان وفتيات يتبادلون الغزل... كان هذا كله عرضاً أعده أصدقاء كليت المخلصون ليجمعوا له المال اللازم لأجراء عملية جراحية في عينيه , لكن لم يكن هناك شك في أن قضاء أمسية عند كليتو شيء لطيف وممتع وقالت شاني لكليتو: -"لا أعتقد أن أي شخص يمكنه أن يرحل من هنا دون أن يقسم بأن يعود". -" هل ستخبرين أصدقاءك؟". -" انني أفعل دائماً؟". وكان الى جوارها رجل مسن من أقارب كليتو أسمر اللون وبلا أسنان , ويقدم مساهمته المعتادة في ألوان التسلية, حيث أدت حركاته وهو يضع كأساً فوق رأسه في توازن ,الى عاصفة مدوية من ضحك الرجال , لكنها أثارت ارتباك السيدات. سوقي... كان هذا هو التعبير الذي نطقت به ملامح ليديا , وقالت جيني بنعومة: -" أنظروا الى وجهها ... يبدو أن هذا النوع من التسلية لا يناسبها". ولم يكن كذلك, فقد تثاءبت ليديا مراراً , وفي النهاية استدارت الى أندرياس قائلة: -" ألا نذهب؟ الساعة جاوزت الواحدة". وقال الدكتور شارالامبيدز: -" المرح بدأ لتوه , وهو يستمر حتى الثالثة صباحاً". -" لا يمكنني أن أبقى الى هذه الساعة , أندرياس , هل توصلني الى البيت؟". وتردد, اذ لمح الشرر في عيني زوجته , ثم قال بنعومة : -" حسناً جداً يا ليديا, سنرحل اذا شئت , هل يريد أحد أن أوصله؟". وهز يانيس رأسه : -" ليس أنا... أنني أستمتع بما يدور حولي". وهزت جيني أيضا رأسها وقالت: -" ولا أنا..". ولم يرغب أي من الحاضرين الآخرين في توصيلة, ونطق وجه ليديا بالسعادة من فكرة مرافقة أندرياس في سيارته في ضوء القمر. وقالت شاني وهي تنهض: -" أود أن توصلني , أدركت للتو أنني مرهقة الى حد ما". وقالت لنفسها وهي تتبعهما الى السيارة: -" أجل , أنني خبيثة الليلة".
---------------------------
10– سماء بلا غيوم
لم تبق الا عشرة أيام قبل رحيل شاني الى أنكلترا, وأصبحت مستعدة تماماً, أعدت حقائبها ونقلت الى ميناء فاما غوستا لترسل من هناك على السفينة التالية الى ليفربول, واستعدت عمتها لأستقبالها, لكن خطابها تضمن عديداً من التعليقات اللاذعة عن الرجال بصفة عامة, وأندرياس بصفة خاصة, ذلك بعدما كان من الصعب جداً على شاني أن تشرح الموقف بدون أن تضع أندرياس في وضع سيء, وأكتشفت من الرد أنها لم تكن ناجحة كما اعتقدت. وكان من المعتاد أن يقيم أي من أفراد طاقم المستشفى الراحلين حفلاً, وطلبت شاني من الرئيسة الأذن لها بأن تفعل ذلك, وبدت الرئيسة مندهشة الى حد ما وهي تعتقد, أن الموقف لن يكون مريحاً سواء بالنسبة الى أندرياس أو بالنسبة الى شاني, وكانت تجلس هي وشاني في الشرفة , ورغم أن الجو كان دافئاً كانت السماء قاتمة بالغيوم منذرة بالمطر, والأمطار الغزيرة غمرت ترودوس بالفعل حيث أصبح الجو في تلك البقعة المرتفعة بارداً الى حد أن الثلج أصبح متوقعاً قبل وقته المعتاد , وبعدما أعطتها الرئيسة الأذن بأقامة حفل الوداع سألتها: -" هل ستعودين الى التمريض؟". -" فيما بعد .. نعم". -" هل سترعى عمتك الطفل؟". -" لم أطلب منها, لكن اذا لم تفعل سأضطر الى الأنتظار حتى يدخل المدرسة". -" ثم تقومين بعمل نصف الوقت بالطبع". وأومأت شاني وقد أجتذبت أهتمامها سيارة ليديا وهي توقف في موقف السيارات بجانب المستشفى, وخرجت الفتاة , وسارت بنشاط في اتجاه بيت أندرياس , ورمقت الرئيسة شاني بنظرة جانبية , مما جعل وجهها يحمر خجلاً, ولم يكن من الصعب قراءة أفكار الرئيسة , اذ كانت تراودها الأفكار القاسية أزاء أندرياس , وتظن أن شاني كانت حمقاء الى أقصى درجة وقالت: -" ينبغي أن تكتبي لي, وتدعيني أعرف أحوالك". ولم ترد شاني ... حالما تغادر الجزيرة ستقيم حياة جديدة لنفسها , وتستخدم اسم زوجها , ولا بد أن تكون هناك قطيعة كاملة , ولن يمكنها حتى أن تكتب لجيني , أفضل صديقاتها , والتمعت دموع في عينيها , وتساءلت : هل سيشعر أندرياس بالأسف لو أكتشف كيف أدى تصرفه الى قلب نظام حياتها ؟ كل ما عرفه هو أنها ستعود الى أنكلترا , ومن الطبيعي استنتاجه أنها ستعمل هناك , وفكرت . ربما يواجه أزمة خطيرة مع ضميره لو عرف الحقيقة , ولكن الأمل هو ألا يعلم بالحقيقة اطلاقاً من أجل الطفل. وبينما شاني في طريقها الى المبنى الملحق لزيارة بعض المرضى وهي في غير نوبة العمل القت- آليا- نظرة الى موقف السيارات , أصبح واضحاً الآن أن العلاقة بين أندرياس وليديا تقوى بسرعة, يظهران معاً أكثر كثيراً مما لو كانت مجرد علاقة عمل, وذلك منذ ليلة حفل الأخت غلوفر, هكذا فكرت شاني, صحيح أنها أيضا واجهت لحظة انتصار قصيرة عندما رقصت مع زوجها , لكن فوز ليديا كان الأخير , وقالت شاني: وهي تستعير بعضاً من حقد صديقتها ( لكنه لا يستطيع أن يتزوجها)... ستصاب بصدمة لو كان هذا ما تفكر فية. وكانت عمة لوسيانا في الملحق, اذ زلت قدمها فوق السلم مما أدى الى أصابة رأسها وذراعيها بجراح, لكن اصابتها لم تكن خطيرة , وكانت تستمتع تماماً بالراحة والطعام الجيد, وترف العيش لوجود من يقوم بخدمتها لأول مرة في حياتها , وكانت عجوزاً ذات بشرة متغضنة , لكن شاني وهي تقترب من فراشها رأت عينيها المعبرتين للغاية تبرقان فرحاً, وأمسكت العجوز بيد زائرتها قائلة: -" أعتقدت أنك ستذهبين بلا كلمة صغيرة معي". -" لم أكن لأفعل ذلك... أردت أن أتحدث الى الرئيسة في فترة عدم انشغالها". -" قبل أن تحضري كانت عمتي تقول أنها تود أن تقبلك". قالت لوسيانا هذا , وكانت قد وصلت في غياب شاني , وجلست على الجانب الآخر من الفراش, وتساءلت شاني بلهفة: -" لماذا؟". -" عمتي تحب جميع الأنكليز , ملكتكم ترسل لها مبلغاً من المال كل شهر , ولم تتوقف أبداً أو تتأخر عن موعدها , ولأنها تحب الأنكليز تريد أن تقبلك". وأحنت شاني رأسها وقبلت العجوز خدها,وكان وجهها مبتسماً ولكنه جاد, كان هناك عمق كبير في بعض هؤلاء السيدات المسنات , وكثيراً ما كانت شاني تتساءل أي نوع من التأثير كن سيتركنه في جزيرتهن لو أنهن كن متحررات ومتعلمات , وسألت شاني, وهي لا تزال تمسك يد العجوز: -" من قتل والدك في الحرب؟". -" كان في البحرية البريطانية , وترك لعمتي ستة أطفال, تركها وحيدة تماماً مع ستة أطفال". وفكرت شاني , وأنا أشعر بالأسف لنفسي من فكرة أن أتعهد بتربية واحد تعهداً كاملاً , واستطردت لوسيانا: -" كان أكبرهم في الثامنة , لكن والد ملكتكم أرسل لهم مبلغاً من المال لشراء الطعام والملابس , وللأنفاق على تعليمهم , وتلقى جميع أبناء عمتي تعليماً ممتازاً , وهم يعملون الآن في مناصب برواتب كبيرة , ولهذا نحب جميعاً الشعب الأنكليزي". وابتسمت شاني قائلة: -" أجل يا لوسيانا , لاحظت أنك أنت وأسرتك من بين القلة الذين عرفتهم ولا يكفون عن تذكيري (بالطرق التي أقامها البريطانيون لنا) وأنت تعرفين الأجزاء الضيقة من الطريق المسفتة, التي تدفع سائقي سياراتكم , لسوء الحظ الى اعادة السير في وسط الطريق, وفي بداية وجودنا هنا أستأجرنا , صديقي وأنا سيارة لمشاهدة شيء من جزيرتكم , وشكوت من هذه العادة, لكنني سرعان ما تعلمت كيف أصمت لأنهم كانوا يقولون لي أنها غلطتي مرددين ( أنكم أنتم الذين أقمتم الطرق لنا)". وبدا الألم على لوسيانا , وقالت: -" هذا أمر سيء للغاية". -" كان كله نابعاً من روح الدعابة , جدلك القصير مع حارس الحقول كان أقرب الى الشجار من أي شيء آخر سمعته منذ مجيئي الى هنا". -" هذا لأننا جميعا أقرباء , حتى من بعيد, والروابط العائلية قوية جداً في قبرص". ثم نهضت لوسيانا قائلة: -" أنا مضطرة للرحيل الآن يا عمتي... غدا ستأتي أمي". -" لا تنسي أن تروي حديقتي". -" سأرويها لكنها ستمطر غداً". -" ربما, لكن ريها ضروري". ثم رفعت بصرها وقالت: -" هل أنت ذاهبة أيضا أيتها الأخت؟". وردت شاني برقة: -" حان الوقت لتنامي فيللا , تحدثنا بما يكفي". وشعرت شاني بأن من بين الأشياء التي ستأسف عليها كثيراً عندما ترحل عن الجزيرة فكرة توديع أولئك المسنين الرائعين, فهم يمثلون حياة القرية البسيطة وعاداتها, ولن يأتي جيل آخر ليحل محلهم , لأن قبرص تدور في دوامة التقدم. لم تبق الا ثلاثة أيام على الرحيل, وأقامت شاني حفلها في الليلة السابقة في غرفة الجلوس الخاصة بالممرضات , وكان طبيعياً أنها لم تدع ليديا, أما أندرياس فكان فاتراً، لكنه في بعض الأحيان , كان لطيفاً وكانت عيناه تلتقيان بعينيها فتلم فيهما ذلك الشعاع الغريب الكامن في أعماقهما وهو يقدم لها بعض المرطبات , أو يجلس في الشرفة ويشترك في الحديث حيث كانت مجموعات عديدة صغيرة تجلس تحت سماء تضيئها النجوم. -" لا يبدو أن الأمطار أفادت كثيرا". وشعرت شاني بالحرج حين وجدت نفسها وحيدة مع أندرياس , وأضافت تقول: -" أعتقد أن ذلك لأن الأرض جافة الى حد كبير, فلا تستطيع الأمطار التوغل فيها". -" ولهذا نرى السيول الجارفة تغرق الطرق, وقد انهار جانب من الطريق الى فاسيليوس". وفكرت شاني, مثل هذا الحديث الجاف , وفجأة بدا الجو , مكهربا. -" بالطبع عندما يتوقف المطر تبزغ الشمس على الفور وتبدأ في تجفيف الأرض مرة أخرى , سيكون الأمر سيئاً للجزيرة لو كان الشتاء جافاً مثل العام الفائت". وشعرت شاني أن زوجها لديه شيء هام للغاية يريد أن يقوله لها لكنه لا يستطيع أن يجد الفرصة مع وجود كل هؤلاء الناس. -" ومع ذلك سقطت كمية كبيرة من الثلوج على ترودوس, ولو ظل الحال هكذا فأن المياه الناتجة عن ذوبان الثلوج ستفيد كثيراً". وانضم الدكتور غوردون اليهما, ثم جاء شخص آخر أو أثنان من غرفة الجلوس, وأطلق أندرياس تنهيدة صغيرة وبعد فترة قصيرة استأذن بالأنصراف قائلاً أن لديه عملاً يريد أن ينجزه . وفي الساعة الخامسة من صباح اليوم التالي استدعي الى نيقوسيا بصورة عاجلة , وعندما وصل الى هناك اتصل هاتفياً بلوتراس قائلاً أنه لن يعود قبل ساعة متأخرة من مساء اليوم التالي , ولم تكن شاني في نوبة عمل , ولكن الرئيسة طلبت منها أن تحمل بعض التقارير الى غرفته. ووضعتها شاني , ثم لمحت المفتاح ملقى فوق المحبرة , مفتاح الفيللا في ترودوس. سوارها... شعرت شاني فجأة بأنه من الضروري أن يكون في حوزتها هدية زوجها الوحيدة لها , الى جانب خاتمي الزواج والخطبة بالطبع. ووقفت بجانب المكتب ثم التقطت المفتاح في تردد... يمكنها أن تذهب الى الفيللا وتعود قبل أن يعود أندرياس... هناك سيارة أوتوبيس تقلع بعد نصف ساعة. كانت الطريق خالية من العقبات , لكن الثلوج السميكة تكسو الجبال, وبدأت سحب سوداء ضخمة تظهر منخفضة بشكل يهدد بالخطر عندما غادرت شاني سيارة الأوتوبيس , واتجهت نحو الطريق الضيقة التي كان أندرياس يقود سيارته فيها تلك الأمسية التي لا تنسى , وظهرت الفيللا من خلال الظلام صغيرة كئيبة منعزلة ومهجورة , وكانت مظلمة وباردة من الداخل, واجتاحت شاني رعشة وهي تسرع نحو غرفة النوم , وبعدما وضعت السوار في جيبا خرجت من الفيللا مرة أخرى, وأغلقت الباب بالقفل, وغادرت المكان بدون نظرة واحدة الى الوراء, وسقط الثلج بكميات كبيرة على الجبال الساكنة , وفي الوادي , وكان الأوتوبيس سيواصل طريقة الى برودهروموس ثم يعود, وينبغي أن تلحق به لأنه آخر أوتوبيس ذلك اليوم الذي انخفضت فيه الرؤية الى مجرد بضع ياردات... وأنبت نفسها ... لم تكن فكرة جيدة أن تأتي الى ترودوس , ومع ذلك كانت سعيدة لأنها استعادت سوارها, أن رحلة العودة ستكون مملة وبطيئة لكنها حالما تعود سالمة الى المستشفى لن تشعر بأي ندم على قرارها المتهور بالذهاب الى الفيللا. وبدأت تركض , ولكن على مسافة قصيرة من الفيللا ارتطمت قدمها بصخرة كبيرة , وفي محاولة لأستعادة توازنها اقتربت من الحافة, وفي ثوان اندفعت الى أسفل على جانب الجبل وضاعت صرختها التي بددها الثلج , وأحاط بها الظلام من كل جانب. وعندما استعادت وعيها تسللت الى أنفها روائح المستشفى وسمعت الأصوات المألوفة أيضا... المألوفة في غموض... الرئيسة... الطبيب... مونيكومو... ومن بعيد وصل اليها صوت زوجها. -"شاني" -وتوقف , ثم أضاف: -" أيتها الرئيسة, هلا تفضلت بالخروج؟". واختفى الشبح المتشح باللون الأبيض من خلال الباب... الألم... الأحساس بالضياع... وحدقت عيناها الجامدتان في هاتين العينين اللتين كانتا تنظران اليها... وبرغم كونها لا تزال تشعر بالدوار , زال التعب عنهما, تماماً مثلما زال التجهم عن فم زوجها ... ولم تلاحظ التجاعيد الصغيرة البيضاء القريبة من فكه, أو الحركة التي لم يستطع السيطرة عليها في حنجرته, وقالت بصوت أضعفه الألم: -" هل أجريت العملية يا أندرياس؟". -" أجل يا شاني! اضطررت الى ذلك. اذ لم يكن هنا أحد غيري". -" أذن فلا بد أن تكون راضياً الآن, اذ سلبتني كل ما كنت أملك". وجفل من تأثير نبرتها التي تعبر عن المرارة والأتهام, ولكنها لم تستطع مرة أخرى أن ترى هذا وأردفت: -" آمل أن تكون حصلت على المقابل كاملا لأية اساءة ربما تسببت لك فيها". لأول مرة مرة في حياتها تحدثت بطريقة ظالمة, لكنها كانت لا تزال مريضة جداً لا تستطيع حتى أن تفكر في كيف أتى أندرياس الى هنا, أو كيف نقلت هي نفسها الى مونيكوكو . الواقع أن ألمها كان حاداً الى درجة أن أندرياس اضطر الى حقنها مرة أخرى, وبعد دقائق لم تعد تدري بأي شيء حولها. وفي المرة التالية فتحت عينيها كانت في مستشفى لوتراس, وكان باب جناحها الخاص مفتوحاً , ووصلت الى مسامعها أصوات من الخارج. -" الأخت ريفز هنا , أخبروني بذلك". هذا صوت ليديا , لا بد أنها وصلت للتو. -" أجل , كانت الشوارع خالية من العقبات , ولذلك أحضروها في سيارة اسعاف صباح اليوم". -" أندرياس , هل ما سمعته صحيح؟ سمعت أثنين من الممرضات تتحدثان عن طفل". -" لسوء الحظ ! أنها فقدت الطفل". -" لسوء الحظ! أعتقد أنها سعيدة جداً . يا له من أمر مثير للأشمئزاز لكنني كنت دائماً أعتقد أنها من ذلك الصنف". وجاءت المقاطعة ناعمة: -" شاني هي زوجتي , والطفل كان ابني". وهتفت ليديا: -" زوجتك؟". -" أجل يا ليديا زوجتي, والآن , عن أذنك , يجب أن أذهب اليها فقد بدأت تستفيق". وأغلق أندرياس الباب, وتقدم ببطء نحو الفراش, وشعرت شاني بيده الباردة فوق جبينها قبل أن يسحب كرسياً ويجلس , وكان وجهه مرهقاً لكنه ليس كئيباً ولا منهكاً كما كان في آخر مرة. -" كيف تشعرين الآن؟". -" أفضل كثيراً, زال الألم". ومرت لحظة صمت شابها الأرتباك , ثم أضافت: -" شكرا لك يا أندرياس , أنقذت حياتي على ما أعتقد , ثم لم أكن أقصد تلك الأشياء الفظيعة التي قلتها هناك . سامحني". -" ليس هناك ما يدعو للغفران يا عزيزتي, كنت ضعيفة جداً في الواقع ساعات بعد العملية". وسرت في جسمه رعشة لكنه أضاف مبتسماً: -" ومع ذلك ستتقدمين تقدماً طيباً الآن, وسنجعلك تستردين صحتك في وقت قصير جداً". كان صوته منخفضاً , ورقيقاً , وأخذ بيدها وهو متردد وكأنه خائفاً من توجيه السؤال الذي كان يتأرجح على شفتيه, لكنه سألها في الحال , وكانت لهجته , للغرابة تتسم بالثقة: -" أتحبينني يا شاني؟". -" أجل يا أندرياس , أحبك, هل عرفت أنت ذلك؟". -" أعتقدت أنني عرفت منذ فترة , أثناء تلك النوبة القصيرة من الغضب التي انتابتك في غرفة العمليات , اذ كان في امكاني أن أقسم بأنك تشعرين بالغيرة من ليديا , لكنك بددت ذلك الوهم عندما أجبت على سؤالي عن براين ... لماذا كذبت؟". -" كنت خائفة جداً أن تشك بوجود طفل في أحشائي , ولم أكن أريد أن تأخذه مني ... أقصد تشاركني اياه , اذ لم يكن من مصلحة الطفل أن ينشأ وهو يدين بالولاء لأثنين متباعدين". كانت على وشك أن تسأل كيف عثروا عليها لكن أندرياس مضى في حديثه: -" وهكذا تركتني أعتقد أنك ما زلت تحبين براين... لماذا يا عزيزتي لم تكن لديك الشجاعة لتخبريني؟". أمتلأ قلب شاني بفرح جديد برغم فقدها الطفل , وشرحت له الأمر فظهر على وجهه تعبير الندم, ثم قال: -" كانت كبرياء حمقاء تلك التي جعلتني أقول أنني فقدت اهتمامي بك, شعرت بمرارة , اعتقاداً بأنك وافقت على تهديدات براين , وماذا زلت تفضلينه , بعد اجازتنا الرائعة في كوز, لو أنك أخبرتني عن الطفل, لماذا لم تفعلي؟". -" أعتقدت أن البديل الذي ستقدمه لي هو الحياة معك من أجل الطفل فقط". ونظرت اليه وقد أمتلأت عيناها بالدموع: -" لم يكن في استطاعتي أن أفعل ذلك بعدما أحببتك كما أحببتك , وأعتقدت أنني لو رفضت العيش معك فستصر على أن تأخذ الطفل مني ... بعض الوقت". وفرت دمعة من عينيها وأضافت: -" أكدت أنك فقدت الأهتمام بي , و ... قلت أنك لا تريد أن تراني ثانية ... أعتقدت أنك تعني هذا , وأعتقدت أنني أكتشفت مشاعري بعد فوات الأوان". -" لا تبكي يا حبيبتي الصغيرة , هل أنت متعبة؟ أتريدين أن تستريحي؟". وهزت رأسها , وانحنى لكي يقبلها , ثم جفف دموعها ومضى يقول: -"كان خطأ مني أن أقول ذلك, لكنني ظننت في ذلك الوقت أنني لم أعد أحتمل أكثر مما تحملته وشعرت بأنني لن أرغب اطلاقاً في رؤيتك ثانية, لأنه بهذه الطريقة فقط يمكنني أن أبدأ بالنسيان , لكنني عرفت أنني لن أستطيع أن أنساك, ومع ذلك تفوهت بتلك الكلمات القاسية , ثم واصلت محاولاتي لأن أثير غيرتك معتقداً أنني سأنجح في النهاية , وبذلت محاولة لأتحدث اليك في حفل الوداع لكن لم تكن لدي فرصة". وقاطعته قائلة: -" أعتقدت أنك تريد أن تقول لي شيئاً ... لماذا لم تفعل؟". -" كان هناك عدد كبير من الناس , وخيل الي أننا سنتحدث في اليوم التالي , لكنني ستدعيت الى نيقوسيا , وعقب عودتي مبكراً عما توقعت أرسلت في طلبك , وقالت الرئيسة أنك لا بد أن تكوني رحلت مبكرة لأن آخر مرة رأتك فيها كانت عندما طلبت منك أن تضعي بعض التقارير على مكتبي , ولم أشعر بالأنزعاج حتى افتقدت المفاتيح فجأة ... كان هناك سبب واحد لذهابك الى الفيللا وهو استعادة سوارك , وكانت مشاعري مضطربة جداً حينئذ , وشعرت بأن ذلك يعني أنك تهتمين بي ولكن من ناحية أخرى كنت قلقاً للغاية من فكرة ذهابك وحدك الى ترودوس في ذلك الطقس, ثم علمت أن الأوتوبيسات توقفت عن السير وقررت أن أستقل سيارتي الى الفيللا". -" في تلك العاصفة الثلجية؟". -" أعتقدت أني لن أجد اسوأ من وجودك حبيسة هناك , دون طعام , ولكن...". وتوقف وهو عاجز عن الأستمرار في الكلام لحظة , ثم أردف: -" لم تكوني في الفيللا, وكنت خائفاً... لأول مرة في حياتي, وعندما رأيتك على ضوء المصابيح الأمامية للسيارة هناك الى جانب تلك الشجرة التي أنقذت حياتك , اذ منعت سقوطك... كان من الممكن أن تدفني وسط الثلوج, لكن الشجرة أنقذتك مرة أخرى , ونقلتك الى مونيكومو , هناك تلقيت صدمة أخرى". ونظر اليها في حزن ومضى يقول: -" اضطررت لأجراء العملية يا شاني العزيزة... تفهمين بالطبع". وأمتلأت نفسها ندماً على الكلمات التي تفوهت بها حالما استعادت وعيها, كم عانى زوجها وهو يجري العملية فقط لأنه ليس هناك غيره, وناضل من أجل أنقاذ حياتها كما ناضل من أنقاذ حياة الكثيرين, كم كان رقيقاً! لم يكن على الأطلاق مثل الوحش الذي بدا ليلة هربت منه, ولا الرجل الذي أخافها كثيراً بتصرفاته المعبرة عن الرغبة في التملك, وهمست: -" كن حمقاء منذ البداية , والآن أتمنى من كل قلبي لو بقيت ". -" كانت غلطتي , بدأت بداية خاطئة تماماً, لكنني قصدت أن أكون رقيقاً معك, محباً حتى تدركي مشاعري ازاءك , ومتى شعرت بذلك ستكونين كريمة , وستبقين معي, برغم أنك لا تحبينني". -" كان هذا ما قصدته عندما قلت أنني لو بقيت معك ليلة واحدة فسأبقى للأبد ... ولكن حينئذ...". -" كنت صغيرة جداً يا حبيبتي , كان ينبغي أن أفهم بوصفي طبيباً". وجلسا برهة في صمت, ثم قالت شاني: -" أندرياس , أنا لم أوافق على ما فعله براين , في الواقع لم تكن لدي فكرة عن نواياه , وكنت قد قررت بالفعل أن أنفصل عنه قبل أن يهددك وأدركت بعد الأجازة أنني لا أستطيع اطلاقاً أن أتزوج براين, ولو أنني حتى في ذلك الوقت كنت مضطربة للغاية بشأن مشاعري أزاءك , لكنني سرعان ما عرفت بصدق , وبعد ذلك كنت قلقة بشأن الطفل...". وقاطعها وهو ينظر اليها بلهفة: -" ألم تشعري بالأستياء مما فعلت؟". -" لا لأنني كنت أعرف حينئذ أنك أنت هو الشخص الذي أريده ... ليس بالعقل الواعي, ولكن ذلك كان مترسباً بداخلي دائماً". -" وجئت لتخبريني... عندما قلت لك أنني لا أريد أن أراك ثانية أبداً؟". وأومأت وهي تواقة الى التغاضي عن ذلك الموقف , لكنه أضاف وقد ازدادت عيناه سوادا من الندم: -" يؤلمني أن أتصور أنني تسببت في ألمك , بينما كان كل ما أريده هو أن أحبك وأعنى بك". ثم أطلق تنهيدة عميقة وقال: -" كما قلت ظللت أحاول, وفي حفل الأخت غلوفر تلك الليلة , اقتنعت بأنك تغارين من ليديا , ولذلك أظهرت لها قدراً من الأهتمام أكبر من المعتاد". -" أظهرت لها الأهتمام قبل فترة طويلة من حفل الأخت غلوفر, وفعلاً كنت غيورة برغم أنني أنا نفسي لم أكن أعرف ذلك , كانت دائماً في بيتك , وكنت لطيفاً معها في ذلك اليوم في غرفة العمليات , وصدمتني بطلبك أن أخرج, بل أنك اقترحت حينئذ أن أعتذر لها!". وضحكت لكنها مضت تقول أنه بدا وكأنه يهتم بليديا فرد قائلاً: -" لم يكن هناك شيء من هذا , كانت تؤدي بعض الأعمال لي , على آلتي الكاتبة , ولذلك جاءت مرات الى بيتي , كما تناولت أنا طعام العشاء في منزلها لأنني وجدت أبويها جذابين , وفي يوم الحفل طلبت مني أن أوصلها ووافقت لأنه كان من عدم اللياقة أن أرفض". وابتسم لها في رقة ثم قال: -"كنت أنت دائماً فتاتي منذ ارتطمت بي ووقعت بين ذراعي وتطلعت الي بهاتين العينين الجميلتين ... أحببتك منذ النظرة الآولى". -" أبي وقع في حب أمي من النظرة الأولى , وكان يقول أن الشيء نفسه سيحدث معي...". ثم أضافت في نبرة أسف: -" كنت حمقاء للغاية منذ البداية". -" لا , كنت أنا أنانياً , أنني أدرك ذلك الآن ... لكنني ليلة هربت مني أدركت أنني يجب أن أتركك حتى تنضجي وتستمتعي بحياة العزوبية قبل أن تستقري في الحياة الزوجية , وقررت البحث عنك فيما بعد عندما تصبحين أكثر نضجاً... جئت الى هنا بنية التود اليك , كما تحب الفتيات الأنكليزيات أن يتودد اليهن الشبان , ولهذا قبلت هذا المنصب لمدة عام الا أنك طلبت حريتك على الفور حتى يمكنك أن تتزوجي شخصاً آخر, وتحطمت آمالي لأن فكرة تعلقك بشخص آخر لم تطرأ على بالي اطلاقاً ... وأعتقد أن هذا كان غروراً ". -" لا يا أندرياس, كان طبيعياً أن تتوقع أنني سأظل وحدي لأنك أنت نفسك لم تفكر اطلاقاً في الأرتباط بأنسانة أخرى ". -" لست ملومة في أي شيء يا شاني , كان ينبغي أن أخبرك عندما كنا سعيدين في كوز , بأنني أحببتك ... كان هذا سيوفر علينا قدراً كبيراً من الألم ". -" لكنك لم تفعل بسبب براين, أعتقدت أنني ما زلت أهتم به". ما زالت شاني تعتقد أن اللوم يقع عليها ... كان ينبغي لها أن تعرف , عندما لمست رقة زوجها ورعايته, أن دافعه هو الحب وليس مجرد الرغبة , وكانت تلك الأجازة فرصة لها لتكتشف حقيقة أندرياس , ولم تنتهزها , وأضافت : -" في وقت من الأوقات شعرت بأنك تدبر شيئا...". -" أدبر شيئاً". -" شعرت بأنك تود الوصول الى طريقة لمنع الغاء الزواج , حتى لو كان المحامي على حق . هل ... أقصد...؟". ولم تستطع أن تصوغ سؤالها فساعدها أندرياس : -" تساءلت اذا كنت قصدت من البداية أن أجعل الغاء الزواج مستحيلاً؟ أتتني الفكرة مبكراً لكن كما قلت لم تكن تلك الطريقة التي أردتها , اذ كان الأمل يراودني في أن أتي الي بمحض أرادتك , ولك بعد تلك التهديدات , قررت وضع حد لفكرة أنهاء زواجنا". وارتعشت شفتاها, ولاحظ زوجها وتفهم الأمر وأضاف: -" أنك متعبة ... والآن يمكنك أن تنعمي بفترة راحة طويلة". ثم وضع ذراعها تحت الأغطية التي جذبها تحت ذقنها وقال: -" هل ستنامين أم أعطيك شيئاً؟". -" سأنام ... وأنت يا عزيزي هل نمت على الأطلاق منذ ليلة أمس؟". وأخبرها بأنها ظلت غائبة عن الوعي أربعاً وعشرين ساعة, وبعد ذلك بدأ بأعطائها الأدوية المهدئة. -" لم أكن أريد أن أحضرك بعد, لكن التنبؤات الجوية ساعدتني في اتخاذ القرار ... اذ كانت الثلوج ستسد الطريق". -" مررت بوقت طويل قلق وسأعوضك عن كل ما عانيته يا أندرياس". -" عوضتني فعلا بأنك أحببتني". وانحنى ليقبلها قبلة اتسمت بالأجلال الى حد كبير, وعندما اعتدل سألته: -" متى سأغادر الفراش؟". -" قريباً جداً ... سنقضي معاً ميلاداً رائعاً". -" كيف تبدو كوز في هذا الوقت؟". -" لن تسافري يا حبيبتي". -" ألم تقل أنه مكان رائع لقضاء شهر العسل". -" لن يكون هناك شهر عسل حتى يسمح طبيبك لك بذلك".
* * *
كان الربيع قد هبت نسائمه على جزيرة كوز الجميلة عندما وقفا معا فوق مرتفعات أسكلبيون , وقد توردت وجنتا شاني بالصحة, وبرقت عيناها بوميض متلألىء , ومن كل مكان حولهما كانت تهب النسمات محملة برائحة الأزهار بينما أشجار السرو تتمايل برشاقة , والشمس تسطع في سماء ايجة الخالية من السحب. ورفعت شاني عينيها الوالهتين الى وجه زوجها , فأخذ بيدها بين يديه مبتسماً.
تــمت
ليست هناك تعليقات